صفحات الثقافة

لك النافذة التي لا تغيّر مشهدها/ أمجد ناصر

 

ت

باستثناء الزنازين، يتحرك الناس بين نافذة وأخرى. في العمارة الحديثة، تكاد تكون كل “البيوت” والمكاتب نوافذ. الزجاج يطبع عالم اليوم. الحديد والزجاج. هذان العنصران اللذان لا يلتقيان في الطبيعة يلتقيان في عمارة اليوم، بل يطبعانها. باستثناء أولئك الذين تخفيهم السلطات وراء القضبان، يتمتع الآخرون بأشكال عديدة من النوافذ. الكل يتحرّك، طول الوقت، بين نافذة وأخرى. لا نولي النوافذ اهتماماً. لأننا نملكها. لأننا نمر بها مرور الكرام. عكس أولئك الذين يشبّون على أطراف أصابعهم، ليروا غيمة عابرة/ شعاعاً من شمس/ طيراً يمر مذكِّراً، مَنْ هم وراء القضبان بأقصى أشكال الحرية. فلا حرية تتفوق على حرية الطير. هذا هو الكائن الحي، شبه الوحيد، الذي لا تحجزه حدود/ ولا يحتاج أذناً من سلطة. كتبت، ذات يوم بعيد، قصيدة عن النافذة. قبل وقت طويل من نشر الكاتب المصري الصديق الراحل، جمال الغيطاني، كتاباً كاملاً عن النوافذ، وذهب به مذاهب شتى مع النافذة، وأبعد بكثير مما فعلت في قصيدتي التي ظل يطاردني الخطأ الذي ارتكبته فيها. لم تكن القصيدة عن النافذة فعلاً، بل كانت عن الماضي. وبهذا المعنى، ليس هناك خطأ في القصيدة. قلت عن الماضي: هذه النافذة التي لا تغير مشهدها. الماضي جامد. هذا ما يرسب في أذهاننا. لذلك رأيته باعتباره نافذةً لا يتغير مشهدها. هناك إطار. وهناك مشهد يطلُّ من هذا الإطار.

لم يعد الأمر يتعلق بالنوافذ إذن. ولكن هل لا تغير، النافذة، مشهدها حقاً؟ هل هو جامد كالماضي الذي لا نستطيع تغييره إلا بـ “آلة الزمن”.

حتى لو كانت تطل على جدار، كما كانت نافذتي في عملي السابق الذي صرفت فيه ربع قرن. خمس وعشرون سنة ومكتبي الصغير يطل على جدار. لم يهدم هذا الجدار. لم يُطْلَ بدهان جديد. لكن هذا الجدار الأصم، مشهدي الوحيد على العالم الخارجي، كان يتغير باستمرار. في الشتاء، كانت الأمطار تسحُّ منه. ثم كانت تظهر طحالب خضراء. شكل أول من أشكال الحياة التي لا تني تتغير.

مرةً رأيت زهرة “فم السمكة” تشق الجدار وتطلع منه. من بين لبنة إسمنت وأخرى بجانبها سكنت بذرة فم السمكة التي جاءت بها الريح، ونمت هناك. في ذلك الربيع، رأيتها تطل بأفواهها التي تشبه أفواه الأسماك، من قلب الإسمنت. لم تتوقف تلك الزهرة عن العودة إلى الحياة، عاماً بعد آخر. وهكذا كانت، النافذة التي كانت تطل على جدار إسمنتي أصم، تغيِّر مشهدها. حيوات عديدة كانت تحيا وتموت، ثم تحيا وتموت، وأنا نزيل ذلك المكتب/ الزنزانة.

كنت أنا، خلف النافذة، أتغير أيضاً. أطعن في السن. شعري الأسود الغزير راح يبيّض وينصل. أفكاري عن الحياة والعالم تتغير. صداقاتٌ تترنح ثم تسقط. مكاتيب تأتي من مناطق مختلفة تحمل طوابع “السيادة” والرموز الوطنية تتراجع إلى أن توقفت تماماً.

أعود إلى نوافذ جمال الغيطاني. يقول: على قدر النافذة تكون الرؤية. شكل النافذة وحجمها يحدّدان اتساع المشهد أو ضيقه. يمكن للعين، بتفتيحةٍ واحدة، أن ترى النجم الذي يبعد عنا ملايين الأميال، أو أن ترتطم بجدارٍ على بعد متر. العين نافذة. والنافذة عين. الأولى للجسد. والثانية للبيت. لولا العين، ما مشى الجسد، ولولا النافذة لصار البيت/ مكتب العمل/ سجناً. الجسد سجن. والبيت/ المكتب/ كذلك. لكن نوافذهما هي التي تحرّر مادتهما من كثافتهما الأرضية، وتطلقان فيهما فيضاً من الصور، وتياراً من الحركة.. والرغبات، كأن العين والنافذة هما إطلالتا الروح على الخارج. الخيال لا يبدأ من عدم، بل من صورة، والصورة تلتقطها العين المسافرة، والنافذة المقيمة.

هناك أشياء كثيرة تتغير حولنا قد لا ندركها.

حتى الماضي الجامد سيلوح لنا مرة، وأخرى، بمسوح مختلف.

التغير قانون. حتمية لا مناص منها.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى