صفحات الثقافة

لكنّ السماء غائمةٌ منذ يومين/ ديميتري أنغيليس

 

 

تاركوفسكي

أُمّاه، هذا ما لم تعلميني إيّاه قطُّ،

كيف لي أن أستحضر الموتى لأمنعهم من الزحف حتى بابكِ

في الليالي. كنتِ تُقاسين حدَّ الموت وأنت تصعدين طرق “أجانطيس” المنحدرة

ولا تقولين شيئاً. تلوّنين القدّيسَ جرجس بدمِكِ

وهو يصرعُ التنِّين. تتقيّئين آلاماً

في منتجعاتٍ مُوحشة. وهناك كانت تهبُّ الريح. كيف يمكن نقل الشمعة

إلى الجانب الآخر دون أن تنطفئ؟ مع جسدك الهشّ ذاك

ما كان لك أيّ أملٍ بالنجاة.

أناسٌ مجهولون ظهروا اليوم فجأة

وسط القبور يطالبون بصداقتك. بشفقتهم المصطنعة اسودَّ

الدّربُ المعبَّد بالحصى، وخيوطٌ

لامرئيةٌ

كانت تحرِّك خطواتِهم وراء النّعش دونما وعي منهم.

أكاليلُ زهورٍ كثيرة، مع ذلك الحدادُ مقتضبٌ، والشمسُ

المبهِرةُ، منعكسةً على الصُّلبان وشواهدَ الرخام،

ومستعيدةً نقاءَها، كانت تُسلِّمك

إلى بيتكِ الروسيّ المكسوّ بالثلوج، ذاك

الذي ذات يومٍ رفَضك.

 

لقاء بين محاربين قدامى

هنا ذات مرّة كانت طروادةُ المشهورةُ وهناك، في الأقاصي،

كانت ترسو سُفنُنا. فلنمضِ

مفعمَين بالحنين لنسلك ثانيةً طريق المعركة

كما لو أن الحرب ما انتهت أبداً، ولا السلب والسطو.

تعالَ، فلنغسلْ في نهر اسكمندر شُعورنا الطويلةَ

ولنخضِ القتال قبل الجميع، وقد ازددنا جمالاً،

قائدَي جيشين في ميدان “الصحراء”.

ولنقذفْ، وسطَ صهيل الجياد وصليل الأسلحة،

بحجارةِ الطواحين حتى يتزلزل المكان

وفي خضمّ القتال، لنغنّينَّ في الخفاء

ابتهاجاً بوجودنا أحياء في الأمكنة ذاتها، من جديد.

فليذكرونا يوماً وليقولوا إننا نسجنا خيوط معاركَ

ناشدين دماءً ومجازرَ برماحٍ زنديقةٍ

وليقولوا: “قبل أن يفترقا، اجتمعا ورحلا متصالحين،

مترافقين، وأجزاءُ دِرعَيهما تتساقطُ عنهما لتنغرز عميقاً في التراب”.

في اللحظة التي اندثرت فيها طروادة وسط ألسنة اللهب العملاقة،

بقيَ غروب الشمس مثل حسرةٍ

أمام أعيننا؛

لا تنتظرْ منهم أن ينطقوا بذلك.

كانوا ينحدرون على ضفاف الموت

وقد خسروا أنفَتهم؛ خِصالُهم تلاشت.

أشباحُ حربٍ فظيعون

فوق المدرّجات.

 

مخاطرة دون كيخوته مُشارفاً على نهاية مسيرته في هذا العالم

في الغابة كثيفة الأجمات وتحت الشمس الغاربة،

مسكنٌ آمنٌ للوحوش ولعلاقات الحبّ المحرّمة

هناك كان دون كيخوته يمضي متحسّراً على قدَره

لا لأن أحداً لم يكتب بعدُ مجرّد قصيدة واحدة عن قصصه

الملحمية ولا لأن صورته الحزينة

وقبلته لدُولثِينِيَا، وإنْ في الأحلام، لم يقدّرهما أحد،

بل لظهوره مغفّلاً صدّقَ كلماتِ الكتب.

ثنى رمحه، مجرِّحاً درعه الذي خبا بريقُه،

فقَد ثقته بالإنسان ولم يتبقَّ له في النهاية سوى الشمس

تعتني، مثلَ بستانيٍّ مخلصٍ، بإخفاقه اليوميّ.

لكنّ السماء غائمةٌ منذ يومين

ولا شيء يحوم حوله سوى الموت.

 

سطوة الأسى

أنتَ يا من عانقت الغيم وشربت النهر.

يا من وصلت في ما بعد مندفعاً كي تضع حدّاً لحياتك عند حافّة هاويتي

متضامناً أبداً مع حزني الناصع كما لو كان

آخرَ رجلٍ يقفُ وسْط حقلِ الخزّاف هذا الخريف

الرجل المحتَقَر في علاقات الحبّ، السابقَ للطوفان، الإنجيليَّ

هناك بين قرَّيص الصلوات وفي الأشجار التي عرّتها

ندوبُ شقائك

قبل أن يقدّم جنود الأباطرة الرومان أنفسهم مع الشموع

وقبل القُبلة الأخويّة ليَهوذا.

وكم عظيمٌ أن تجوب القرى مثل دبٍّ مغلولٍ بسلاسلَ

حلقتُها تخترقُ أنفه

فلتحترقِ المبخرةُ بأنفاسك في موكب التَّطواف المسيحيّ

فلتكنْ أنت البطل نجمَ حفلاتهم الآسنة.

 

 

* Dimitris Angelis شاعر يوناني من مواليد أثينا عام 1973

 

** ترجمة: كاميران حاج محمود

 

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى