صفحات الثقافة

لماذا تكتب إذاً؟/ ممدوح عزام

 

 

في ردّه على رسالة من ماكس برود، قال هرمان هيسه في كتابه “إذا ما استمرت الحرب”: “إن كلمة مني لن تحرّك السلطات، ولا أي مؤسسة، ولا مصحّة، ولا حتى دكّان خباز كي يعطي لإنسان جائع، ولا حتى لقمة خبز”.

من المستبعد أن يكون هيسه قد قال هذا الكلام كي لا يتدخل في قضية المستوطنات التي كان ماكس برود يريد منه أن يؤيد بناءها في فلسطين آنئذ، وكان بوسعه أن يرفض التدخل دون أن يقدّم هذه المرافعة الغريبة التي ينقضّ فيها على ذاته ككاتب قبل أيّ أحد آخر.

ومع ذلك فإن ردّه يضعنا أمام معضلة غامضة لا تزال تشغل البشر منذ أن ظهرت أول رقعة كتبها فلاح مصري فصيح في زمن الفراعنة يسجّل فيها سوء وضعه المعيشي. وهي ذات شقين: لماذا يكتب الكاتب؟ ولمن يكتب؟

والراجح أن الكلمة لا تخاطب السلطة أو المؤسسة، إلا إذا كان الكاتب مؤمناً برغبتها في الإصلاح، أو أنه يتقدم بالشكوى إليها منها. وسوف ننسى هنا المتملقين والمنافقين والأزلام. وفي هذه الحالة يجب أن يتوفر لمثل هذه السلطة مستوىً رفيعٌ من التحضر والشرف والضمير، حتى تكون قادرة على أن تسمع الكلمة.

لكن تاريخ الأفكار يقول إن السلطة السياسية تخشى الكلمة، ولا تحب الكتاب. كذلك تكرههم سلطة رجال الدين، وتخافهم سلطة المجتمع، إلا إذا كانوا يهتفون لعاداته، ويصفقون لتقاليده. ولهذا تحاكم مدام بوفاري الرواية والمرأة المتخيلة في فرنسا، ويلاحق أولاد حارتنا كي تزهق أرواحهم في مصر، ويمنع يوليسيس من التنفس في أميركا، ولا يسمح للدكتور زيفاكو بالحياة في روسيا. ومن المعروف أن النظم الاستبدادية في ألمانيا النازية، وإسبانيا تحت حكم فرانكو، طردت، أو قتلت أو أرغمت كتّابها وفنانيها على الصمت.

رغم هذا فإن هناك من يؤمن بالكلمة، ويدعو الكاتب للمساهمة في النضال من أجل الحرية، أو العدالة، أو الإنصاف، وهو يفترض أن الكلمة قادرة على التغيير، وعلى ترسيخ القيم والمبادئ الشريفة في الحياة البشرية.

وفي الغالب فإن الكلمة تخاطب هؤلاء في المقام الأول. ومن المؤكد أن الكاتب، لا يتوقف عن الكتابة إذا لم يرَ، أو يلمس أثر كلماته في البشر أو في الأمكنة. ويروى أن الإمبراطور الصيني مينغ أمر بتزويج إحدى خليلاته من الجندي الذي تحبّه، حين قرأ قصيدتها التي تعبّر فيها عن يأسها من الاقتران به في هذه الحياة.

لا توجد دراسات إحصائية ترصد أثر الكلمة في الناس. وهو موضوع شائق لا يمكن تنفيذه إلا في ظلّ حكومات ديمقراطية لا تلاحق الأنشطة العامة. ولكن لا أحد يعرف قيمة الكلمة بقدر أعدائها، ولا أحد يقدر أثر الأفكار أكثر من خصومها الذين يدركون سريعاً، ربما أسرع من أنصارها، خطورتها على وجودهم.

كان أحد زملائنا يقول إن كيساً من الشِعر لا يساوي إبرة خياطة. غير أن التاريخ لا يذكر البتة، أن حاكماً أمر باعتقال خيّاط لأنه ملأ عقول الناس بالإبر.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى