راشد عيسىصفحات الثقافة

لماذا صباح فخري؟

 

راشد عيسى

 آخر ما يمكن أن يتوقعه المرء من مجموعة مغنين سوريين تضم علي الديك، ورويدة عطية، ورضا ووفيق حبيب، عملاً غنائياً محايداً “غير منحاز إلى أي من أطراف الصراع”، كما نُقل عن مشتغلي “أوبريت” سجّل أخيراً في بيروت. ذلك أن جولة صغيرة على “يوتيوب” تقطع الشك باليقين في أن أغنياتهم لا تترد في إظهار الولاء للنظام ورأسه.

لكن المفاجأة في نبأ “الأوبريت” ليست في حياديته المزعومة، بل في انضمام الفنان الكبير صباح فخري إلى هذه الجوقة. لم نسمع من قبل عن تصريح للفنان الكبير يشي بموقعه، وموقفه مما يجري، ولعله أخذ بنصيحة الكثيرين الذين طالبوا الفنانين بالصمت – أضعف الإيمان، مقابل ما ينطق به الفنانون الشبيحة من مواقف.

انضمام فخري إلى جوقة فيها هؤلاء، هو انحدار فني أولاً. فكيف يقبل، وهو أسطورة الغناء السورية، وأحد أعمدة حلب، أن ينضم إلى هكذا جوقة لم تكن لتحتل الشاشات والمنابر الغنائية لولا عهد الانحطاط الشامل الذي يعتبر علي الديك أحد رموزه؟

يقول مطلع الأغنية – الأوبريت (كلمات نزار فرنسيس، لحن عادل العراقي، وتوزيع طوني سابا): “هيّ أمي وهي بيّي، وهيّ عنوان الحنين، أنا خيّكْ وإنتا خيي، بيكفي نحنا سوريين”. وهي ستُغنى بلغات ثلاث، إذ ينشد فيها أنس صباح فخري بالانكليزية والفرنسية، إلى جانب العربية. كان يمكن للمرء أن يفهم هذه الـ”بيكفي نحنا سوريين” على أنها مجرد زوغان في العيون لا يستطيع التمييز بين القاتل والقتيل، غير أننا نعرف أن الجوقة في معظمها تقف مع القاتل، فكيف نفسر موقفها الذي يزعم الحياد، غير أنه يتقصد التضليل باسم الوقوف في الوسط؟ أولئك الذين يقفون في الحقيقة مع النظام باسم الحفاظ على المؤسسات، وعلى رأسها مؤسسة الجيش، إلى ما هنالك من حجج من قبيل أولوية مواجهة التطرف، وخلافه…

إنها تجارة لن يكتب لها النجاح، تجارة الوقوف في الوسط، حتى من قبل الفنانين وأعمالهم الفنية العمومية على غرار عمل فني موضوعه “الشهيد”… ثم عليك أن تدوخ دوخات السبع لتحزر من هو الشهيد بين “أطراف الصراع”. مضى ذلك الزمن الذي يُحسد فيه المغني على أن أغنيته تسري على لسان المتخاصمين، على غرار “صوت فيروز الموزع بالتساوي بين طائفتين”، كما قال محمود درويش في قصيدته. اليوم لن تجد لمعارضي النظام سوى أغنيتهم هم، صوتهم، لسانهم… أنظر إلى أغاني القاشوش كيف فرّخت أغاني وأعمالاً كأنما بلا نهاية. أنظر كيف بات معارضو النظام يتلقون أغاني وموسيقى زياد الرحباني ومارسيل خليفة، وسواهما. فما بالك بأغاني الديك وآل حبيب وأمثالهم؟

ربما كانت هذه هي الحرب الوحيدة عند العرب، التي لم تعد تنفع فيها أغانٍ عمومية، تلك الجاهزة على الرفّ، إذ كنا كلما انطلقت رصاصة وسقط شهيد، نمدّ أيدينا إلى ذلك المخزون الذي يبدأ بـ”خلّي السلاح صاحي”، ولا ينتهي عند “منتصب القامة أمشي”، ولا نلبث، بعد أن تنتهي الحرب، أن نخفي تلك الأغاني ونشتمها ونتهمها بأنها مجرد أناشيد صارخة تفتقر إلى الذوق.

هذه المرة، لم يعد المخزون ملائماً، إلا ربما للنظام الذي يريد الاستئثار بكل شيء، حتى بأغاني الثورة نفسها، ومن بينها أغنية القاشوش الشهيرة “يللا إرحل يا بشار”، ليستخدمها بعكس معناها، بغير ما جاءت به. هذه المرة بدأت الثورة تصنع مخزونها الغنائي، إلى جانب حمولتها من الحكايات والأفلام والأعمال التشكيلية، وهذا معنى أن تكون ثورة ثقافية بحق، ثورة تليق بشعب دفع عشرات الآلاف من الضحايا، إن لم نقل مئات الآلاف.

أما بخصوص الفنان صباح فخري، فليس للناس أن يسامحوه أم لا، إذ ستجد أنهم في الغالب يشعرون بالأسف لأن فنانا بهذا الحجم يحشر نفسه في هذا القالب الصغير. لقد بات، على كل حال، فناناً من الماضي، ماضٍ جميل وتاريخ سمعي للشجن، لكن خطى السوريين باتت في المستقبل، ولن يضيرها تعثّر فنان آخر في الطريق.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى