صفحات الرأي

لفتنة بخير… طمنونا عنكم !

    امين قمورية

تحيا الفتنة. فهي الأقوى، والأفعل، والأكثر قدرة على النمو والحياة والتحوّل مارداً. لقد أثبتت علو كعبها وتمكنت من سحق كل أعدائها: التسامح، التعايش، المحبة، الأخوة، الديموقراطية.

لا تحاربوها فهي أشد دهاء منكم. لقد فرضت نفسها مادة إلزامية في كل أنماط عيشكم: في البيت، في المدرسة، في الجامعة، في المسكن، في العمل، على الشاشة. من لا يتقن فنونها التعبوية والتحريضية لا يمكنه اجتياز امتحانات السياسة من المحيط الى الخليج. صار اشتعالها ضرورة لا بد منها لتعبئة أحزاب وبناء زعامات. ومن لا يعرف مفرداتها ولغتها لا مكان له في الخريطة السياسية ولا مقام.

لا تلجأوا الى المضادات الحيوية، ولا إلى الحلول المبتورة، ولا الى العلاجات الموضعية، فهي لن تفلح في لجم تغلغلها السريع والفتاك في الاجسام المريضة والمتهالكة. هي في اتم الصحة والعافية وفي ذروة الارتياح الى اوضاعها، تنهش اجساد اوطان باكملها من العراق والبحرين الى سوريا ولبنان بلا خوف ولا قلق.

 اعتقدنا بعد ثورات الربيع انها ابتعدت قليلا برحيل نصف دزينة من عتاة الديكتاتوريين، كنا نظن انهم أسيادها ومدبروها وطابخو سمّها، فاذا بهم هم أنفسهم أوائل من سقط بسمها، واذا بها حاضرة ابدا متجذرة في هذه التربة، أُحسن زرعها بعناية ورعايتها وُمدّت بكل المقويات الضرورية، وتغذت بالشحن اللازم. وعند ضربة كف أولى، عادت بزخم وعدنا معها 15 قرناً إلى الوراء إلى ايام ابو موسى الاشعري.

ثقابها موجود، وهشيمها يملأ الارض، ولغتها حاضرة : تكفيري يحارب تخوينيا والعكس صحيح، وما الفارق بينهما؟

أحدهما يتلطى بالدين والثاني يتدثر بالوطنية، والاثنان متساو بسلاطة اللسان والقدرة على كيل التهم وايجاد الحجج والذرائع، كلاهما يقسم العالم “فسطاطين”، هو الخير المطلق وخصمه الشر المستطير. هذا يلغي بالقتل وبالاعدام من يخالفه الرأي وذاك يقصيه بقوة السلاح والشعارات الرنانة. يتغنون بالبطولات والانتصارات التي تسجل في الازقة الداخلية والقرى والمزارع وعلى رؤوس البسطاء الآمنين، بينما يرتاح في الارض المغتصبة الاعداء الحقيقيون. نسمع خطابهم الموتور والمتشنج، فلا نفهم شيئا. نستمع الى تبريراتهم، نشمئز. نتطلع الى بارقة أمل، لكننا لا نحصل منهم الا على وعدنا بالاكفان و”الشهادة”، فكيف يستوي في الجنة الواحدة هذا مع ذاك، وأي منهما سيحظى بحور العين واللبن والعسل؟

رويدا رويدا، يسحبنا تيار الفتنة الى أعماقه، الى الحضيض، الى الدم المباح، ولا احد يسأل والكل مستسلم. منطقها صار السيد المستبد والمتحكم بمنطق الطوائف والناطقين باسمها.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى