صفحات العالم

لماذا لم تفلح تجربة وأد الثورة الإيرانية في سوريا؟

 


دمشق ـ غازي دحمان

منذ بداية إنطلاق أحداث الثورة السورية، بدا واضحاً أن السلطات كانت قد تهيأت للحدث عبر خريطة ذهنية صاغتها من خلال قراءتها لثورات البلدان التي سبقت، في مصر وتونس، ولتلك التي سبقتهما في إيران. والواضح أيضا أن السلطات في سورية فحصت نقاط القوة والضعف في هذه الثورات الثلاث، وأين أخطأ النظامان التونسي والمصري ما أدى إلى انهيارهما بسرعة، وأين أصاب النظام في إيران وأستطاع قمع الثورة ووأدها.

نامت “النخبة”، على ما يسميها رامي مخلوف، عند حدود إستخلاصاتها عن وقائع الثورات. النظامان التونسي والمصري سقطا بفعل تحييد الجيش وعدم اللجوء إلى القوة المفرطة مع الأحداث، ثم السماح للمتظاهرين بالتجمع، وخاصة في الحالة المصرية، في ساحات وميادين إستراتيجية في قلب العاصمة، إضافة إلى ترك الحراك يتفاعل في المدينتين الرسميتين (القاهرة والإسكندرية) وهما تحت مجهر الإعلام وعلى مقربة من مراكز البعثات الدبلوماسية والقنصلية.

ومن التجربة الإيرانية تمثل الإستخلاص الأهم في التعامل القمعي مع الأحداث منذ بواكيرها ووأدها في المهد وقبل أن يصار إلى إنتشارها وتعميمها، ونزع رأس الثورة عن جسدها عبر الزج بكل الناشطين والمحركين للثورة في السجون، ثم تشويه مقاصد الثورة وغاياتها عبر ربطها بجهات مكروهة في الذاكرة الشعبية الإيرانية، أو الذاكرة القريبة التي أسسها نظام الملالي في إيران.

وفيما ظهر أنه ترجمة عملية للإستخلاصات الإيرانية، سارعت السلطات السورية إلى تنفيذ عملية قمعية عنيفة وواسعة النطاق، بدا فيها واضحاً حرق المراحل ومحاولة إختصار الأزمة بأقل وقت. فقد تزامن القمع المكثف مع إعتقال من يعتقد أنهم ناشطون ومحركون، مع إشتغال الماكينة الإعلامية بأقصى درجات تشغيلها للترويج لفكرة (الإمارات السلفية) و(العصابات المسلحة) و(المندسين). كان الهدف من وراء ذلك وأد الحراك في المكان الذي إنطلق منه والتعامل معه على أنه ظاهرة إحتجاجية محلية يصار في أحسن الأحوال إلى الإعتراف بمطالبها الخدمية، ونزع البعد السياسي منها، بل وتحويله إلى حجة عليها عبر إتهام دول الجوار بالتورط بالحدث السوري.

ولم تفلح كل إجراءات النظام وأساليبه لوأد الحراك في درعا. وعلى الرغم من تأخر إعلان وصوله إلى بقية المناطق السورية، إلا ان الحراك الذي سيبدأ قوياً في ضواحي دمشق (دوما وحرستا وبرزة والقابون والكسوة والميدان في قلب دمشق)، لن يلبث ان يعلن عن نفسه في حمص واللاذقية والقامشلي، ثم إدلب وحماة ودير الزور، بشكل أقوى من المتوقع، وبسقف مرتفع (إسقاط النظام) ورفض التحاور معه، وكان للدم المراق فعل السحر في إشتعال الثورة، كما كان للقهر والإذلال والقمع الذي مارسته أجهزة الأمن والشبيحة دور كبير في إستفزاز شرائح واسعة من الناس ودفعهم للمشاركة في فعاليات الثورة.

لماذا لم تنجح التجربة الإيرانية وقد عمدت السلطات السورية إلى تطبيقها بحرفيتها، وخاصة لجهة نزع رأس الثورة عن جسدها، والذي تمثل في الحالة السورية بحملة الإعتقالات التي طاولت الآلاف من الناشطين والمتظاهرين لدرجة تحولت معها حتى الملاعب الرياضية والمستودعات والمعارض إلى أماكن للإعتقال؟

الجواب على ذلك يمكن قراءته في حقيقتين تميزان المشهد السوري:

– الحقيقة الأولى وهي أن الثورة السورية لم يكن لها رأس حين إنطلاقتها، وبقدر ما أعتبر ذلك سمة ضعف لهذه الثورة لإفتقادها للقيادة الموجهة والمحركة ما يجعلها سهلة الإستهداف والإنكشاف، بقدر ما تبين أن ذلك عامل قوة مساعد بحيث جعل تقديرات الأجهزة غير صائبة على الدوام إذ كانت تعتقد أنها مع كل حالة إعتقال لناشط صارت تمسك على عنق الثورة، وهذه العملية كانت مجهدة للأجهزة الأمنية، كما اتاحت للثورة هامشاً زمنياً وتجربة عملياتية إستطاعت من خلالها فرز قيادات أساسية ورديفة، وهي ما باتت تسمى ب (التنسيقيات المحلية).

– أما الحقيقة الثانية فيمكن إرجاعها إلى الفارق في المكونات الأساسية للثورة في إيران وسورية، ففي حين تركزت المكونات الأساسية للثورة الإيرانية على أبناء الطبقة الوسطى في طهران تحديداً، مما جعل كسرها، أو على الأقل احتواءها، أسهل وأسرع، بالنظر إلى كون أهداف حراكات الطبقة الوسطى إصلاحية في الغالب، فإن الثورة السورية شملت فقراء الريف وأغنياءهم وأبناء العشوائيات والضواحي، ثم إلتحق بها أبناء الطبقات المتوسطة في عدة مدن، كما ضمت الإسلامي والعلماني والليبرالي واليساري والمسيحي (تحولت كنيسة شمال الخط في درعا إلى مستشفى ميداني لمداواة جرحى الثوار في درعا وسقط شهداء مسيحيون)، وهو الأمر الذي وسع مروحة المطالب ورفع سقفها وصبغها بطابع جذري وهو إسقاط النظام.

لكل ثورة دراما خاصة بها، ولها حيثياتها ومساراتها وطرقها الخاصة للتعبير عن نفسها. فكما لم يكن بالإمكان إستنساخ تجربة مصر ولا لبنان عبر ساحات الحرية لإختلاف التجربة السياسية في البلدين عنها في سورية، فإنه لم يكن بالإمكان أيضاً إستساخ تجربة القمع الإيرانية وتطبيقها على الحالة السورية، فإذا أمكن إجهاض التجربة الإيرانية، أو تأخيرها لظروف موضوعية، فإن الثورة السورية تجاوزت إحتمالية الإجهاض، وقدرة النظام على إنهائها، رغم إستمرار مسلسل القتل والقمع .

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى