صفحات الناس

لماذا بقيت هنا؟/ ميساء نقشبندي

بات للسوريين في بلدهم اسم آخر: الداخل. يتكلم عنه من في الخارج، نقلاً، ويمكن لأهل مناطق المعارضة التحدث بأحوالها، ولا يخفي مؤيدو النظام على امتداد مناطق سيطرته آراءهم. وحدهم المعارضون داخل “سوريا المفيدة”، ممن لم يموتوا أو يغادروا أو تغيبهم السجون، أولئك الذين يستطيع الجميع التكلم بإسمهم، نسوا لطول الصمت، كيف يتكلمون بإسمهم.

قد يتحدثون عن صعوبات العيش أو عن انتقادات غير واضحة الوجهة، لكنهم لا يتحدثون علناً عن حقيقة مواقفهم ورؤاهم بعد خمس سنوات عاشوا فيها ظرفاً يختلف عن غيرهم ممن تقطعت بينه وبين “سوريا” الأسباب، لمدد تطول وتقصر.

سؤال تستعصي اجابته على كثيرين، وهو قد يكون أبسط مما قد يخطر بالبال من مبادئ أو شعارات. ريم من دمشق، تقول إنها لا تعرف لِمَ بقيت، وهي ترى السؤال غير منطقي كفاية، فمن المفهوم أن يرحل المرء عن بلد كسوريا اليوم، لكن هذا لا يجعل الاستفسار عن عدم الرحيل معقولاً بالنسبة لها. “من المستفز أن يسألك أحدهم: ماذا بقيت تفعل؟ وكأنك مطالب بتبرير وجودك في بلدك، وكأن أحدهم يسألك لم أنت أنت؟”. ترى ريم، المعتقلة السابقة، أن النظام يقوم بطرد الأهالي من بيوتهم في مناطق المعارضة، والأولوية هي البقاء لمن يستطيع في مدينته وحيه بدل تسليمهما غير المباشر وإعلانهما مناطق للمؤيدين فقط.

تتنوع آراء بقاء المعارضين بتنوعهم، كما تتنوع أسباب وضرورات من رحلوا برحيلهم، إلا أن كثيراً من قاطني البلد المعارضين لا يخفون حزناً يشبه الحداد لذهاب من كانوا يوماً أصدقاء وشركاء حلم، وكأنهم ما تركوا البلاد بأرضها بل ودّعوا أرواحاً يوقعها الغياب في غربة أخرى يتحدث عنها جلّ من لا زال قادراً على البقاء. ولا يخلو الأمر من مزايدات تظهر فيها أهمية “صمودهم” من خلال اتهام غيرهم بـ”الانسحاب”.

قد يظن المراقب الخارجي أن دمشق والسويداء وحمص واللاذقية وطرطوس مناطق موالية للنظام. وهذا يقارب الحقيقة على مستوى التعبير. وحدهم موالو النظام من يحق لهم الكلام، في تلك المناطق، ووحدها الآراء التي تمجد السلطة هي المسموحة. لم يتغير الكثير، ما تزال هالة القدسية حول رأس الرئيس لتتمكن من ذم كل شيء إلاه، وما زال خرق هذه القاعدة يؤدي إلى التهلكة. لكنها المدن ذاتها التي تؤوي جميع النازحين داخلياً! كثيرون منهم شاهدوا ويلات تكفي لتجعلهم أكثر من معارضين، كثيرون منهم أهل مقاتلين معارضين، وأنى لك أن تعرف هذا إن لم يأمن جانبك ويسرّ لك بالقول؟ كيف هذا ومن بقوا من ناشطين لا يشاركون بعضهم البعض ما يفعلون خشية اعتقال بالصدفة تجبرك على قول ما لا يلزم. لن يستطيع المرء أن يدرك بدقة حجم الكتلة المعارضة في مناطق النظام كما لم يكن يعرف قبل 2011 بوجود هذه الثورة في النفوس. تستطيع اليوم أن تتوقعها أكثر وتلمسها من زلات بسيطة تسقط حتى من عناصر قوات النظام! ومعظمهم مجندون اجباريون، لكن لا شرط مناسباً لها للظهور، فجدران الخوف زادت سماكتها ولم تنقص. لعلنا نتذكر أنه حين نتكلم عن المعتقلين فنحن نتكلم عن أهالي مناطق النظام لا عن غيرها، ولا أكثر من الاعتقال والتغييب القسري عبرة قاسية مخيفة للناجين ليصمتوا آناً.

رغم صمتهم فهم ناشطون فاعلون، ما من قاطن لمناطق المعارضة في الداخل إلا ويحتاج خدمات في مناطق النظام، لا تزال البلد متشابكة العلاقات والمصالح، والقطيعة التي يحاول النظام فرضها غير ممكنة بعد. ما من معتقل إلا ويحتاج ناشطين في مناطق النظام لمساعدته، ما من حدث يلمّ ببعضهم حتى يكون آخرون ممن بقوا مساندين له.

هؤلاء الناشطون كما يقول معتصم من السويداء، هم “بين براثن الذئب”، يعملون في مناطق النظام، ضده، وهو التحدي والخوف الأكبر. أمر يدفع معتصم لتناول مهدئات ومضادات قلق واكتئاب، للتعايش مع رهاب يعيشه بعد اعتقالات متعددة، وضرورة استمرار عمله ونشاطه. إلى جانب هذا فهو كأي مواطن آخر يعاني صعوبات الحياة التي يخجل الناشطون من ذكرها أمام ما تعانيه مناطق منكوبة بحصار حقيقي. لكن يثقل كاهل معتصم، همّ تأمين حاجاته الأساسية، إلى جانب محاولته عمل الواجب وعيش اعتقاداته الحقيقية. ويؤلمه أن “يستسهل الآخرون اصدار حكم حول جذرية مواقفنا الثورية، ولا يتسنى لنا حتى الدفاع عن أنفسنا”.

معتصم يرى أن طريقه لم تتغير. لا معارضته للنظام ولا حقه في عيش حياته وأحلامه في بلده. ربما من المربك مقارنتها بحيوات سوريين آخرين، ومن غير الممكن تفصيل طريقة إستجابة واحدة للجميع من دون الالتفات لحجم تأثير الجغرافيا في الوضع السوري اليوم. معتصم يفعل فقط ما يمكنه ويتحمله، وهو غير عارف كيف كان ليتصرف إن تواجد في ظرف آخر.

أن تستمر بالوجود تحت سلطة النظام يعني ألا تلفت النظر اليك برأي أو جدال. فلا يدري المرء ما الذي قد يودعه غياهب السجون. ويعني ذلك أن تكون “Low Profile”، تعمل باسم مستعار، تكتب أو تصنع فناً من دون أن يعرفك أحد، أو أن تتوقع شكراً أو تقديراً لشخصك. قلة فقط استطاعت، لثقلها الاجتماعي، أن تصرح بأعمالها الفنية أو الأدبية خارج البلاد، أو تقدم أعمالها في الداخل، واضحة الهوية، بسقف يدع للشك مكاناً في حال التحقيق بالأمر.

تُعرف مواقف الناس في مناطق النظام بطرق غريبة، إذ يكفي أن تصمت عند حديث ما، ألا تعلق على صورة، ألا تضع أغنية ليعرف من يريد أن يعرف أنك تقاوم، وأنك لا تستطيع أكثر من ذلك. في “الانتخابات الرئاسية” السابقة نزل ناشطون وأهالي مقاتلين معارضين لينتخبوا بشار الأسد، كان خوفهم مبرراً لاتساع طيف الشكوك حول ما يستطيع فعله، أولئك الذين ليس لديهم مسؤوليات أو عائلات سمحوا لأنفسهم بألا يفعلوها وأخفوا ابهامهم النظيف من الحبر، عن جيرانهم والحواجز وفي أماكن العمل.

“طوبى لمن رحل ونسي خوفه، ولسعادتنا ألا يتذكر كيف عاش قبلاً”، تقول معارضة ومعتقلة سياسية لستة عشر عاماً. هي تعلن عن مواقفها المعارضة في قلب مدينتها وأمام الموالين فليست خائفة بعد من النظام، لكن الأمر استلزمها عمراً في سجونه لتفقد خوفها من الظالم، وهي تدرك تماماً أنه لأمر صعب الحدوث أن تواجه على أرض واقعية نظاماً كهذا، وأنت أعزل مجرد من خوفك. تظن أننا “لم نستطع فعلها حتى اليوم”.

تظن سارة، الصحافية المعارضة، ومن تستعمل اسماً مستعاراً لكتاباتها، أنه قد يوحد بين مجمل المعارضين الباقين إحساس بتعقيد الوضع في سوريا. ترى أنهم لتعايشهم مع مؤيدين ومعارضين ومحايدين، وقصصهم اليومية، لم يعد سهلا عليهم الخروج بتوصيف للوضع السوري اليوم. “تستطيع فقط أن تدرك كيف تذهب الحرب بالفقراء وكيف تصنع المواقف والمواجهات لأسباب أسخف مما قد يعتقد المرء”.

ترى سارة، أن طيفاً من الأفكار يجمع بين من اختار البقاء رغم خطر الاعتقال وصعوبة العيش. طيف يشبه بدايات الثورة، وهي التي يتسنى لها الاطلاع عن قرب على اختلافات تفرق الناشطين اليوم. فهي تسافر خارج البلاد وتعود، وتنتقل إلى أماكن معارضة للعمل. السلمية واللاعنف ربما يكونان الجامع الأبرز لمعظم الباقين حسب رأيها.

غالباً ما يخرج المرء من الاعتقال، “نظيفاً كما ولدته أمه” بحسب تعبير معتقلين سابقين. لا تريد منه السلطات الأمنية شيئاً إلى أن يجد جديد. يستطيع عندها السفر والعودة لممارسة حياته مالم يصبح مطلوباً مرة أخرى. أمر يحرص الباقون على معرفته بعملية “التفييش” بين حين وآخر. هذا ببساطة ما يجعلهم يستمرون. فإن طُلبوا للجهات الأمنية، اختاروا التعامل مع الأمر وحله بطرق الفساد الدارجة، أو تحمل مغبة اعتقال ما، أو ربما الرحيل إن فقدوا قدرة الاحتمال. لم يكن هذا ليجعلهم مختلفين عن أي مواطن سوري آخر، لا زال ببساطة يقيم في بلده في أحلك لحظاتها وأكثرها ظلماً ولامنطقية. ربما يستطيعون مرة أخرى أن يكونوا مشاركين بالتغيير، الذي لأجله بدأ كل هذا، وإن لم يأت، فهم يعيشون ويحلمون ويغيرون بشكل يومي ما أمكن من تفاصيل صغيرة في حياة من حولهم، ما أمكن في ظرف اللامعقول الذي تعيشه بلادهم.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى