صفحات الرأي

لعنة الأصل ومعرفة الغرب/ رشيد بوطيب

 

 

يقف المراقب النقدي داخل الثقافة العربية على نفور من الاتجاهات الفكرية الغربية، وعلى محاكمة غير عادلة لمن دافع عن تلك الاتجاهات داخل الفكر العربي، بدعوى أنها اتجاهات دخيلة، أو كما يكتب مفكر عربي معاصر، لأنها في نظره «ظلّت سجينة أطرها المرجعية الأصلية، وتحوّلت إلى أيديولوجيا تكرّس اللاعقل، في الوقت الذي لا تكفّ عن ادعائه، وتثبت التواكل فيما لا تتوقف عن القول بالحرية والفعالية». هكذا، وبجرة قلم، ومن دون مناقشة حقيقية لهذه الاتجاهات.

والأدهى، أن ذلك كلّه يتم في كتاب يتناول النقد الفلسفي المعاصر، فيتم تبخيس دورها التنويري داخل الثقافة العربية المعاصرة ومساهمتها في خلق حراك فكري وطرح أسئلة ظلّت مكبوتة ومسكوتاً عنها، بل وفي خلق تعدّد في الرؤى لم نحسن إلى يومنا هذا التعامل معه والاستفادة منه. ويكفي أن أذكر هنا تيارات فكرية مثل الشخصانية والوجودية والتفكيكية. إن مشكل هذا التفكير الذي يريد أن يفرض وصاية على ما نأخذه ولا نأخذه من الغرب، هو أنه ما زال يعتقد بتلك الكذبة الميتافيزيقية الكبرى التي يسميها بـ «داخل» الثقافة، ويؤمن بشعارات من قبيل الاستقلال الفكري ويغفل أهمية التقليد في المغامرة الإنسانية، وهو يمارسه كوفاء باثولوجي للأموات وليس كانفتاح وقدرة على التعلّم من إنجازات الحداثة. فكيف نفسّر إحجام مفكر كالجابري عن دراسة الشخصانية مثلاً، في «الخطاب العربي المعاصر»، بدعوى أنها لا تنتمي إلى هذا الخطاب، كما لو أن صاحبها كان يكتب عن حضارات الأنكا والأزتيك وليس عن أنثروبولوجيا إسلامية، أو صمت العروي عن مناقشتها واكتفاءه بذكر اسم صاحبها عرضاً، كما لو أنه لا اسم ولا فكر له، أو أن يؤلف كاتب أقل شأناً، كتاباً عن الفكر المغربي من دون أن يعرّج على «الشخصانية الإسلامية» الذي يمكن اعتباره الكتاب الفلسفي الوحيد، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، داخل الثقافة المغاربية المعاصرة؟

إن نقد الحداثة يبدأ بتمثّلها، بترجمتها، بالانفتاح غير المشروط على أسئلتها التي تظلّ أسئلة كونية، أردنا ذلك أم لم نرد، والتي لا يمكننا كشعوب تعيش على هامش الحداثة، سوقاً لصناعتها ومسرحاً لحروبها وتجاربها، أن نغفل طرحها. «إن تخلّف الوعي عن الواقع» كما لاحظ العروي في «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»، يجب فهمه خصوصاً كتخلّف عن فهم الحداثة وضياعنا وتمزّقنا في أتون ثنائيات ميتافيزيقية من قبيل الأصالة والمعاصرة، فلا وجود لأصل إلا في الفكر الميتافيزيقي، تعبيراً عن وعي مجثت. فالأصالة لا يمكنها أن تكون، لمن طلب لقاء العالم، سوى تاريخية.

إن رفض الحداثة وقيمها أو التأرجح بين نقد ثالثي عفى عليه الزمن، يعتبر الحداثة شراً مطلقاً، وبين نكوص تاريخي يبحث عن مستقبله في ماضيه، من شأنه أن يضمد جرحنا النرجسي قليلاً، لكنه يؤبد من حيث لا نشعر السلطة القائمة وانسحابنا من الواقع.إنني لا أفهم الحداثة كمطلق ميتافيزيقي ولكني أقول إن الحداثة هي روحها النقدية التي تعاني الأمرين اليوم داخل النظام الرأسمالي نفسه.

إن من يبحث عن ثقافة تخرج من «جوف الأمة»، يتوجب عليه أن لا ينسى أو يتناسى أن هذا الجوف أخرج الكثير من الكوارث والأمراض، فمنه خرج الاستبداد الشرقي اللعين، ومنه خرج التطرف الديني والتخلّف الحضاري، وكل السحرة والمشعوذين اللذين يصنعون وعي الشعب اليوم أو لا وعيه. ومن يفهم الثقافة كمشروع للوحدة القومية، يغفل أن الثقافة لا هوية لها، أن هويتها أسئلتها وأن الوحدة المنشودة التي حلم بها العرب وسكروا بالتغنّي بها، هي من قادتنا اليوم إلى القبيلة والطائفية والداعشية، وإلى هذه المذهبية البغيضة التي تحكم خطابنا السياسي والثقافي والديني. إن مقولات من قبيل الاستقلال الثقافي والاختراق الثقافي، تظلّ مقولات أيديولوجية جوفاء، معفرة بالبصاق الأسود للجوف الذي خرجت منه، تحجب عنا واقع أننا نعيش في عالم وليس في قبيلة، وتؤبد من حيث لا نشعر تبعيّتنا غير الواعية للنظام العالمي، تحوّلنا إلى موضوع للتاريخ… وربما إلى صندوق قمامة كبير.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى