راشد عيسىصفحات الثقافة

لماذا منع الرئيس السوري “نجوم النهار”: عُرض في كل مهرجانات العالم ولم يُعرض جماهيرياً في بلده/ راشد عيسى

 

يشكل الفيلم السوري «نجوم النهار» (1988) واحداً من أشهر حكايات المنع في سوريا، ودليلاً على مهزلة الرقابة والرقيب، التي دامت منذ حَكمَ «البعث» البلاد إثر انقلاب عام 1963 إلى أيامنا هذه. فالمنع ينطوي على مفارقة أن الجهة المنتجة للفيلم الروائي، وهي «المؤسسة العامة للسينما»، هي ذاتها التي قامت بمنع الفيلم (عرض أخيراً في باريس في إطار نشاطات النادي السينمائي السوري). لكن ليست هذه هي المفارقة الوحيدة، فالفيلم منع فقط من العرض الجماهيري في صالات العرض السورية، في الوقت الذي لم يبق مهرجان دولي إلا وشارك فيه ممثلاً لسوريا، بما فيها «مهرجان دمشق السينمائي».

حين سُئل مخرج الفيلم أسامة محمد ذات مرة عن حكاية المنع قال «لن أعيد سرد القصّة. لأن في القصة غصّة. الموظفون والمدراء وكل طاقم وزارة الثقافة. كيف قضوا تلك الليلة بعد عرض الفيلم! الهواتف التي تلقوها، والنبرة والأسئلة والأوامر». لكن المخرج يتبنى ويعيد رواية الصحافة عن المنع «طلب الرئيس (حافظ الأسد) مشاهدتَه بعد أن سمع انتقادات كثيرة حوله، وجّهها بعض من كانوا حول الرئيس، وأخبروه أن أسامة محمد يسخر منهم في الفيلم، وقتها تم نقل كل تجهيزات العرض إلى القصر الرئاسي، وقد ضحك الرئيس كثيراً أثناء مشاهدته الفيلم، ثم قال لمن كان ينتقده أن حساسيتهم الزائدة جعلتهم يرون أنفسهم في سلوك الشخصيات». ومع ذلك جرى ما جرى للفيلم وحرم من العرض الجماهيري.

في هذه الرواية شكل من أشكال إلقاء اللوم على الحاشية، وهو أسلوب عهدناه مراراً في تنزيه الحاكم، فإذا ثبت فعلاً أن هناك خطأ أو فساد في ناحية ما فلا شك أن لا علم للرئيس، وأن هناك من أخفى عنه تلك الحقائق! لا نعني بذلك أن المخرج مشارك بذلك التنزيه، فقد تكون الرواية وصلت وعممت هكذا بالفعل. رغم أن هناك رواية منافسة تقول إن فيلمين عرضا على الرئيس، وهما قد أنتجا في وقت واحد تقريباً، فيلم «ليالي ابن آوى» (1989) للمخرج عبداللطيف عبدالحميد، إلى جانب «نجوم النهار». وقد شاع أن الأسد ضحك للأول، وسكت وتجهّم بخصوص الثاني، ففُهم السكوت علامة عن عدم الرضا. معلوم أن الفيلمين يدوران في البيئة الساحلية الريفية السورية، حيث تتحدر عائلة الأسد. وعلى ما يبدو هنا بالذات تكمن الحساسية كلها.

الاغتصاب

يعتمد الفيلم حكاية ريفية، رائجة في أوساط الريفيين والبدو، ونعني زواج المبادلة. يعرض الفيلم لحفل زواج ريفي في إطار عائلة واحدة؛ تزويج ابن العم القادم من غربته في ألمانيا من سناء (صباح السالم)، وتزويج أخيها كاسر (زهير عبدالكريم) من ابنة العم. لكن الحفل المشترك سيفسده هروب إحدى العروسين في ليلة العرس تلك، مما يدفع العروس الأخرى للرد بالمثل برفض عريسها. هذا الهروب هو الحجر الدرامي الذي سيلقى في بركة الأحداث الساكنة التي كانت تمضي في طريقها بيسر. الحجر سيفضح ما وراء الفرح الظاهر، من تسلّط وعنف واغتصاب وكذب ونفاق وغيره، مما يسود مجتمع تلك الأيام.

هكذا سنتعرف إلى شخصيات، لنقل إنها أنماط، أو محاولات تنميط. الأخ الأكبر المتسلط خليل (أداه عبداللطيف عبدالحميد ببراعة)، يريد أن يستأثر بكل شيء، يلاحق أخاه الأصغر لتخليصه مبلغ من المال، يتسلط على راتب الأخت العاملة في معمل، ولا يتردد في إهانتها لإرضاء زوجته المفترية (لعبتها الراحلة مها الصالح). لدينا أيضاً شخصية مثقف يؤديها زهير رمضان، يبدو أنه بعثي الهوى فهو ليس سوى خطاب فارغ مضحك، مدّع، ومغرور. لا شيء يردعه عن التحرش بفتاة في بيت الأقارب الذي يستضيفه. حتى العريس القادم من ألمانيا هو نموذج كوميدي آخر. ترك غربته وعاد كرمى لعيون البلد، لكنه سرعان ما يقرر العودة عند خيبة العرس تلك. هو نموذج لأولئك الذين يشعرون أنه لا يمكن لأوروبا أن تعيش من دونهم، وهم بدورهم تركوا كل المغريات وجاؤوا إلى بلد لن يقدر مواهبهم.

تذهب العروس سناء لتعيش في بيت الأخ خليل، أثناء عملها تتعرف إلى شاب بسيط، ورغم أنه يدخل بيت العائلة من بابه سيتعرض لأفظع إهانة حين يشاهدها إخوة البنت معها في الطريق، حينها سيستدعون عباس صاحب المركز المرموق (عسكري أو أمني) في السلطة كي يتزوج منها. لكن عباس، العريس الجديد، يبدو أنه يصرّ على أخذ الأشياء اغتصاباً، هكذا سيتعامل مع عروسه حين يقوم باغتصابها بدم بارد.

الأخ الأصغر كاسر (زهير عبدالكريم) يعاني من نقص حاد في السمع نتيجة صفعة تلقاها من الأب في الصغر، هو الأكثر صفاء وبراءة، يحاول هو الآخر التمرد على العائلة، فيختار السفر إلى دمشق، هناك سيلتقي بصديق له يخدم في الجيش. يمضي معه إلى حيث يقيم على سطح بيت (الحياة على هامش المدينة). وفي الصباح سنراه في شوارع المدينة، ساحة السبع بحرات في وسط دمشق تحديداً، يمشي وبيده رسالة صديقه التي يحذره فيها من الغرق في المدينة. على وقع هذا التحذير سيصل كاسر إلى ساحة السبع بحرات، فيما تصل أيضاً سيارة رش المبيدات لتملأ المكان بالدخان الأبيض الكثيف، سرعان ما يغرق الشاب الريفي البريء في ضباب المدينة في مشهد ختام معبّر.

نقد للطائفة

الشخصيات التي قدمها الفيلم هي أنماط كاريكاتيرية مضحكة، ورغم أنها متقنة الصنع، كتابة وأداءً تمثيلياً، قد تبدو هي بالذات ما يأخذ الفيلم باتجاه المسرح لا السينما. إنها في وقفتها وخطابها وأدائها تقارب وقوف الممثل على الخشبة، وقد يعزّز وجود الجمهور، ضيوف الفرح، هذا الانطباع. كذلك فإن الكلام الكثير، إلى حد الثرثرة يضعف إلى حد كبير صنعة الفيلم.

«نجوم النهار» مليء بالرموز التي تشكّل جرأته واستثنائيته، التي ربما تكون عرّضته للمنع. لندع جانباً الافتراض بأن بعض المعترضين على العمل قد يكون رأى نفسه في تلك الشخصيات- الأضحوكة، فهناك ما هو أهم. فالفيلم يعرض لبيئة رثّة، قد يرى فيه المتنفذون في السلطة إساءة وتلويثاً لنسبهم وانتمائهم. هناك جرعة كبيرة من النقد والتهكم من عناصر تلك البيئة، شخصيات وعادات ورموز. من المفيد هنا سوق رأي لزميل يتحدّر من البيئة ذاتها، يقول «المقارنة بين فيلم عبد اللطيف عبد الحميد وفيلم أسامة محمد مفيدة لجهة ملاحظة الحضور الجماهيري العلوي الكبير لفيلم عبد اللطيف عبد الحميد، بينما فيلم أسامة محمد كان موجهاً أكثر للسوريين بشكل عام. فيلم عبد الحميد فيه نوع من «التطبيع» لحضور العلويين في المشهد السوري بينما فيلم أسامة محمد فيه نوع من النقد، وهذا يفسر منع الفيلم الأخير من العرض الجماهيري في سوريا بينما كان يسمح بعرضه في المهرجانات العالمية لكسب دعاية للنظام في الخارج».

من الواضح أن المخرج لم يكن يقصد الريف في نقده لذلك الجزء من البيئة السورية، بل أراد أن يوجه نقداً للطائفة، وهنا بالذات جرأته الاستثنائية. ليس عبثاً أن يستخدم الفيلم في مشاهده الافتتاحية قراءة الشيخ كبير العائلة الآية القرآنية «لكم دينكم ولي دين». وصولاً إلى انتقاد طغيان ثقافة الأقلية: حين ينزل الشاب إلى المدينة سيرى كيف امتلأت شوارعها بصورة المغني الذي يتحدّر من هناك، هو المغني فؤاد غازي، إنه رمز ثقافي في تلك الآونة، يشبه إلى حد كبير اليوم مغنياً آخر هو علي الديك (رغم الفارق بينهما في المستوى الفني). في السنوات الأخيرة بدا وكأن سوريا لم تنجب سوى علي الديك. غازي يحضر شخصياً ليغني في عرس تلك الضيعة. هؤلاء العسكر جاؤوا ومعهم ثقافتهم ورموزهم وأغانيهم، لم تكن مصادفة أن الأغنية الأشهر لفؤاد غازي «لزرعلك بستان ورود» كانت من كلمات ضابط في «سرايا الدفاع»، القوة الأكثر بطشاً ووحشية في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي. ليس غريباً إذاً أن يكون هناك مثقفون برتبة عسكرية، وأن يكون كتاب دراما تلفزيونية وسينمائيون وموظفون إعلاميون مرموقون ضباطاً سابقين، أو بمثابة ضباط على رأس عملهم.

فيلم «نجوم النهار» مزدحم بالرموز؛ العسكر، قوة التديّن، طغيان ثقافة الأقلية الحاكمة، احتلال الفضاء العام للمدينة، العيش على هامشها،.. كان يمكن له أن يعرض في زمنه قبل ستة وعشرين عاماً، لكن كم كان من العسير أن يتحدث السوريون عن كل تلك الرموز في زمن الرعب الذي ساد سوريا، لذلك فإنه رغم جولاته في المهرجانات المحلية والأجنبية لم ينل حقّه من النقاش، السينمائي وغير السينمائي.

باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى