صفحات سوريةماهر الجنيدي

لماذا بيارق الاستقلال؟


ماهر الجنيدي()

لم يرفع الثوار التونسيّون في ثورتهم علماً مختلفاً عن علم الدولة الرسمي، كما لم يرفع أقرانهم المصريون علماً مختلفاً عن علم الدولة الرسمي.

والحال أن موضوع العلم لم ينطوِ على مغزىً ثوريّ في تونس ومصر. وإذا شئنا تفسير الأمر، في ضوء استخدام ثورات أخرى بيارق استقلالها، لوجدنا أنّ التوانسة لم يعرفوا منذ استقلال بلادهم علماً آخر غير هذا العلم الأحمر بدائرته البيضاء التي تضم هلالاً ونجمة باللون الأحمر؛ في حين لم ينقطع المصريّون يوماً عن رفع علم استقلالهم، الأخضر الموشّى بهلال وثلاث نجوم، واستخدامه في تزيين الكثير من احتفالاتهم ومناسباتهم الشعبية اليوميّة.

غير أن ثمّة أسباباً أخرى قد تساعد في تفسير عدم اكتساب هذا الأمر أية أهميّة في هذين البلدين. فالسلطات الاستبدادية التي كانت قائمة في تونس ومصر لم تستخدم الجيش في قمع المظاهرات، أو لم تتمكن من استخدامه كما كانت تأمل. بل حافظت حتى لحظات متأخرة في حكمها على النظر إلى حركة الشعب باعتبارها أعمال احتجاج وشغب مدنيّة، تتطلب فحسب قمعاً من أجهزة الشرطة والأمن. وكان لامتناع تورّط الجيش في القمع الدموي للثورات دورٌ مهم في عدم تسلّح هاتين الثورتين، وبالتالي في تجنّب انشقاق الجيشين. وكانت عمليات الدفاع عن النفس التي مارسها الثوار تكتفي في معظم الحالات بضرب، أو جرح، أو طعن، أو اعتقال، أو رجم، أو تأديب رجال الأمن والبلطجية، وهي أمور لا تستدعي علماً بديلاً.

أما في ليبيا وسوريا، فقد اتخذ موضوع العلم أبعاداً رمزيّة حاسمة.

غنّي عن القول أن الردّ الدموي الذي جوبهت به المظاهرات السلميّة في ليبيا وسوريّة، أرادت منه أنظمة الحكم في البلدين، فيما أرادت، أن يحشر المتظاهرون في خانة الدفاع المسلّح عن النفس ما لم يتمكّن من سحق الحراك السلمي فوراً. وجاء زجّ الجيش في قمع المظاهرات لكي يلوّح للمتظاهرين، فيما يلوّح، بورقة خيانة “الوطن”.

فشهدنا الثوار الليبيّين يرفعون علم استقلال بلادهم منذ الأيام الأولى لثورتهم، فيما تأخّر نظراؤهم السوريّون في رفع علم استقلال سوريّة عدة أسابيع أو ربّما شهوراً. ارتبط ظهور “علم الثوار” في الحالة الليبية بمتلازمة “القذافيالأخضر”، التي جعلت من المنطقي رمي كل شيء أخضر في مزبلة التاريخ الليبي، ابتداء من كتابه الأخضر إلى تماثيل الكتاب الأخضر، وصولاً إلى تسمية الساحة الخضراء، مروراً بالعلم الأخضر.

كان من المفهوم انجرار المدنيين في سوريا للتطوّع لحماية المظاهرات السلميّة، وتسلّحهم في ليبيا للقتال ضد كتائب القذافي. وسواء هنا أو هناك، كان من الطبيعي أن تبدأ الانشقاقات في جيش يطلب منه النظام تصويب أسلحته على شعبه.

وللعسكر راياتهم وبيارقهم وأعلامهم!

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا علم الاستقلال تحديداً؟ هل هو ضرب من النوستالجيا الجمعيّة إلى زمن جميل مضى؟ أم تراه، كما يزعم المشككون، انبطاحاً أمام المستعمر الذي ساهم في صياغة أعلام استقلال الدول العربيّة؟

يبدو التبرير الثاني متهافتاً غير ذي معنى. فهو من جهة تبرير واهٍ تاريخياً، إذ لم يطرح هؤلاء المشككون أي وثيقة تاريخية تثبت أن علم الاستقلال السوري “صنيعة” فرنسية، أو أن علم ليبيا “صنيعة” إيطالية؛ هذا فضلاً عن أنه من جهة أخرى تبرير مضلّل إعلاميّاً، باعتباره يتسق مع روايات المندسين والفتنة والمؤامرة على نظامين لم يعترفا بوجود معارضة (بدأ النظام الرسمي في سوريا الحديث عن معارضة في فترة لاحقة). فيما ينتفي التبرير الأول المتعلق بالنوستالجيا تلقائياً إذا ما رصدنا أعمار الثوار، الذين ولدوا في معظمهم في كنف الأنظمة الاستبداديّة المزمنة، ولم يعرفوا عن تاريخ سوريا وليبيا أكثر بكثير مما لقّنته المناهج الدراسيّة.

لتفسير اختيار أعلام الاستقلال، ينبغي لنا العودة إلى الشعار الرئيس الذي طرحته الثورات جميعاً: “الشعب يريد”. فالشعب يريد إسقاط نظام الاستبداد الذي تسلّط على البلاد والعباد والدولة لعقود مديدة. والشعب يريد إسقاط النظام الشمولي الذي احتكر لنفسه الوطن والوطنيّة، وجعل الشعب مداناً في وطنيّته حتى يثبت ولاءه للنظام الممانع أو الثوريّ. والشعب يريد إسقاط تبعات هذا النظام، الذي نهب الثروات، ودخل في مغامرات إقليمية أساء فيها سوريّاً إلى العلاقات مع الشعبين اللبناني والفلسطيني خصوصاً، وأساء فيها ليبيّاً إلى العلاقات مع تشاد فضلاً عن الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم. مغامرات وتحالفات وإساءات إقليمية مدفوعة بحسابات استبداديّة صرف.

ومنه، فإن لاستخدام أعلام الاستقلال بعداً نفسياً، إنْ كان ثمّة مثل هذا البعد، لا يمتّ بصلة لا من قريب ولا من يعيد الى مشاعر النوستالجيا المرضيّة. بل هو، في الحالة السوريّة، محاولة لاستعادة تلك المشاعر الوطنيّة الصرف التي جمعت السوريين جميعاً لتحقيق الاستقلال، على مختلف طوائفهم، وقوميّاتهم، ومشاربهم الأيديولوجية، وانتماءاتهم المناطقيّة.

كما أن لاستخدام علم الاستقلال مغزى آخر، هو ليس قتلاً لمرحلة تاريخية، بقدر ما هو استفادة من دروسها، ومحاولة لتصحيح مسار تاريخ شوّهه الاستبداد، وسعي لاستكمال مهمات التحرر الوطني، وعمل على بناء الدولة الديمقراطية ذات الحضور الإقليمي المستند الى مصالح الشعب لا النظام.

علم الاستقلال ليس عودةً بعقارب التاريخ إلى الوراء بقدر ما هو رغبة في وصل ما انقطع، واستئناف هذا التاريخ من نقطة توقّفَ عندها، لحظة الاستبداد.

() كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى