صفحات سوريةعقاب يحيى

للسقوط وجوه كثيرة ..

 


جلال / عقاب يحيى

حين ترسّخت الأحادية والشمولية نمطاً ونهجاً، استجابة وتقليداً للسائد في المنظومة الاشتراكية، و”حركات التحرر الوطني والقومي”، وبفعل قوة منطق القوة، ومفاهيم وشعارت العنف الثوري وحرق المراحل.. وغيرها من زاد تلك المرحلة التي شاعت في عموم “بلدان العالم الثالث (بكل التوصيفات والمصطلحات التي أطلقت عليها، والجدل فيها وفي موقعها من العملية الثورية)..

كان كثير يتسابق لمزيد من العنف الثوري، وبالذهن أنه يقترب أكثر من اليسار..ولعله يصبح في عداد الماركسيين وأمواجهم القوية تلك الأيام ..

وحين كانت الفجيعة الكبرى التي وقّعتها هزيمة الخامس من حزيران، والتي اعتبرها البعض من القيادات البعثية، هزيمة شاملة : بنيوية وفكرية وسياسية وحزبية وعسكرية، وهزيمة للأحادية والشعارات المرفوعة، والنهج السائد.. كان البعض يهرب للأمام بالمزيد من الشعارات الضاجّة، اللامعة، وفي مقدمها : ” فشل العدوان في تحقيق أهدافه بإسقاط النظم التقدمية، خاصة في سورية ومصر” .. وغيرها كثير من أدبيات تلك المرحلة ..

لكن أصوات قوية أخذت تنتشر في البعث الحاكم، في أعلى قيادة فيه، تعتبر أن أول أسباب الهزيمة، وأول دروسها : الأحادية والانفراد، وواجب إشراك الشعب والقوى السياسية في الحكم عبر إقامة جبهة عريضة : وطنية تقدمية مع القوى السياسية، والانفتاح على الشعب ضمن صيغ تتجاوز ” الديمقراطية الشعبية” والمنظمات الشعبية” المعلبتين، وطرق إدارتها وحياتها الداخلية.. وعاش البعث صراعاً قوياً فيه حول هذه المسألة.. تجسّدت في طرحها للتصويت في مؤتمرات الحزب…. وسقوطها ….

كان الأسد ـ وزير الدفاع وقائد الطيران، من أشرس المعارضين لفكرة الجبهة والتوسّع الشعبي.. وقاومها مع غيره من أصحاب التشدد في الأحادية…..لكنه وقد صار بطل الانقلاب، والحاكم الأوحد.. صمّنها في بيانه الانقلابي/ 16 تشرين الثاني 1970/ عبر الدعوة إلى ” إقامة جبهة وطنية تقدمية”….

جميع الأحزاب الموجودة في الساحة، وفي مقدمها الحزب الشيوعي السوري.. تجاهلت تقويماتها عن “الظاهرة العسكرتارية ومخاطرها وما تحمل من توجهات يمينية وغربية وتسووية .. ” ، وعن الصراع الدائر في المنطقة حول التسوية السياسية للقضية الفلسطينية بين من يرفضها ويقاومها، ومن يتعاطى معها لأسباب مختلفة”، وحكاية المؤامرة على النظم التقدمية”، وغيرها كثير من صراعات تلك الفترة، وبروز المقاومة الفلسطينية والعمل الفدائي بديلاً وردّاً وما أحدثته من متغيّرات.. وما استدعته من تحالفات وحروب.. إلخ..

تجاهلت ذلك وأكثر ووافقت على القبول بالصيغة التي طرحها قائد الانقلاب حول ” إقامة الجبهة الوطنية التقدمية”.. وكان المغطس، وكان الدخول سرداب العتمة، والموت السريري .. والتفتيت والانشراخ .. والمظهرية والتبويق والتصفيق والتلفيق والأحزاب الكمشة، والأحزاب الصراخ في المناسبات التي يدعوها إليها نظام مملكة الرعب والاحتكار ..

لقد ولّد الذهن الاستبدادي جبهة كسيحة منذ البدء، شلّها بجملة شروط لتكون معاقة ومشوّهة، ومفرّغة، إذ فرض المادة الثامنة في دستوره المفصل على قدّ أحاديته المطلقة باعتبار البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وبالتالي فجميع الأحزاب الحليفة ملحقات، وعليها الانصياع .. فقبل الحزب الشيوعي بقيادة بكداش، وبصم ..

أكثر من ذلك : نصّت الشروط على تحريم عمل هذه القوى في قطاعين حيويين : الجيش والطلاب ..

وباسم” تبعيث” الجيش العقائدي” جرت عمليات تصفية كل من يُشك بولائه للحاكم المطلق..فسُرح عديد الضباط، وأبعد العديد، وأحيل العديد على وظائف مدنية.. وبرز التطييف واضحاً في المفاصل الحساسة للجيش، وفي دورات الكلية الحربية، وأجهزة الأمن التي اتسعت وتفرّعت وتضخّمت لتكون اليد الضاربة،والبعبع المخيف…

وقبل الحزب الشيوعي بقيادة بكداش وواصل .. المشوار ..

وحين يُحرم حزب من التنظيم في صفوف الطلبة، ناهيك عن الجيش، ماذا يبقى له أن يفعل سوى إدمان التكرار، والتسلي ببعض المكاسب التي تعود على قلة من القيادات؟.. بينما يأكل الهرم والهزال جسم التنظيم.. فيتهاوى.. ويشيخ في الأوان وقبل الأوان، وهو الذي حصل ..

وحين رفضت أغلبية “المكتب السياسي” للحزب الشيوعي هذه الشروط الغرائبية الناسفة لألف باء التحالفات، وحين ظهر النظام الاستبدادي ـ المتخلف على حقيقته في جميع الصعد، وفي سياسته الخارجية وقد لاحت تباشير دخوله إلى لبنان لسحق الثورة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية وفق صفقة كبيرة مع أمريكا وموافقة ” إسرائيل”(منذ العام 1975)، وقبلها الانتخابات المهزلة للإدارة المحلية ومجلس الشعب.. أعلن خروجه من المستنقع.. فرفض “الرفيق خالد” وعدد معه، بزعم ” رأي وقرار الرفاق الأكبر ـ السوفييت” فكان ذلك بداية تحنيط وتشقيف الحزب الشيوعي العتيد,, وتحويله إلى زمر وعوائل.. وأحزاب.. بينما نجح ” المكتب السياسي ـ للحزب الشيوعي” في شقّ طريقه الخاص، وتطوير أدواته المعرفية وخطابه، وصولاً إلى التغيير الكبير في خطابه وبرنامجه وخلفيته الإيديولوجية، حين صار : حزب الشعب الديمقراطي.. وإن كانت مجمل الظروف المرافقة، وعمليات القمع المنهج، وآثار فعل نظام الاستبداد في المجتمع السوري لم تخدمه كثيراً، وحاصرته مثلما حاصرت عموم أحزاب المعارضة ..

هذا الوضع ينسحب على بقية الأحزاب التي شاركت في تلك الجبهة المًصيدة.. فرفض الزعيم التاريخي، الدكتور المرحوم جمال الأتاسي تلك السلبطة، وقرر وعديد قيادات وأطر حزب الاتحاد الاشتراكي العربي ـ الديمقراطي الخروج من المغطس القذر.. لكن النظام شقّ التنظيم بالإبقاء على نفس الاسم بأدوات انتهازية تتسابق في الانبطاح وإعلان الولاء، والأمر نفسه صار لحزب الاشتراكيين العرب الذي عرف انقساماً كبيراً بين رافض للتعامل مع النظام الديكتاتور بقيادة المناضل المرحوم عبد الغني عياش، وخلفية الرمز التاريخي الأستاذ أكرم الحوراني، وبين من استمر مع النظام حتى لو بقي بضعة أفراد من العائلة والمقربين ..

جبهة المناسبات والتزوير .. تغفو معظم العام فليكزها الحاكم عندما يحتاجها، وقليلاً ما يحتاجها لأنها باتت حطام الحطام.. وحينها يزمجر صوتها فتبصم على بيانات معدّة سلفاً، وقد تبتسم وجوهها كثيراً حين يستعرضها التلفزيون للحظات.. ثم تعود للنوم المريح في فراش الحاكم الأبدي..

ـ بيان ما يسمى ب” اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري” الطويل العريض.. المليء ب” التحليل الملموس للواقع الملموس” شهادة أخرى على الحضيض الذي وصلت إليه عائلة بكذاش للحزب الشيوعي، وهو يصلح لنعوة على طريقة أيام زمان.. من البيانات الطويلة المزخرفة بكل الكليشيهات الأديولوجية، والتوصيفات المسمارية.. وكأن السيد عمار، وأمه مازالا يقيمان في منتجع تابع للكريملين ولا يعرفان شيئاً عن الشعب السوري ولماذا انفجر احتقانه، وعن هوية الثورة السورية الشبابية ـ الشعبية ـ السلمية .. باعتبارها طريق سورية إلى الحرية، والدولة المدنية الديمقراطية ..وليست مؤامرة إمبريالية ـ صهيونية ـ رجعية..

كاتب سوري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى