صفحات الرأيناصر الرباط

للصبابة فقط: هلمّوا إلى الحداثة/ ناصر الرباط

كان هناك في دمشق، في حي باب توما، مقهى شعبي يطل على قناة الداعياني من فروع نهر بردى اسمه «قصر البلّور». كان المبنى بلورياً فعلاً على نمط قصور الكريستال التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر، مؤلفاً من شبكة معدنية إنشائية يملأها الزجاج. وكان مشهوراً بأنه المقهى المفضل لطبقات مختلفة من الناس من العتالين إلى المثقفين اليساريين، يرتادونه لمازاته وعرقه ونرجيلته، وطبقه المشهور، الضفادع المقلية التي يصطادها له أولاد الحي من القناة في أسفله. وكان صاحب المقهى يجلس على طاولة كبيرة وأمامه مجموعة من الأطباق الكريستال المملوءة بالفواكه الطازجة الرائعة الألوان والأشكال، مرتبة على شكل هرمي من البرتقال والتفاح والإجاص والدرابزين خرمسي، وتتدلى أنواع العنب والكرز على أطرافها تتلألأ بفعل الماء الذائب الذي ينسال عليها من قطع الثلج المصفوفة بعناية على قمة الهرم. وكان يمكن للزبائن عندما ينتهون من عشائهم ويلتفتون إلى عرقهم ونرجيلتهم أن يستأجروا واحداً من هذه الأطباق لطاولتهم، لكي يتمتعوا بمنظرها وهم يدخنون ويشربون. ولكن حذارِ إذا تناول أي من الزبائن شيئاً من الفاكهة وخرّب ترتيب الطبق. فهي كانت للصبابة فقط.
هذه حالنا مع الحداثة: للصبابة فقط. نتفرج عليها ولكن لا يحق لنا لمسها، تلبسها، استخدامها، والمشاركة فيها. يمكننا أن نذهب خارج بلادنا إلى بلاد الحداثة ونعيشها، نتمتع بمنجزاتها على كل الأصعدة الفكرية والمادية والاستهلاكية والجنسية، ولو كنا من محظوظي حاملي الجوازين، جواز سفر مكان ولادتنا وجواز سفر مكان حياتنا، لتمتعنا أيضاً بمنجزاتها السياسية، ولكن إيانا ثم إيانا أن نحملها معنا عند عودتنا إلى البلاد، فحراس الأخلاق والفكر القويم سيكونون لنا بالمرصاد ويصادرونها من مرفأ الدخول أو بعده بقليل. وإذا نجح البعض منا، خصوصاً من شبان الجيل الحالي الذين يتواصلون مع العالم عبر الأثير من دون الحاجة إلى السفر الممنوع على غالبيتهم بكل الأحوال، في اجتراح حداثتهم هم من خلال عملهم أو أسلوب حياتهم أو علاقاتهم أو إنتاجهم الفكري والفني، فهم بالتأكيد سيتعرضون للمساءلة وللزجر، وأحياناً لما هو أكثر وأقسى.
وقد ساءت الحال أكثر في الفترة الأخيرة بصعود التيارات الإسلامية المتشددة التي تحجر على الفكر والتصرف والمظهر والعلاقات، والتي أتت رقابتها فوق الرقابة السياسية والفكرية التي ما زالت الأنظمة المتسلطة تحتكرها لنفسها وتبطش بكل من يتجرأ على المطالبة بها. وهكذا أصبح الناس بين طغيانين، كلاهما يحجر على الحداثة بدعوى خروجها عن التراث والأصالة والأخلاق والعادات والتقاليد. وكلاهما يعيش جزء المتعة من الحداثة في حياته الخاصة بعيداً من الأعين، ويستخدم منتجات الحداثة التكنولوجية في دعايته وقمعه وتعذيبه وإرهابه. ولكنّ أياً منهما لا يسمح بفتح الباب للحداثة الحقة خوفاً على امتيازاته أو دفاعاً عن معتقداتٍ يظنها حقاً.
ولا يقتصر الحجر على الحداثة في عالمنا العربي، ومحيطه الإسلامي الأكبر، على السلطات الباطشة التي استفحل تسلطها في الثلاثين سنة الأخيرة من سيادة العسكر إلى صعود الإسلام السياسي المتشدد، بل يتجاوزه إلى الدول التي نبعت منها الحداثة كما نعرفها، أي دول العالم الغربي. فهذه الدول، كما يظهر اليوم من طريقة تعاملها مع ذبح النظام السوري أبناء شعبه مثلاً، أو رد فعلها على مطالب مكمم الأفواه، رجب طيب أردوغان، سلطان تركيا الجديد مثلاً، لا تأبه لتخلفنا وقمعنا وانعدام الحريات الأساسية في بلادنا طالما أن مصالحها مؤمنة ومواطنيها آمنون، أو شبه آمنين. فالتضحية بالبعض منهم بين الحين والآخر مقبول في سبيل الحفاظ على المصالح العليا كما يظهر من تراجع الجلبة التي بدأتها الحكومة الإيطالية بعد تعذيب وقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في مصر في ظروف غامضة في شباط (فبراير) الماضي.
هذه الدول لا تأتي بجديد في تعاملها مع حداثتنا، أو انعدامها، اليوم. فهي لم تأبه حقيقة لحداثتنا منذ بدء احتكاكها الحديث مع بلادنا في نهاية القرن التاسع عشر. صحيح أن الحداثة جاءتنا من طريقها، في شكل غير مباشر عبر التجارة والتبشير في البداية، ومع الاستعمار لاحقاً. وصحيح أن معظم مظاهر الحداثة في بلادنا من نتاج ذلك الاحتكاك، والبعض منه مساهمات نبيلة من مؤسسات وأفراد غربيين نقلوا إلينا ثقافة الحداثة كما يعرفونها وأدواتها من دون أي مطمع مباشر. لكن الدول الغربية نفسها، أوروبا والولايات المتحدة، رائدة الحداثة والحرية وحقوق الإنسان، لم تأبه لتطبيقها عندنا. بل إن بعض مفكريها ومنظريها وسياسييها روج لفكرة أننا غير قادرين على تمثل الحداثة والتعاطي معها، وأن شعوبنا لن تحسن استخدام حريتها إذا حصلت عليها، أو أنها لن تتعامل مع المفهوم الديموقراطي بالطريقة الصحيحة فيما لو حصلت على نظام ديموقراطي.
وطبعاً نحن لم نحصل على حداثتنا تلك، ولا على حرياتنا الأساسية أو أنظمة ديموقراطية تحكمنا بالقانون. ولست أدعي أن الذنب ذنب الغرب في فشلنا في الحصول على الحداثة كاملة غير منقوصة. فنحن المسؤولون، ومكممو أفواهنا وقامعونا منا وفينا، وهم نتاج ثقافتنا وتاريخنا واجتماعنا. لكن ما أدعيه أن دول الحداثة الغربية، لأسباب عدة بعضها جيواستراتيجي وسياسي وبعضها تاريخي وثقافي وعنصري، غضت النظر عن تجاوزات قامعينا وحكامنا وأنظمتنا، بل تعاملت معها وسايرتها في سبيل تحقيق مصالحها. ومع أنها استقبلت على أرضها الكثير من مفكرينا ومبدعينا الحداثيين، واستوعبت عديدهم في مؤسساتها ونشاطاتها، فإنها ضنت على أولئك الذين بقوا منهم في بلادهم، بالسعي لأجل حريتهم عندما كانت مهددة من حكامهم الذين يرعون مصالحها.
اليوم، وبعد تضحيات قرنين من الصراع مع قوى التخلف والقمع، وبعد الانتفاضات العربية الرائعة التي ما زالت كامنة على رغم صعود قوى القمع والتشرذم التي قمعتها ثانية، نجد ما بقي من الحداثة الفكرية والفنية والاجتماعية في بلادنا مهدداً بالزوال، كما باد القليل القليل من الحداثة السياسية التي عاشها آباؤنا لوهلة قصيرة. ونجد المكاسب المدنية التي حملتها حداثتنا المنقوصة في مهب ريح التزمت والانغلاق من جهة والعسكرة والطغيان السياسي من جهة أخرى. فهلموا بني جلدتي إلى استعادة الحداثة ثانية، على حقيقتها وبكاملها هذه المرة، بحلوها ومرها، ومتعتها وعنتها. فهي قد أينعت وآن قطافها.
* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، M.I.T.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى