صفحات سوريةنجيب جورج عوض

لماذا لا ينفع نموذج «اتفاق الطائف» اللبناني كحل للمأساة السورية/ نجيب جورج عوض

 

 

 

في سياق التبدلات البنيوية والراديكالية التي بدأت تتبدى ملامحها في منطقة الشرق الأوسط، والتي نتجت عن اتفاق الشراكة الأميركي- الإيراني الجديد، بدأت كافة الأوساط تتحدث عن حل قريب وقادم للمذبحة السورية. وراح الكثيرون، خاصة اللبنانيين، يرفعون الصوت مقترحين بأن يكون الحل السوري شبيهاً بحل الحرب الأهلية اللبنانية، أي باتفاق يمكن تسميته «طائفاً سورياً« يعيد تركيب بنية الدولة والمجتمع السوري على أسس ومقومات طوائفية تحاصصية تشبه تماماً النموذج الفاشل جداً في لبنان.

إن ميل مراكز صنع القرار إلى تبني مثل هذا الاقتراح الفادح، سيكون خطأ سيترتب عليه نتائج كارثية فادحة ستودي بسوريا إلى موت محتم ككيان وكشعب وكوجود في المنطقة، مثلما يكاد نموذج دولة الطوائف اللبنانية أن يقود لبنان الكيان والشعب والوجود إلى فناء محتم آجلاً أم عاجلاً. وبصرف النظر عمّا نراه من فشل ذريع وشامل وبنيوي وتدميري لنموذج الطائف الطوائفي التفكيكي والتحاصصي في المشهد اللبناني وفشله في تشجيع أي مراقب، من بينهم سوريين على تبنيه كحل للمأساة السورية، فإنني أعتقد أن حل المذبحة السورية على الطريقة اللبنانية باتفاق «طائف سوري» ما، أمر لا يجب القيام به أبداً لأسباب موضوعية سياقية تتعلق بطبيعة سوريا وبنيتها وتركيبتها المختلفة كلياً عن لبنان.

1- لن تنفع إعادة تأسيس سوريا على نموذج الطائف اللبناني، لأن سوريا لم يتح لها بعد أن تعيد تأسيس سنّية سياسية تشبه في علمنتها وتمدنها واحترافيتها وحداثويتها السنية السياسية في لبنان. أثناء السنوات الخمس المنصرمة، تمت إعادة إنشاء سنية سياسية سورية جديدة (منع نظام الأسد قيامها، بل سحقها بعنف وشراسة، في سوريا في العقود الماضية) في ظهرانين المعارضة السورية. إلا أنَّ هناك الكثير من الأسئلة التي يجب طرحها حول طبيعة وأداء واجندات وأولويات تلك السنّية السياسية المذكورة، والتي يهيمن عليها تيار إسلاموي تقليدي غير عصري ويعيش، فكرياً وممارسةً خارج التاريخ، وأبعد ما يكون عن الاحتراف والمأسسة ومنطق الدولة. أولى مشاكل تلك السنّية، أنها بنى سياسية تبنتها وفرضتها بقوة على مشهد السنية السياسية في سوريا، أموال ونفوذ وأجندات حلفاء أميركا السنّة الأشداء في المنطقة، وجُعلت بطبيعتها وهويّتها الأساس، سنّية سياسية راديكالية أرثوذكسية بعيدة عن الفكر المواطني والتعددي والمؤسساتية، والفهم الوضعي والسياسي المحترفين، والمدنيين والسلميين والعصريين كبعد المريخ عن الأرض (أخيراً، مثلاً، تم اخذ قرار استخدام العملة التركية في شمال سوريا من قبل ثلاثة شيوخ معممين لا يفقهون بالاقتصاد شيئاً، ناهيك عن علم المال. كما أن الشؤون المدنية في مناطق سيطرة كتائب المعارضة الجهادية، تدار من قبل محاكم دينية وليس مدنية، ولا على أساس قانون مدني وضعي، بل تشريعي يعتمد على اجتهادات تفسيرية دينية غير كفوءة). فرضت القوى الإقليمية السنّية اللاعبة في المشهد السوري، وللأسف، على سوريا المستقبل أن تكون الغالبية الساحقة من الوجوه السنية المعارضة التي سيتم فرضها كممثل لسنة سوريا في أي محاصصة طائفية للسلطة من شريحة وجماعة إسلاموية ضيقة، مباشرة، أو من أفراد يسميهم هؤلاء الإسلامويون، وهم نسخ طبق الأصل عنهم في الفكر والممارسة (قابلت عبر السنوات الماضية العديد من أولئك الأفراد في لقاءات حول سوريا). بكلمات أخرى، لن يكون الوجه السنّي السياسي المشارك في السلطة في أي سوريا طوائفية في المستقبل، شبيهاً بالسنّية السياسية في لبنان، لا في نموذج الرابع عشر من آذار (تيار المستقبل) ولا في نموذج الثامن من آذار (ميقاتي وكرامي، مثلاً)، ولا شبيهاً بالسنّية الاقتصادية المثيرة للاعجاب في دول خليجية كالإمارات العربية المتحدة مثلاً. للأسف الشديد، لم يسمح أي من الأطراف الاقليمية لسنّة سوريا الديمقراطيين والمعتدلين والعصريين والتقدميين، بخلق «تيار مستقبل» سني سياسي سوري يماثل التيار المذكور في لبنان ويكون له دور فاعل وحقيقي في المشهد السوري (ولا حتى المعارض). وفرض على المشهد السوري القادم سنّية سياسية كهنوتية، ضيقة الأفق والمعرفة، متطرفة وراديكالية وقروسطية النموذج، تخلط الديني بالمدني والسياسي بالمصالحي الضيق وتبدي استعداداً منقطع النظير للتضحية بالدولة على حساب الحظو بالسلطة (يلفت نظري بعمق أن تسعين بالمئة من ممثلي السنّية السياسية في أوساط المعارضات السورية التي يدعمها دول الأقليم السنّية، هم من الشيوخ غير الأكفاء للعمل العام أو من خلفيات علمية دينية صرفة).

«طائف» لا يفهم التركيبة

في مثل مشهد كهذا، فإن أي طائف سوري سيكون ضد الشارع السني السوري الشعبي قبل سواه وبامتياز، لأنه سيضع تلك السنّية السياسية المذكورة في الأعلى، في صدام حقيقي مع شارع سنّي سوري شعبي عريق وغني لا يشبه تلك السنّيات السياسية المصطنعة ولا يتماهى معها أبداً. فهذا الشارع أبعد ما يكون عن التطأيف والشرذمة وضيق الأفق التديّني والجهل المدني والخوف من الحداثة أو حتى من العلمانية. إن أي سنية سياسية ستدخل المشهد بقرارات إقليمية وتفاهمات دولية في مستقبل سوريا، ستكون مناسبة للعيش وفق بنود اتفاق طوائفي تحاصصي ومجرد أداة لتنفيذ شروط اتفاق كهذا، ولكنها لن تكون ممثلة حقيقة للشارع السوري السني المواطني في داخل البلد. ستكون فقط منتجاً مستورداً (في قالب بشري سوري) خلقته لنا قوى اقليمية سنّية لا تفهم تركيبة سوريا ولا تعرف طبيعتها ولا تدرك أن سنة سوريا يتمايزون عن سنة الخليج وسنة تركيا في كل شيء تقريباً؛ وما ينطبق هناك لا يجب أن ينطبق عليهم ولا يجب فرضهم عليهم عن طريق كيانات سياسية سنّية سورية مصطنعة لا تصلح لسوريا المستقبل. ولأن عملية خلق سنّية سياسية على مقاس السنّية السياسية في لبنان، يحتاج لسنوات طويلة، فإن الأرض السورية غير جاهزة لأي اتفاق طائف لبناني النموذج.

2- أي حل سوري على النموذج الطوائفي اللبناني، سيكون كارثة كبرى على شيعة سوريا أيضاً، لأنه سيختزل الشيعة بالطائفة العلوية وحدها انطلاقاً من واقع بشع وإجرامي فرضه نظام سفاح دمشق الشيطاني على البلد بأن أجبر العلويين في سوريا، بدافع الخوف والهوس بالبقاء، على أن ينكمشوا على أنفسهم ويبتعدوا عن باقي أطياف المجتمع السوري ويناصبوا الجميع العداء. في المستقبل، وللأسف فان أي حل قادم لسوريا، سيجد العلويون الجميع يختزلهم بطائفتهم (كما فعل الأسد بهم) وأي حل تحاصصي طوائفي سيشجعهم على تغذية سياسة الاختزال المذكورة حتى بعد رحيل نظام الأسد (خالق هذا الاختزال الأول)، وعلى النظر إلى أنفسهم وتقديم أنفسهم في المجتمع السوري الطوائفي المزمع إنشاؤه، من المنظار الضيق والحصري لهويتهم الطائفية «كعلويين»؛ مع أنَّ القسم الطاغي من أبناء تلك الجماعة السورية (ماعدا المستفيدين من النظام والذين اعتاشوا على فساده) لم يتبن في تاريخ سوريا الحديث أي منطق تعريفي طائفي أو تديني، بل شارك تاريخياً، في بناء تيارات يسارية وعلمانية وقوموية-سورية أو قوموية-عروبية في سوريا مابعد الاستقلال. أي حل طوائفي على الطريقة اللبنانية، لن يختزل فقط الطائفة السنّية، بهويتها الطوائفية الدينية، بل سيفرض نفس الاختزال على الطائفة العلوية، ويجعله لعنة ووبالاً على وجودها ودورها في مستقبل سوريا. فتلك الجماعة السورية المذكورة فُرِضَ عليها من النظام الأسدي المجرم، أن تعيش حبيسة هويتها الطائفية وأن تصبح تلك الهويّة مصدراً لكراهية باقي أطياف المجتمع السوري لها وحقدهم عليها، سواء أراد أبناء المجموع العلوي ذلك الإطار الضيق أم لم يريدوه (كل العلويين المناهضين لنظام دمشق تم اعتقالهم واضطهادهم، بل تصفيتهم، بسبب رفضهم تلك الهوية الطوائفية). أي حل طوائفي في سوريا سيضع العلويين، دائماً، على تضاد مع سنّة سورية، ويفرض على الجماعتين مناخاً وفضاء تعايش مليئاً بتوتر وكراهية مضمرة وتقسيم ونأي عن الآخر، قوامه هوية طوائفية ضيقة. كلتا الجماعتين في سوريا التاريخية لم تؤمنا بها ولم تعيشا معاً على أساسها. خلق طائف سوري، سيفرض مثل تلك الحالة على السنة والعلويين/الشيعة في سوريا، رغماً عنهما، وبشكل يتناقض تماماً مع فهمهما لهويتهما السورية تاريخياً.

3 – أي حل سوري على نموذج الطائف اللبناني، سيؤدي إلى تصفية مسألة حقوق الأكراد من أساسها، ولن يخدم قضيتهم بأي شكل من الأشكال. فنموذج المحاصصة الطوائفي، يفترض تقسيم الجماعات المكونة على أساس تجمع سوسيولوجي ما، يقوم على الدين والانتماء العقائدي. هذا يعني أن الأكراد سيُحشرون في دائرة ما، سيصبح اسمها «الطائفة السنية» (بدل «مسلمي سوريا»). وستصبح حقوقهم جزءاً واحداً من حقوق أفراد تلك الطائفة العتيدة على كافة الصعد؛ تماماً مثلما حصل مع دروز لبنان حين تم حشرهم في دائرة الحصص العائدة للدائرة السنية، والأرمن حين تم حشرهم في دائرة الحصص العائدة للدائرة المسيحية. هذا سيعني أن مطالبة الأكراد بحقوقهم الثقافية واللغوية مثلاً، ستصبح أمراً ثانوياً أمام حقوق الدائرة السنّية الأوسع، وستبقى الهوية الكردية القومية والثقافية والسوسيولجية، دائماً في مستوى ثان أمام الهوية الطاغية في الشارع الطوائفي السني المتخيّل في المستقبل، والتي هي هوية عربية – دينية.

«طائف» كارثة على الجميع

4- أي حل طوائفي على نموذج الطائف اللبناني، هو أخيراً كارثة محيقة وكبرى على المسيحيين في سوريا. يراقب المسيحيون في سوريا، انجراف مسيحيي لبنان إلى دوامة صراع على السلطة وفساد سياسي وفشل «دولتي« وفادح، ويرون كيف قاد تورطهم، في محاصصات طائفية، إلى خسارتهم لدورهم الحقيقي في المشرق، بدل أن يقود إلى تنامي وازدهار هذا الدور، فيشعرون بقلق شديد ويفقدون أي حماس للتورط في مصير مماثل، في ما إذا آلت سوريا في المستقبل، إلى تركيبة طوائفية تحاصصية يقال لهم فيها: «إما تلعبون نفس اللعبة التفتيتية والتشرذمية المقيتة معنا، وإمّا فلترحلوا من هذه الأرض فأنتم لستم منا». أي انخراط للمسيحيين في نموذج طوائفي تحاصصي في سوريا المستقبل، سيجردهم من هويتهم الدينية والثقافية ومن إيمانهم بماهية علاقة المسيحي بالعالم والمجتمع، وسيجعلهم يتحولون إلى ما ليسوا عليه وإلى ما لا يدعوهم لا مسيحهم ولا إيمانهم ولا فهمهم لذاتهم إليه. لطالما كان المسيحيون في المشرق، دعاة تعددية وديمقراطية وهوية مدنية وحقوق مواطنة وسياقات سياسية معلمنة وحقوق إنسان. وما يعانيه المسيحيون في لبنان اليوم، هو نتاج تخليهم عن لعب هذا الدور وتحولهم إلى جزء لا يتجزأ من تلك التركيبة «الدولتية« والمجتمعية الطوائفية التي يقتضي إيمانهم ومنظومة قيمهم ومبادئهم الإيمانية والدينية قبل سواها، أن تجعلهم يثورون لنبذها والدعوة للتغلب عليها. مسيحيو سوريا لم يميلوا يوماً إلى النظر لأنفسهم من زاوية طوائفهم ومن باب دورهم في السلطة والنفوذ، بل كانوا دوماً ضنينين بانتمائهم القومي لسوريا وسوريا فقط، وحريصين على مصير الدولة لا على مآلات السلطة. ولطالما آمنوا أن مستقبلهم هو جزء لا يتجزأ من مستقبل شريكهم المسلم في الوطن. المؤسف أنهم اليوم، يجدون أن من سيمثلهم في المستقبل في سوريا، سيكونون أفراداً مسيحيين، إما من المعارضات السورية المعجونة بذهنية «التطايف« واللامدنية والتشرذم والمحاصصات، أو أشخاصاً مسيحيين من بقايا النظام المجرم، عقليتهم معجونة أيضاً بنفس المنطق «التطايفي« واللامدني والتشرذمي والتحاصصي. وسيفرض عليهم، كما سيفرض على سنّة وعلويي وأكراد سوريا، أن يختزلوا أنفسهم بانتماءاتهم العقائدية والطائفية الضيقة.

خلاصة القول، إن سوريا لا ينفع فيها أي حل طوائفي تحاصصي على الطريقة اللبنانية (ولا على الطريقة العراقية)، ورجائي وصرختي إن يتداعى أبناء وبنات سوريا المخلصون لها، إلى رفضه والتأكيد على خطورته على سوريا ما بعد نظام نيرون دمشق. أي حل من هذا النوع، سيكون مناسباً لأطراف النزاع المتحاربة من معارضات سورية وجهاديات إسلاموية سنية، من جهة، ومن نظام أسدي وجهاديات إسلاموية شيعية، من جهة أخرى. تلك الأطراف ستسعى بشكل محموم إلى حل طوائفي تحاصصي صرف في سوريا، الحل الذي يسعى إليه عادة، أمراء الحروب وقادة العصابات ومقتسمو الغنائم والفرائس حين يقررون أن ينهوا الحرب بينهم ويوقعوا معاهدة سلام. أما الشعب السوري نفسه، الضحية الأولى وربما الوحيدة في تلك الحرب البشعة والفظيعة، فهو شعب لا يمثله أمراء الحرب المذكورون أبداً، لذلك فهو لا يتماهى مع حلولهم ولا يبحث مثلهم عن حل طوائفي تحاصصي ولم يؤمن يوماً بأن ينتمي إلى بلد قوامه طوائفي. لطالما نظر السوريون إلى لبنان وأبدوا إعجابهم بتعدده الثقافي ومناخه الحضاري والمجتمعي المتنوع والمنفتح. إلا أنهم لطالما نظروا أيضاً إلى الواقع السياسي و«الدولتي« والدستوري اللبناني بعين الخوف والأسف والاستنكار، الشديدة والصريحة، ولم يتعاموا عن الفشل الذريع والفادح الذي آل إليه تطبيق اتفاق طوائف في لبنان. لا يريد عامة السوريون، سنة أو علويين أو مسيحيين، أن تصبح سوريا لبنان آخر، ولا يعتقدون أن إرضاء أمراء الحرب المحليين والأطراف الأقليمية المتصارعة بواسطتهم على الأرض السورية، بحل على نموذج اتفاق الطائف اللبناني سيعني حلاً لسوريا البلد والشعب وسيقود إلى بناء سوريا جديدة، بل سوريات متعددة مشوهة وعاجزة ومريضة تبدو من الخارج جميلة وجذابة وهي من الداخل مهترئة ومفككة وتغلي حقداً وطمعاً وكراهية…. تماماً كلبنان.

في المشرق العربي، فقط سوريا ومعها لبنان هما البلدان العربيان الوحيدان اللذان يمكن أن يتأسس فيهما دولة مواطنة ديمقراطية تعددية، ذات قوام مجتمعي مدني علماني تنوعي وتثاقفي، يقوم على قوانين ودساتير وضعية وحقوق إنسان. فقط هما يصلحان لتأسيس دول كهذه فيهما في العالم العربي. وكل من يدعو إلى حل على طريقة اتفاق طوائف ومحاصصات في سوريا كما في لبنان، ما هو إلا أعداء صريحين ضد تأسيس مثل تلك الدولة العصرية والحديثة المذكورة في كليهما.

كاتب وأستاذ لاهوت سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى