بشير البكرصبحي حديديصفحات مميزة

لقاء الأسد الأخير مع القناة الفرنسية –مموعة مقالات-

بوجداس وقد زار طبيب عيونه/ روجيه عوطة

لا حاجة لقطع السرور بالتساؤل ما دامت كل المقابلات مع الدكتاتور مكررة

صعد دايفيد بوجداس إلى الطائرة نحو بيروت، ومنها، في سيارة، إلى دمشق. على الطريق، رأى كل شيء “طبيعياً”، لا سيما الحواجز العسكرية. سمع دوي القصف وانفجاراته. غضّ سمعه، فهو لا يريد أن يُنغّص فرحه. المهم أن يكون على موعده. ألا يتأخر عن سبقه الصحافي، الذي بلغه الكثيرون من زملائه قبله.

لكن، لا حاجة الآن إلى قطع السرور بالتساؤل. لا حاجة، ما دامت كل المقابلات مع الديكتاتور، حتى لو جاء مضمونها مكرراً، هي مقابلات حصرية، مثلما أنها حاضرة.

لم يكترث بوجداس لذلك. لا يعير اهتمامه سوى للإستعجال الذي يساوي “اختيار” القاتل له ولقناته الحكومية، “فرانس 2”. بشار الأسد “اختار”، لا يزال بمقدوره أن يختار محاوِره الإعلامي بعد أربع سنوات من قتل الناس، أما بوجداس فلم يتأخر طبعاً. خيار “رئيس الدولة السورية” نفى تأخر الصحافي الفرنسي، إلا أنه لم يسعفه مطولاً. فحين وصل بوجداس إلى قصر مقابلته، مُنع من فتح صندوق السيارة، التي أقلّته وفريقه، إذ من الأفضل أن يستخدم معدات التصوير والتسجيل البعثية، وهذا على الأغلب ما حصل. لكن، الصحافي لا يمكنه أن يطل على الشاشة بلا أن يظهر وجهه نضراً.. كما لا يمكنه أن يتخلى عن عدساته اللاصقة.

المكياج والعدسات في حقيبة صغيرة. حرمه جهاز الأمن الأسدي من فتحها، فما كان منه سوى أن جادل وناقش، علّه يفوز بها، وهذا بالفعل ما جرى. طلى وجهه بمساحيق المكياج ليقابل وجه القاتل ويلائمه أمام الكاميرا. ألصق عدساته بعينيه كي يدخل إلى عيادة طبيب العيون، ويكون مرةً مريضه، ومرةً العكس. على عادة الإعلاميين وقنواتهم الأوروبية والأميركية، التي يختارها بشار الأسد كي يحاورها، واظب بوجداس على سؤال واحد، احتوته الإستفهامات التي طرحها على طبيبه: “هل أنت ديكتاتور؟ هل أنت قاتل؟”. لم ينتظر الإجابة، غير أنه سمعها بدقة، اهتم بها، وأخذها على محمل “الحياد”، وربما على محمل “الحق في التعبير”. فقد ترك الأسد يتكلم على منواله الإنكاري، مردداً أنه لا يعرف شيئاً عن البراميل المتفجرة، ولا عن غاز الكلور، ولا عن المجازر. فكل ما يعلمه أنه، منذ آذار 2011، يكافح الإرهابيين، وأنه بمثابة تحالف دولي أكثر من “التحالف الدولي” نفسه.

عندها، قرر الصحافي أن يستعمل ركائز المقابلة كي يحث الطبيب على الإقرار بمشكلته، فرفع أمامه صور القتل والدمار والبراميل: “أنظر، أنظر، ما هذا؟ تذكر، تذكر، من قتل جيل جاكييه؟”. وعلى الرغم من ذلك، باءت محاولته بالفشل.

في الواقع، هناك ضرب من السذاجة في كل مقابلة مع بشار الأسد. سذاجة خبيثة تحديداً. لأن غالباً ما يكون صاحبها، وقبله قناته أو جريدته، مسروراً بالسبق الصحافي. ومن ناحية أخرى، لا شك أن الانفتاح الإعلامي التدريجي على ديكتاتور “قصر المهاجرين” يندرج في سياق التمهيد لإعلان الحوار الدولي معه، بوصفه “مكافحاً للإرهاب”، وباعتباره يحاكي بـ”أبده” أبد الأنظمة العالمية، والديموقراطية على رأسها.

فكما اختار قناة “فرانس 2″، وأتاح لأحد نجومها مقابلته، مشترطاً عليه الإلتزام بوقت معين، يقول، خلال الحديث المُصوّر معه، أنه جاهز لمحاورة أي دولة أو نظام، موجباً إياه بتغيير سياسته اتجاهه.

في كل حال، إذا كان بوجداس يفترض أن استفهاماته ستوقع الأسد في فخها وتدفعه إلى التصريح بـ”نعم أنا قاتل، وجيشي يرتكب المجازر الكيماوية والكلورية، ويستعمل البراميل المتفجرة…”،  لو أنه يفترض ذلك، فهذا ينم عن افتقار للحنكة الصحافية. ولو أنه لا يفترض ذلك، فهذا ينم عن دهاءٍ سلبي، غايته تظهير إنكار الأسد كجزء من “حقيقة” الأحداث في سوريا.

أما، إذا كان صحافي “فرانس 2″ معولاً على إجابة من نوع آخر، تؤكد المؤكد قبل أن يفصح عنها فاعلها، ففي هذه الحالة، يؤدي دور الطبيب، الذي يريد أن يدفع مريضه إلى الإقرار بمشكلته كي يتعرف هو ذاته عليها. دايفيد بوجداس، ومعه الإعلاميون وفضائياتهم اللاهثة وراء مقابلة القاتل، مرضى طبيب العيون وأطباؤه في الوقت عينه. وهذا ما يشير إليه استفهامان طرحهما الصحافي على الأسد. أولهما، حول الرسالة التي يوجهها إلى فرنسوا هولاند. وثانيهما، حول وصفه بـ”الجزار” فرنسياً.

لم يقع بوجداس في شرك بشار الأسد، بحيث أنه وجد في مقابلته الصحافية فعلاً مهنياً فقط. فالديكتاتور البعثي، بحسبه، يدرك كيف يتعامل مع الوسائل الإعلامية في “الغرب”، إذ أنه لا يطّلع على الأسئلة قبل أن تطرحها عليه. وهو، بذلك، قريب منها، كما أنه قريب من أنظمتها ودولها لدرجة أنها تعتبر نفيه للقتل إحتمالَ حقيقة.

وهنا، من الممكن اختصار اللقاء بسؤالين وإجابتين، “هل أنت قاتل؟ -لا”، “إذاً، فأنت مستعد للحوار؟-نعم بشروطي كطبيب لا كمريض”.

بعد ذلك، أنهى بوجداس مقابلته، صعد في السيارة إلى بيروت، ومنها، في الطائرة، إلى باريس. لم ينظر من النافذة إلى البحر تحته، لم ينظر إلى أجساد السوريين التي تتلاطمها الأمواج خلال هروبها من نظام “البعث”. نظر ولم يرَ، لأنه لا يريد أن يرى. فهو يضع عدساته اللاصقة حين يرغب إعلامه في تحويل الإنكار إلى “موضوعية مهنية”.

هذا ما نصح به طبيب العيون على مدى سنوات أربع، وهذا ما دأب الإعلام على فعله: وضع العيون ليراها طبيبها، ونزعها أمام قتلاه.

المدن

 

 

 

الغرب واستخبارات النظام السوري: ذلك القران العتيق!/ صبحي حديدي

تجاهلت وزارة الخارجية الفرنسية رسالة إلكترونية من وكالة أنباء «رويترز»، تستفسر عن حقيقة تصريح بشار الأسد، في حوار مع القناة الثانية (الحكومية) الفرنسية، حول وجود «صلات» بين أجهزة استخبارات فرنسية وأخرى تابعة للنظام السوري. ورغم أن الأسد حرص على نفي «التعاون» بين هذه الأجهزة، أو حتى «تبادل معلومات»، فإنّ مجرّد التواصل إذا صحّ ـ ولا سبب يدعو إلى الطعن في صحته، لاعتبارات عديدة بينها سوابق قديمة وحديثة العهد ـ ألهب مخيّلة المحاوِر، دافيد بوجاداس، أثناء المقابلة، كما أطلق العنان للألسنة والأقلام في وسائل الإعلام الفرنسية. تناسى الكثيرون هوية الأسد، وريث أبيه، و45 سنة من تراث «الحركة التصحيحية» في ملفات الاستبداد والفساد، وارتكاب شتى جرائم الحرب، وتدمير سوريا، وقتل مئات الآلاف من السوريين، واغتصاب النساء، وتعذيب المعتقلين حتى الموت، وتشريد الملايين، واستخدام مختلف الأسلحة الفتاكة، بما في ذلك تلك الكيميائية… وانشدّوا إلى هذا «اللغز»: صلات، فقط، أم تعاون وتبادل معلومات؟

وفي مطلع العام الماضي، كانت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية قد خلقت الأجواء ذاتها، حين نشرت تقريراً حول اجتماعات سرّية ضمّت ممثّلين عن أجهزة استخبارات أوروبية (فرنسية وبريطانية وإسبانية وألمانية…)، وبعض زملائهم الضبّاط في أجهزة النظام السوري؛ تردّد يومها أنّ اللواء علي مملوك، رئيس ما يُسمّى «مكتب الأمن الوطني»، كان على رأس هؤلاء. وكما حدث في مراسلة «رويترز» مع الخارجية الفرنسية، امتنعت الجهات الأوروبية عن التعليق على التقرير، وذلك رغم افتضاح أمره بلسان فيصل المقداد، نائب وزير خارجية النظام؛ الذي خصّ هيئة الإذاعة البريطانية بتصريح يقول: «وكالات استخبارات غربية زارت دمشق لإجراء محادثات حول مكافحة الجماعات الإسلامية المتطرفة».

لكنّ المقداد أضاف، على طريقة التذاكي الكاريكاتوري الذي طبع لغة خارجية النظام طيلة عقود: «هناك خلاف في المواقف بين المسؤولين الأمنيين الغربيين وبين السياسيين»، حول مطالبة الأسد بالتنحي عن السلطة؛ في إيحاء بأنّ رجال السياسة المسؤولين يقتفون خطاً غير ذاك الذي يقتفيه ضباط الأمن، من جهة أولى؛ وأنّ الفريق الثاني يمارس مهامه بمعزل، وربما باستقلال، عن الفريق الأوّل، من جهة ثانية؛ وكأنّ هذه الأجهزة الغربية نسخة مطابقة لأجهزة آل الأسد، لها سلطة التحكم بالأجهزة السياسية المدنية، ولها القرار الفصل في أوّل الأمر وآخره.

والأرجح أنّ تلك الاجتماعات قد عُقدت بالفعل، وتناولت كلّ تفصيل يخصّ الأمن الداخلي في دول أوروبا، وبحثت على وجه التحديد في تزايد اعداد «الجهاديين» من حاملي الجنسيات الأوروبية داخل صفوف المعارضة الإسلامية المسلحة في سورية؛ حتى حين لم تكن «داعش» تتمتع بمستويات متقدمة من التمدد والسيطرة، كما هي الحال اليوم. لاعجب، ولا جديد أيضاً في اجتماعاتٍ مثل هذه، لأنها لم تنقطع أبداً مع أجهزة النظام السوري، طيلة عقود حكم آل الأسد، الأب أسوة بوريثه الابن. وكان روبرت ج. رابيل قد فصّل وقائعها، في كتابه «سوريا، الولايات المتحدة، والحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط»؛ وبرهنت السنوات والأشهر على أنّ التعاون بين النظام السوري والغرب، ثمّ الولايات المتحدة خصيصاً، صار نسقاً ثابتاً أقرب إلى التحالف الاستخباراتي الوثيق، غير المعلَن.

من جانب آخر، أيّ ساذج كان يعتقد بأنّ أجهزة الاستخبارات الغربية، على شاكلة الساسة الغربيين للإنصاف، كانت تسعى للإطاحة بأمثال زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن؟ ومَن الساذج، الآخر، الذي يرتاب في أنّ الأجهزة ذاتها كانت، وما تزال في الواقع، تفضّل بقاء الأسد على رأس نظام جمع الموبقات كلها، أسوة بجرائم الحرب؛ لكنه مطلق الوفاء لتعهده الأبدي في الحفاظ على أمن إسرائيل، والانخراط في «ما يُسمّى الحملة على الإرهاب» على النحو الأشدّ تبعية وقذارة؟

فإذا عبر المرء المحيط، وانتقل إلى أمريكا؛ فإنّ أجهزة الأمن، خلف الساسة في الواقع، ظلت أمينة لتراث عريق في الكيل بمكيالين: واحد، علني، يرغي ويزبد حول حقوق الإنسان؛ وآخر، مبطن، يمدّ يد التعاون مع المستبدّ والاستبداد؟ قبل هيلاري كلنتون وجون كيري، ثمة أمثولة كوندوليزا رايس التي طالبت بإطلاق سراح الناشط المصري أيمن نور، علانية وخلال جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي؛ قبيل اجتماعها مع أربعة مسؤولين أمنيين عرب، بينهم اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة المصرية آنذاك! هل التناقض فاضح، وفادح، بين مصالحة السجين مع السجان، أو بين المهامّ السياسية ـ الدبلوماسية والمهامّ الأمنية الاستخباراتية؟ لا تناقض، بالطبع، ما دام صانع المصالحة في الحالتين هو المبدأ الذرائعي الذي يكيل المصلحة.

بيد أنّ الفارق، في هذا الملفّ تحديداً، يظلّ منعقداً على هذه الحقيقة البسيطة، والحاسمة تماماً، الجديرة باستذكار دائم: كانت الانتفاضة السورية قراراً وطنياً وشعبياً، في المقام الأوّل؛ ولم تكن، في قليل أو كثير، نتاج تخطيط أجهزة استخباراتية غربية؛ ولهذا يتوجب ألا تكون ـ في حاضرها، وفي انتصاراتها مثل انتكاساتها ـ رهن أيّ تنسيق استخباراتي، سواء بين الأجهزة الأوروبية والنظام، أم بين أجهزة هذه الدولة أو تلك مع أطراف المعارضات السورية. ولعلّ الانتفاضة السورية بحاجة، اليوم كما في الأمس، إلى اتقاء شرّ الكثير من زاعمي صداقة الشعب السوري، وعلى رأسهم سدنة ما يُسمّى «المجتمع الدولي»، قادة أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وسواهم، ممّن كانوا، أو كان أسلافهم قبلهم، في طليعة مساندي نظام «الحركة التصحيحية»، أي انقلاب الأسد الأب سنة 1970، وتوريث الأسد الابن سنة 2000، وعلى امتداد محطات كثيرة ومنعطفات كبرى في تاريخ المنطقة المعاصر: من اتفاقية سعسع، 1974، مع إسرائيل؛ إلى التدخل العسكري في لبنان، 1976؛ إلى الحرب ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحصار المخيمات، والاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ومجزرة تلّ الزعتر؛ وصولاً إلى القتال تحت الراية العسكرية الأمريكية في تحالف «حفر الباطن»، والمشاركة في مؤتمر مدريد، والمفاوضات مع إسرائيل سرّاً أو علانية، في شبردزتاون وكامب دافيد وعمّان وأنقرة…

سدنة «المجتمع الدولي» هؤلاء، وأسلافهم، سكتوا عن عشرات المجازر التي ارتكبها النظام السوري، في حماة وتدمر وحلب وجسر الشغور ودير الزور واللاذقية وحمص، وسقط خلالها عشرات الآلاف من الأبرياء، خلال سنوات 1979 ـ 1982؛ بل تعاقدوا على تشجيعها ضمناً لأنّ التفكير الذرائعي كان يبرّرها على هذا النحو: نظام دكتاتوري استبدادي فاسد، يقصف المدن ويسفك الدماء ويحرق الأرض، ولكنه «علماني» و»مستقرّ» و»مرن»، ومطيع تابع مطواع؛ وأرضه تحتلها إسرائيل، ولكنّ خطوط الاحتلال صامتة خرساء آمنة؛ وهو خطّ إمداد «حزب الله» بالسلاح الإيراني، ولكنه في نهاية النهار يقوم بمهامّنا هناك، ويلبّي حاجات حلفائنا، على أحسن وجه، وبأفضل ممّا نستطيع نحن!

وللمرء أن يكرر، اليوم، ما قيل بالأمس حول هذه «الصلات»: فليجتمعوا، ما طاب لهم، مع أمثال علي مملوك وجميل حسن؛ فلا الاجتماعات سوف توقف تدفق «الجهاديين» من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا إلى سوريا، بل ستسفر عن مآل معاكس؛ ولا هي ستُقعد الانتفاضة الشعبية في مواجهة نظام فاشي وهمجي، يتداعى كلّ ساعة وكلّ يوم. هي، في نهاية المطاف، اجتماعات تعيد تكريس ذلك القران العتيق والبذيء بين الديمقراطيات الغربية وأنظمة الاستبداد والفساد؛ فلا جديد تحت الشمس، إلا افتضاح المزيد من أوساخ الصلات والمتواصلين!

 

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

النفاق الفرنسي/ بشير البكر

قناة فرنسا الرسمية تذهب إلى دمشق، وتلتقي بشار الأسد. تقدم له منبراً ليطلّ على الجمهور الفرنسي، وهو المعزول والمنبوذ من أغلبية وسائل الإعلام الدولية، منذ حوالي عامين. لو أن القناة الفرنسية من تلك القنوات الهابطة لما شعر المرء بالأسف، وأخذه العتب على نزولها إلى درك لا يضع فيه عاقل نفسه بمحض إرادته. فالقناة التي يتابع نشرتها الإخبارية قرابة 6 ملايين مشاهد في فرنسا وحوالي 2 مليون في فضاء الفرانكوفونية من القنوات التي تحظى بصدقية وشعبية، تصل إلى تصنيفها بالقناة الأولى.

قدمت القناة منبراً لقاتل يخجل حتى هتلر من أفعاله، وتعاطت معه بطريقة باردة تعتمد على منطق السبق الصحافي، وأدارت حوارها مع المسؤول عن شقاء السوريين، وتهديم سورية على رؤوس أهلها، كأنها تستجوب شخصا لم يرتكب جرائم ضد الإنسانية. ولا يهم هنا مضمون الأسئلة التي طرحها الصحافي وصيغتها، بقدر قرار التطبيع مع مجرم محترف قاطعه الإعلام من منطلق احترام شرف المهنة، الذي يحرّم على الصحافة أن تمارس التدليس ودفن الرأس في الرمال.

ومن يتأمل المشهد الفرنسي اليوم، يسقط، جزئيا، عن القناة والصحافي وزر ارتكاب خطيئة أخلاقية بهذا الحجم، لأن ذهابها إلى الأسد الطاغية هو انعكاس لجو فرنسي منافق في أوساط سياسية، وإعلام يتسم بالاستهتار بآلام الشعب السوري وتضحياته، من أجل الحرية. وللحقيقة، مثلما في فرنسا جو تضامن فعلي مع الثورة السورية، فإن هناك فئة من الصحافيين والسياسيين تقف في الاتجاه المعاكس، فثمة أسماء لامعة ومعروفة بتأثيرها على الرأي وصحف عريقة مثل يومية لوفيغارو، سارت ضمن ركب شيطنة الثورة السورية، وبعض هؤلاء الأشخاص والمنابر خان ضميره الإنساني والمهني، بسبب الفساد المستشري الذي تغذيه الصفقات والمصالح.

في شهر فبراير/ شباط الماضي، زار وفد فرنسي مكون من برلمانيين وسياسيين الأسد في دمشق، ومن هؤلاء من هو في الحزب الاشتراكي الحاكم، ومنهم من هو في المعارضة اليمينية، وقد أثارت تلك الزيارة ردود فعل، واستدعت إدانات، لكنها لم ترق إلى حجم التجاهل الذي ميّز موقف الحكم والمعارضة، التي تعاطت مع موضوع الزيارة وكأنه لا يعنيها، على الرغم من أن فرنسا الرسمية تحاول، إلى اليوم، أن تميّز موقفها في ما يتعلق بالأسد، وصدرت عن الرئيس فرانسوا هولاند، ووزير خارجيته لوران فابيوس، تصريحات تتعارض مع المواقف الأميركية المتخاذلة تجاه الأسد، وقد أكد هولاند وفابيوس، في الآونة الأخيرة، أن باريس لا تعتبر الأسد جزءاً من الحل في سورية، ولا دور له في سورية المستقبل. ولكن هذا الموقف لم يترجم على أرض الواقع، وبقي نوعاً من ذر الرماد في العيون، أو الرياء الذي يخاطب قوى إقليمية عربية لا تزال تصر على رحيل الأسد. وبالتالي، فإن الكلام الفرنسي الرسمي هو نوع من غزل المصالح ليس أكثر، والذي يعود إلى الأيام الأولى للثورة السورية يجد أن وزارة الخارجية الفرنسية لعبت دورا ضد الثورة، عن طريق سفيرها في دمشق حينذاك أريك شوفالييه.

ليست هذه الانتهازية الفرنسية جديدة، بل حكمت الموقف الفرنسي منذ بداية الربيع العربي الذي لم تؤيده فرنسا، وهناك واقعة يعرفها العالم كله، وهي وقوف الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، إلى جانب ديكتاتور تونس زين العابدين بن علي، حيث بقي إلى جانبه حتى آخر لحظة، وكانت فضيحة إرسال وزارة الداخلية الفرنسية مساعدة للشرطة التونسية لقمع المتظاهرين السلميين مثالا صارخا على التواطؤ الفرنسي مع الديكتاتورية، وقد تم اعتراض الشحنة في اليوم الذي هرب فيه بن علي مساء 14 يناير/ كانون الثاني.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

 

الأسد لن يضلل فرنسا/ رندة تقي الدين

في الوقت الذي كان وزير دفاع فرنســا إيف لودريان يتحــــدث في السفارة الفرنسية في بيروت عن جرائم بشار الأسد والنظــــام السوري، كانت القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي تستضيف الأسد في مقابلة أجراها الصحافي نجم أخبار الساعة الثامنة دافيد بوجادا ليعرض أمام الفرنسيين أكاذيب وتضليل الأسد في ممارساته إزاء شعبه.

فاستعرض الوزير كل ما قام به بشار الأسد من جرائم وتهجير إزاء شعبه محذراً من وجود خطر أمني على لبنان من أحداث عرسال والوضع في القلمون. أما النجم التلفزيوني بوجادا، فاعتقد أن إعطاء الأسد ١٥ دقيقة لإطلالة تلفزيونية تمثل تضليلاً واستمراراً في نكران الواقع، هو ضرب صحافي، فمهارة الصحافي المحترف تتمثل في كشف حقيقة المعلومات وليس تزييفها وإظهار أكاذيب، في وقت كل العالم يعرف أن الأسد يحارب شعبه ويلقي القنابل عليه منذ أربع سنوات.

ماذا قال لودريان في لبنان عندما جاء يسلم الــــدفــعة الأولى من الهبة السعودية الى لبنان من المعدات العسكرية لدعم الجيش اللبنـــاني، «عمى النظام الــسوري وهروبه نحو استراتيجية تعتمد مبدأ العنف المتزايد أكثر فأكثر حتى لو كان الثـــمن تدمير سوريا بالكامل. المأساة الإنسانية الــــناجمة عــــن ذلك أدت إلى ٢٥٠ ألف ضحية وعشرات آلاف المفـــــقودين وأربـــعة مــلايين ونصف مليون نازح وثلاثة ملايين لاجئ في الدول المجاورة».

كلام لودريان يؤكد سياسة فرنسا ورئيسها فرانسوا هولاند الملتزمة مقاطعة كلية للأسد، على رغم التضليل الذي قام به الأسد بأن ثمة اتصالات بين مخابراته ومخابرات فرنسا، فهولاند منعها قطعياً. ولودريان أكد لـ «الحياة» في الطائرة، أن الكلام عن التعاون من ضمن التضليل الذي ينشره الأسد ويستخدم زيارات نواب فرنسيين كأداة لمحاولة إظهار أنه خرج من العزلة. واقع الحال أن وزير الدفاع الفرنسي زار الشرق الأوسط والخليج ٣٣ مرة وله صداقات متينة فيها. فهو يتحدث مثلاً مع أمير قطر عن كرة القدم، كون قطر تملك نادي باري سان جرمان ولودريان يرأس نادي الكرة في لوريان في البروتاني ويعرف القيادات السعودية ولبنان كما يعرف كل ممارسات إيران في سورية، وقد أشار إليها في خطابه في بيروت.

ويقول لودريان إنه غير مسؤول عن قرار قناة فرنسا الثانية مقابلة الأسد، علماً أنها قناة وطنية ولكنه أكد للحياة في الطائرة أثناء عودته إلى باريس أن المقابلة من ضمن مساع لا تعبر عن سياسة فرنسا لأن لا فرق في الوحشية بين جرائم داعش والأسد، فالمقابلات الصحافية الغربية مع الأسد وأقواله إن هـــولاند لا يحظى بشعبية في بلده، تبدو وكأن الأسد بطل الديموقراطية، هي مــــن ضمن استخدامه النواب الغربيين والصحافيين الفرنسيين للسعي لإظهار أنه خيار الغرب الوحيد ضد «داعش»، في حين أن معظم قيادات الغرب باتت متأكدة بأن ممارساته أدت إلى ظهور داعش وانتشاره. إن مقابلة بوجادا لا تأتي بجديد سوى أنها تثبت أن الصحافيين في الغرب يسيئون في أحيان كثيرة التعامل مع حرية الصحافة عندما يلقون القيم الأخلاقية للمهنة في سلــة المهملات من أجل السبق الصحافي.

الحياة

 

 

 

 

الرئيس السوري والتلفزيون الفرنسي/ ندى الأزهري

كان «حدثاً» ذلك اليوم في نشرة الأخبار المسائية على «فرانس 2» العامة مساء الإثنين، فاللقاء «الاستثنائي» كما وصفه مقدم النشرة الذي ذهب خصيصاً إلى دمشق لمقابلة الرئيس السوري، كان حقاً «استثنائياً».

في سورية لا احتجاجات سلمية بل إرهابيون، ولا براميل متفجرة (بالمناسبة) «ما هذه؟!»، ولا قتل للمدنيين «فلمَ نقتل الناس؟ لو قتلناهم لما استطعنا البقاء رؤوساء، ولا غازات سامة»، فلسنا مضطرين لها ولا في حاجة إليها، فالسلاح التقليدي يكفي، و «لا قمع وحشي، ولا ديموقراطية شبيهة بالديموقراطية الغربية» (ليس بعد فقد كانت سورية على الطريق لكن الإرهابيين أتوا).

في سورية محبون للرئيس و «داعمون له»، وإلا كيف استطاع البقاء في السلطة كل هذه السنوات على رغم «الخلاف» السوري؟! في سورية إرهابيون من الأيام الأولى للتظاهرات، محتجون أطلقوا الرصاص على عناصر الشرطة الآمنين (الشرطة، وليس الأمن السياسي أو الأمن العسكري أو غيرهم من فروع أمنية…)، إرهابيون شجعتهم فرنسا والغرب…

ولكن، ماذا عن عشرات الآلاف الذين خرجوا للمطالبة بالحرية؟ هل كلهم جهاديون؟ بالطبع لا، يجيب الرئيس ويعترف بحق الشعوب بالمطالبة بالحرية وهو حق يكفله الدستور، ولكن هل قُتل الشرطي (أيضاً) بمكبرات الصوت أم في التظاهرات السلمية بعد ستة أيام من التظاهرات؟

المحاور الفرنسي لا يستسلم فمراسلو التلفزيونات الفرنسية رأوا ونقلوا مناداة الناس بالحرية ولم يكن شكلهم جهادياً ولا إرهابياً… ولكن هل «الحرية بقتل الشرطة (مرة ثالثة) وتدمير البنى التحتية؟». الإجابات تتحول إلى أسئلة.

أما سورية فتمكنها «إعادة» الحوار مع الغرب ولكن شرط «أن يتمكنوا من إقناعنا أنهم لا يدعمون الإرهاب»، وأن يغيروا سياساتهم ويوقفوا الدعم ومن دون هذا «لا حوار» ينبه الرئيس.

الرئيس السوري يؤكد لسائله أن لا شيء سيكون كالسابق في سورية إن حصل وربح الحرب، فهذا يعني «أننا لم نتعلم الدروس من الخلاف» وأن «الأمور يجب أن تتطور وتتحسن ولا تعود كالسابق».

الرئيس أكّد كذلك لمحاوره أنه «لا يهتم بالعودة كرئيس لسورية» بعد انتهاء الخلاف، فالمهم هو «ما يريده الشعب السوري» فلا حكم من دون «دعم الشعب». ولكن، كيف يمكن الرئيس أن يكون واثقاً هكذا بدعم الشعب السوري له؟ يتساءل محاور القناة الثانية بحيرة لتأتيه إجابة واثقة: «لو لم أكن مدعوماً لما دعم الشعب الجيش ولما قاومنا أربع سنوات». يردّ الفرنسي مقاطعاً ربما كانوا خائفين!

خائفون معاذ الله… «هل يخاف 23 مليون (هل حسب منهم من قتل ومن اعتقل ومن نزح ومن هُجّر؟) من شخص واحد، قسم استخبارات واحد (فقط؟!)، وحكومة واحدة؟» رد الرئيس سائلاً.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى