صفحات مميزةعلا شيب الدين

لماذا “مصالحة” نظام الأسد باطلة وفاشلة؟/ علا شيب الدين

قد يتفّق لنا أن نحزن أو نتعجّب جرّاء مسيرات “عفوية”، مؤيدة لـ”رئيسٍ” قاتل، مكوَّنة من بضع عشرات سُيِّرت في الآونة الأخيرة، في مناطق تكبو في ما يشبه الشلل الذي يسببّه الاعتياد على الاستبداد والاستعباد، تمهيداً لـ”تجديد البيعة” لوارث حُكم البلاد والعباد، بُعيد انتصاف السنة الجارية! على أنه سرعان ما يثير إعجاب العقل المتيقّظ مشهدٌ آخر في مناطق أخرى من سوريا، كالتظاهرة الحاشدة التي خرجت في مدينة الصنمين بدرعا، ردّاً على محاولة النظام إخراج مسيرة مؤيدة، على رغم وجود العديد من القطع العسكرية والأمنية التابعة للنظام في المدينة؛ فنهزأ من أوهامٍ لا يزال نظام الأسد غارقاً في لجّتها، مريداً إقناع مريديه بواقعيتها.

مَن يتجوّل في شوارع العاصمة دمشق، بغاية “التأمل”، سوف يرى بأم العين دلائل القلق والإحساس بالنقص، بل الفزع، التي تعتور النظام، منها المبالغة الهائلة في استعراض العلَم ذي الخط الأحمر (علَمه)، إذ قلّما يخلو باب أو حائط أو حتى بسطة خضر وفاكهة من وجود العلَم تعليقاً أو رسماً أو طباعةً. حتى أن حافلات النقل العام التي طالما كان لونها أخضر خالصاً، تمّ استبدالها كلّها بأخرى لونها أحمر خالص، بشكل يعكس روحية الفزع من سقوطٍ مدوٍّ، ومن الثورة وعلَمها ذي الخط الأخضر، والانتقام تالياً من اللون الأخير، عبر محاولات حذفه من المجال البصري العام، ليس فقط لأنه يشير إلى الثورة والثائرين، بل أيضاً كونه يرمز إلى الحياة والتفتّح والنموّ. ناهيك بعبارات تخيف وتشي بخوف مصدِّرها دفعة واحدة، من قبيل “الأسد أو نحرق البلد”، “وحوش الفرقة الرابعة، التاسعة…”.

* * *

ضمن حملة الترويج للأسد قبيل انتهاء ولايته (الولاية لا تنتهي في حكم آل الأسد وعرفهم القائم على فكرة الأبد)، يندرج ما سمّاه النظام “المصالحة الوطنية”. معلومٌ أن إدخال بضع عشرات من الحصص الغذائية، في الشهر الماضي، إلى أحياء حمص القديمة الثائرة المحاصَرة، وإخراج بعض المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ منها إلى حيّ الوعر، المحاصَر أيضاً وإن يكن بشكل أخفّ وطأة؛ قابلَه سقوط عشرات الشهداء والجرحى من المحاصَرين أنفسهم، عبر استمرار قصف هؤلاء على يد قوات الأسد وشبيحته، على رغم هدنة “في رعاية” الأمم المتحدة، وقصف قوافل المساعدات الإنسانية بقذائف الهاون، واستهداف سيارات الأمم المتحدة والهلال الأحمر بالرصاص، واعتقال أو احتجاز المئات أثناء إخراجهم من الأحياء المحاصرة، وإذلال الناس عموماً الخارجين من الحصار أيما إذلال! فمَن رأى، مثلاً، مشهد أحد العاملين في الهلال الأحمر وهو يعطي موزة لأحد المسنّين، أمام الكاميرات، وكأن الأمر مكرمة أو هبة، لا حقّ خالص، ربما يستشفّ القليل من الإذلال لمَن ينوؤون تحت عبء الجوع والمرض والفقر الفادح، لناس ثاروا مجترحين “المعجزات” من أجل حياة حرة كريمة. ومَن سمع أحد الأعضاء في وفد الأمم المتحدة وهو يكلّم أحد الأشخاص من طرف النظام بواسطة الهاتف، راجياً “ضبط النفس”، مكرِّراً “رجاءه” هذا مرّات، لربما استشفّ أيضاً، حجم الاستهانة بحرمة الدم السوري والكرامة الإنسانية. طلبَ المحاصَرون وقتذاك دواءً، و”شوالات” برغل وأرزّ وطحين وخضر وفاكهة، فدخلت سيارتان تابعتان للهلال الأحمر، إحداهما محمّلة القليل من الطعام لألوف الجائعين، والثانية كانت محمَّلة منظفات، كماء جافيل، ومعجون وصابون، وفرشايات أسنان وطناجر، وأدوية منتهية الصلاحية، وفق ناشطين ميدانيين!

* * *

معلومٌ أيضاً أن نظام الأسد ذا الميراث الأسود في خرق الهدن؛ اقترح على ثوار حمص “مصالحة”، يُسمح من خلالها بإدخال المواد الغذائية إلى الأحياء المحاصرة الخارجة عن سيطرته، وإعادة الكهرباء إليها وترميم بعض البيوت المهدَّمة، وتشكيل لجان شعبية من الثوار أنفسهم لحماية مناطقهم، وخروج مَن يريد منهم الخروج، شرط تسليم الثوار سلاحهم وعتادهم بالكامل. تلك “المصالحة”، يسمّيها بعض الثوار “هدنة” من شأنها وقف إطلاق النار، وفكّ الحصار، لا المصالحة ولا الاستسلام، وفق ما يقوله ناشطون ميدانيون وإعلاميون هناك. في حين يرفضها بشدّة البعض الآخر من الثائرين، إذ قاد الثائر الشهير عبد الباسط الساروت، مثلاً، تظاهرة عبّر من خلالها عن الرفض القاطع لأيّ هدنة أو مصالحة مع النظام.

في بلدة ببيلا، خرج أيضاً بعض الأهالي في تظاهرة ندَّدت بـ”المصالحة” مع النظام. تلك البلدة التي تعرّضت أسوة بمناطق ريف دمشق الثائر، للقصف والتجويع على مدى أشهر طويلة، حتى باتت حياة الناس فيها تتهددها المجاعة، وصار الوضع مزرياً لا يُحتمل ولا يُطاق. خرجت التظاهرة المذكورة، بعد هدنة دخل على إثرها عناصر من جيش النظام إلى البلدة المحررة، ومحافِظ النظام في ريف دمشق وإعلاميون تابعون له، ورُفع على بعض أبنية البلدة، علمُ الدولة التقليدي ذو الخط الأحمر الذي أمسى رمزاً خاصاً بالاحتلال الأسدي. تحدث ناشطون ميدانيون عن الكثير في شأن تلك “المصالحة”، كمنع النظام خروج أحد من البلدة المذكورة إلى دمشق، سوى مَن يريده هو، ماضياً في تطبيق سياسة “الجوع أو الركوع”. الناشطون أنفسهم تحدثوا عن اعتقالات حصلت في المناطق التي روّج النظام أن “المصالحة” فيها جرت لإغاثة الأهالي، وهناك عائلات بأكملها جرى اعتقالها حسبما أفادوا.

ما حصل في بلدتَي ببيلا وبيت سحم وغيرهما، حصل من قبلُ في المعضمية في غوطة دمشق الغربية، حيث رُفع أيضاً علَم النظام في المدينة التي استُشهد فيها العديد من الناس جرّاء الجوع، إثر حصار نظاميّ مطبق على المدينة دام شهوراً طويلة؛ بعد السماح بدخول القليل من الطعام إلى المدينة بالنسبة إلى مَن آثر البقاء فيها، وبخروج مَن يريد الخروج إلى مخيّم أُنشئ في قدسيّا، تحدث ناشطون عن اعتقال البعض منهم، وتصفية البعض الآخر أثناء الخروج، فحيث يغلو الطعام ترخص الحياة، على ما يظهر! “المصالحة” حصلت في برزة أيضاً، وهذه التي لا تبعد عن مركز العاصمة سوى دقائق قليلة جداً بالسيارة، أعيت النظام بصمودها، وبعد جهد جهيد، ربما وجدَ أن من مصلحته الدخول في “مصالحة” مع ثوارها.

* * *

وفق ناشطين، كان هناك اتصالات في شأن تلك “المصالحة”، أجراها النظام قبل نحو شهرين من “تنفيذها” في بعض المناطق المحررة التي ليست بالنسبة إليه، بخطورة مناطق أخرى ثائرة محررة من مثل دوما وحرستا في غوطة دمشق الشرقية، وغيرهما مما لا يمكن أن يُقدِم فيها النظام على الإجراء نفسه. كان من بين أسباب “المصالحة”، التفرّغ ربما لمعركة القلمون التي صار عمرها حتى لحظة كتابة السطور29 يوماً (قبل عشرة أيام)، ولا تزال مستعرة، يسطر فيها الثائرون كل يوم ملاحم بطولية، خصوصاً في يبرود (مدينة الحرية والتعايش العريق الرائع بين الأديان والطوائف)، حيث تقاتل إلى جانب النظام هناك ميليشيات “حزب الله” (حالش)، إضافة إلى ميليشيات طائفية غازية أخرى قادمة من العراق.

تجدر الإشارة إلى أنّ داريا مثلاً، بريف دمشق الغربي، تلك المدنية الثائرة الصامدة في وجه النظام الأسدي منذ أعوام، الموجودة قبالة قصرِ “رئيسٍ” لطالما ذهب يوماً ليلتقط صوراً مع قواته “الباسلة” بالقرب منها، مدّعياً إحرازه النصر عليها؛ قد صارت مدمَّرة 80 في المئة تقريباً، وفق ناشطين ميدانيين، بفعل البراميل المتفجرة التي أُلقيت عليها من طائرات النظام؛ كون قواته عجزت عن اقتحامها. وأنّ بلدة لا تتجاوز مساحتها 2 كم، من مثل الزارة بريف حمص الغربيّ، ظلّت صامدة في وجه قوات الأسد التي عجزت عن اقتحامها قبل مرور57 يوماً، استهدفتها خلالها بصواريخ “سكود”، وبالبراميل المتفجرة وأنواع الأسلحة كافة. وفق ناشطين ميدانيين أيضاً، تجاوز عدد الشهداء يوم 10 آذار 2014 في المجزرة التي ارتكبتها قوات الأسد بعد اقتحامها بلدة الزارة، تسعين شهيداً، بينهم نساء وأطفال.

في العودة إلى سؤال العنوان

صار في الإمكان ربما، بعد الإنارة على بعض التفاصيل المنتمية للواقع، الإجابة عن السؤال المطروح، إذ “المصالحة” المشار إليها، باطلة وفاشلة في آن واحد، كونها:

أ- من حيث الشكل والمضمون: تنعدم فيها الندّية، فـ”ما الصلح إلا معاهدة بين ندّيْن (في شرف القلب) لا تُنتقَص”، إن شئنا فهم الصلح في ضوء قصيدة “لا تصالح” الثائرة للشاعر أمل دنقل. النظام ليس ندّاً للشعب الثائر من ناحية أخلاقية وإنسانية وقيمية، كما أن الشعب نفسه ليس ندّاً للنظام، من ناحية القوة الغاشمة، وهذه، بطبيعة الحال، ليست من الرجولة والبطولة في شيء. أين الرجولة والبطولة، في حصار أطفال ونساء وأبرياء عزّل؟! أو في الاستقواء على هؤلاء، وقصفهم من بعيد بأنواع الأسلحة كافة، خوفاً من مواجهة حقيقية، أو مبارزة ندّية على الأرض، في ميدان المعركة، وجهاً لوجه، رجلاً لرجل؟! تالياً، أين النبل الأخلاقي في “مصالحةِ” بشرٍ تمّ إنهاكهم جوعاً وعطشاً وقصفاً وذلاً، تُراد “مصالحتهم” انطلاقاً من المساومة على حقّهم الطبيعي والمقدّس في الحياة؟! كيف تصحّ، مصالحةٌ يُقتَل فيها ناس ويُعتقل ناس، في مقابل كلّ رغيف خبز “يُمنح”؟! وأيّ “مصالحة” تلك التي تنهض على أنقاض البيوت المدمَّرة والأسَر المحطَّمة، فوق الجماجم والجثث والأشلاء، بالقرب من المراق من الدماء، بعيداً من ملايين من المشرّدين واللاجئين والمهجّرين والنازحين، وألوف المعتقلين والمعذّبين والمغيّبين؟! أيّ “مصالحة” تلك التي يُراد إمرارها، قبل محاسبة القتلة والمجرمين؟! كل ما يُبنى على باطل، باطل.

تلغي الضرورة الفيزيائية الحرية، كونها تجعل من المتعذر عملياً تغيير حال الأشياء الراهنة؛ هكذا هي حال المحاصَرين الذين تتهددهم المجاعة، فهم سجناء مكبلون بالأغلال لا يستطيعون حراكاً ولا إفلاتاً، بيدَ أن تصورهم حرّ طليق، وسوف تتلاشى الضرورة الفيزيائية حين يحطمون أغلالهم ويستعيدون حرية حركتهم، خصوصاً أن السوريين في الأصل لم يثوروا لأسباب محض اقتصادية، ولا من أجل الخبز فقط. هكذا، يظهر بوضوح بطلان تلك المصالحة وفشلها شكلاً ومضموناً، إذ حق الحياة لا يعني فقط أنّ الإنسان لا يسيء إلى أحد إذا أبقى حياته، وإنما يعني بشكل خاص، أنّ خطيئةً سوف يقترفها الآخرون عند منعه من أن يعيش، ويعني أنّ من أهم واجباتهم عدم قتله، بل أنّ من واجبهم بحسب الظروف، مساعدته على أن يحيا ويعيش. إن مساعي تحويل الواجب والحق إلى “مصالحة” قائمة على أسسٍ هشّة تضليلية ومخادعة، كالحسنة والهبة والمنحة والمكرمة من سلطة غاصبة ومغتصِبة، تتعاطى مع الناس بوصفهم عبيداً عندها، من شأنه تقويض الأخلاق برمّتها، ودائرة الأخلاق كما هو معلوم، أوسع من دائرة الحق.

ب- من حيث الوسيلة والغاية: فـ”المصالحة” مفارِقة للواقع، حيث يعيش النظام من خلالها، أوهام إعادة سوريا إلى حظيرته. هي بالنسبة إليه بمثابة تنازلات استراتيجيّة، يسعى عبرها إلى أن تخرج تظاهرة مؤيدة له في المناطق المحررة، وتُرفع أعلامه وصور رئيسه، لكي يحرز من ذلك نصراً إعلامياً، كما يريد مواصلة عملية احتكاره “الحلول”، واتخاذ الناس كرهينة. لكن الواقع يقول: إن مساحات واسعة وشاسعة من سوريا، تحرَّرت من قبضة النظام، ولم يعد يسيطر فيها سوى على سماءٍ يرمي منها براميله المتفجرة وقنابله العنقودية والحارقة. وحيث أنّ العوامل الأرضية هي التي تسود آخر الأمر، فإن الهيمنة السياسية في المناطق المحررة، هي في نهاية المطاف، في أيدي الثائرين، إذ حتى عندما دخلت إلى بعض تلك المناطق، قواتُ النظام جرّاء “مصالحة”، سرعان ما عادت الهيمنة لمجتمع الثورة، ما إن انسحبت منها قوات النظام. فالتعليم والصحة والتموين وغير ذلك في بلدة ببيلا مثلاً، في أيدي قوى الثورة.

هناك انكسار وانحسار كبيران في الولاء للنظام، حتى في المناطق التي لا تزال خاضعة لسيطرته، وهذا أدى إلى بروز زعامات محلّية، تعصي قراراته أحياناً وتتمرد عليها. فرفضُ إدخال مساعدات إنسانية إلى المحاصَرين في أحياء حمص القديمة، من قبَل البعض في أحياء موالية من المحافظة نفسها، أو استياء بعض الموالين من الإفراج عن معتقَلات سوريات في سجون النظام، مقابل الإفراج عن راهبات معلولا، ضمن صفقة التبادل التي جرت في 9 آذار 2014، بعد شكر الأخيرات الثوار وامتداحهم والتصريح بأنهنّ تلقّيْن منهم معاملةً حسنة. وغير ذلك من أمثلة، يدلّل على ضعضعة هيبة النظام ورهبته إلى حدّ كبير، ويبيّن إلى أي مدى أنتجَ النظام مَن يفوقه قسوة وبشاعة، ويبرهن أخيراً، على لا واقعية “مصالحة” تبتغي إعادة بلدٍ مشتعل في معظمه حرباً وثورةً، إلى حظيرة نظام متهالك، بل بطلانها وفشلها، وسيلةً وغايةً. خصوصاً أنّ دمشق، فقدت، من وجهةٍ اقتصادية، دورها المركزي اقتصادياً، وهذا أفضى، إلى بروز اقتصادات مستقلة. عدا ذلك، فالجيش النظامي ما عاد جيشاً بالمعنى المعروف، بعدما استحال ميليشيات، فصرنا نسمع عن تشكيلات من مثل “كتائب البعث”، أو “أنصار الجيش العربي السوري” في الرقة، وغيرها مما يدلّ على تفتّت جيش النظام وتشرذمه.

يريد النظام إعادة سوريا إلى حظيرته، بثباتٍ لا يقبل تصويباً أو تعديلاً أو تطويراً، متعامياً عن المتغيرات والمستجدّات، لاجئاً إلى مراوغات من مثل “المصالحة الوطنية”، معبِّراً هو وأتباعه عنها بخطاب كـ”العودة إلى حضن الوطن”، أو “عودة سوريا إلى ما كانت عليه قبل الأزمة”، وغير ذلك من تهويمات نظرية مريضة، يعتبر فيها النظام نفسه “أباً”، ضلّ ابنه، أي الشعب الثائر القاصر، المغرَّر به، الذي شبّ عن الطوق، وارتكب المعاصي في عصيان كلمته. على رغم ذلك، سوف يصفح الأب عن الابن الضال إذا ما عاد إلى حضن الوطن (عائلة الأسد). أمّا عن عودة سوريا إلى ما كانت عليه قبل “الأزمة”، فخطاب يريد النظام وأتباعه من خلاله، المضيّ قُدماً في زرع الحقد في النفوس حيال الثورة، عبر الإيحاء بأنها هي السبب في جرّ البلاد إلى الويلات، لا النظام، والإيهام تالياً، عبر استمالة العواطف، بأن سوريا قبل اندلاع الثورة كانت كأنها “جنّة الله على الأرض”. في خطاب ميت كهذا، دلالة دامغة على بطلان ما يُسمى “المصالحة الوطنية”، وفشله، كونه خطاباً مشوباً بالعجرفة ونفاق العفّة، لا يكترث للفظاعات التي تنهش بنيان سوريا، لا ينتمي إلى الواقع ككثرة، لا يعترف بآخَر، ولا بثورة، ولا بحقوق إنسان وحرية وكرامة ومساواة وعدل وديموقراطية وتداول سلمي للسلطة وتوزيع عادل للثروة.

لا نلوم بل نعيب

لمّا كنا نشدّ على أيادي مَن رفضوا “مصالحة” النظام، من الثائرين والأحرار، ونحيّيهم، فإننا لا نلوم، من جهة أُخرى، بشراً يذويهم الجوع والمرض والفقر وباتت تتهددهم المجاعة، لا سيّما أنهم صمدوا صموداً عظيماً، حتى حانت اللحظة التي كان طبيعياً فيها أن تكون قواهم قد خارت وانهارت، وباتت معها الحرية، وهي القيمة الأعظم طراً، ترفاً لا يجيء إلا بعد التحرر من ربقة الجوع. غير أننا نعيب – كي لا نقول نلعن- على “المجتمع الدولي” تعاميه عما يحصل، بل تواطئه مع الطبيب القاتل ونظامه، واكتفاء الأمم المتحدة بالشجب، والتعريف بالمعروف: “سياسة التجويع التي يتّبعها النظام هي جريمة حرب”. نعيب على كل سوري، في أي بقعة سوريّة، صَمَتَ أو والى القاتل الأكبر على رغم ما فعله ولا يزال. نعيب على مَن قست قلوبهم، وخشنت أرواحهم وعقولهم، واستساغوا “القتل الطبيعي”، وانتشوا تشفّياً بأخوتهم في الوطن والإنسانية، وابتهاجاً بألمٍ أُنزِل بهم، وغير ذلك كثير من هذه القسوة التي هي من لوازم الحرب على ما يبدو؛ فخرجوا في بعض الأحياء الموالية بحمص، رافضين فكّ الحصار عن الأحياء الثائرة، وكان تجويع الناس لا يشوبه في أعينهم بشاعة ولا يستتبع تأنيباً من الضمير. نعيب، على سبيل نموذجٍ حتماً لا يُحتذى، على بعض فصائل “المعارضة” السياسية، كـ”هيئة التنسيق” التي تعارض الثورة، بل تعاديها. “الهيئة” التي طالما استلّت من الشعب السوري الثائر “لاءاته الثلاث” لتعيدها إليه خنجراً في خاصرة ثورته، كرمى للعدوّ الحقيقي للاءات نفسها. فالنظام الأسدي هو الطائفي الأول والأكبر، هو العنيف الباطش، هو الحارس الأمين من قبلُ ومن بعدُ للخارج وتدخّلاته. نعيب على مَن سمّوا أنفسهم “أصدقاء الشعب السوري” ثم تخلّوا عنه وتركوه وحيداً يواجه مصيراً مفجعاً. نعيب على كل مثقف دافع عن نظام الاستبداد وعادى حرية الشعب. نعيب على كل متخاذل، على كل مَن كان قادراً على أن يساعد ولم يفعل.

* * *

ذات يوم قالت امرأة: “طِلعِتْ من درعا؛ وانشالله بتكون نهايتهم بدرعا”. إنه لَمن دواعي سروري، بل غبطتي، إنهاء سطوري بحدسِ امرأة من درعا مهد ثورة الحرية والكرامة السورية.

* كاتبة سوريّة

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى