صفحات سورية

لعيون علي


نزار حمود

كان اسمه حينها علي … أما اليوم فقد بات نبضة ً ضعيفة في ذاكرة كل من يهمه الوطن السوري. بات حفنة تراب في مكان منسي ما من هذا الوطن.

درس علي في ألمانيا وحصل على أعلى شهادة أكاديمية فيها ثم عاد ليدرس في جامعات الوطن وكان أن اختار. أو كان أن اختارته. جامعة تشرين في اللاذقية.

في يوم كالح من أيام القهر … زار الجامعة رئيس رابطة خريجي الدراسات العليا “الدكتور” “المناضل” رفعت الأسد فرفض علي ٌ أن يخرج لاستقباله مصرحا ً أمام المئات من طلابه أنه يرفض أن تخرج أساتذة الجامعة قطعانا ً وزرافات لاستقبال عرفاء الجيش ورتباءه! عوقب علي على وقاحته هذه بأن فـُصل من عمله وحـُرم من لقمة عيشه. اعتكف علي على تحصيل خبزه من مردود زيتوناته القليلات في قريته الساحلية الغافية في حضن الجبل والمتطلعة بشوق لأفق البحر … ولم يكن مستغربا ً أبدا ً أن يكون من أوائل٬ أو ربما أول٬ من زرع الزيتون في شارعه كي يساعد بلدية اللاذقية على تجميل الشوارع بهذه الشجرة المقدسة.

دُعي علي إلى وليمة أقامها له طلابه القدامى لمعرفة رأيه بشأن احتمالية تولي بشار الأسد السلطة في سوريا بعد وفاة ولي العهد البكر الباسل! وكان من ضمن هؤلاء يهوذا واحد جاهز ومجهز بقلم مسنون وورق قاطع .. فكان عشاءً أخيرا ً آخر. عند السؤال عن رأيه بمدى صلاحية هذا الشاب الأكاديمي لهذه المسؤولية أجاب علي بصدق نبي ونقاء نقطة ماء : أعتقد أنه لايصلح لتولي مسؤولية رعاية عنزتين في جبل أجرد فما بالك بقيادة بلد مثل سوريا !

سجن علي مع أمراضه وعلبة سجائره في أحد أقبية المخابرات وعند التحقيق سأله المحقق حول صدق ماقال بشأن “الدكتور” بشار فأجابه بصفاء وحرارة شمس صيف : وهل لكم … يا سيادة العقيد رأي أخر ؟؟

قضى علي فترة عقوبة طويلة خرج بعدها مثقلا ً بقلب عليل وذكريات مسمومة ليقضي مابقي من أيامه القليلة بين زيتوناته المهجورات وبيته المقفر إلا من كتب غطت الجدران والطاولات.

في يوم صيف آخر … قرر علي أن يغادر الوطن ويهاجر إلى ترابه ليعود كما كان دائما ً روحا ً صافية ً وقلبا ً محبا ً للجميع.

يقول بريخت في مسرحية جاليليه : ماأتعس الوطن الذي يتوجب عليك به أن تكون بطلا ً كي تقول كلمة حق!

في لحظات المخاض الدموي الذي تمر به سوريا اليوم وفي لحظات ترددها الممض بين سكرات الموت وشهوة الحياة. أجد مناسبا ً أن أذكر بعلي الذي خرج من القوالب والهويات الاجتماعية القاتلة ودخل في سوريا العادلة الجامعة راضيا ً بدفع الثمن عن طيب خاطر.

 لذكرى عيون علي ودخان سجائره وسعاله العميق المؤلم أقدم عميق احترامي !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى