إيلي عبدوصفحات سورية

لماذا يقبل السوريون «المحتل السني»؟/ إيلي عبدو

 

 

دخل العسكر التركي، الذي يتفنن في بلاده بحرق القرى الكردية، قصفاً وتهجيراً، إلى مدينة إدلب السورية، مرافقاً بعناصر من براغماتيي هيئة «تحرير الشام» (بينها النصرة سابقاً). والمرافقة اللوجستية تكشف عن شقاق فاضح بين الهدف المعلن من الدخول، أي ضبط الجماعات المتطرفة، والتعامل مع الأخيرة بوصفها حليفة ومرشدة. والتسلل الذي اكتسب شرعيته من اتفاق مع روسيا، ليس سوى جزء من سلسلة تفاهمات بين البوتينية والأردوغانية، فرضها، تلوّن الإسلام السياسي، الذي يحكم أنقرة، من جهة، والتخلي الغربي الذي شجّع موسكو على امتلاك الكلمة الفصل في سوريا، من جهة ثانية.

ورغم أن تركيا، انغمست منذ بداية الثورة، في حياكة مصالح متشابكة، تحوّلت اتجاهاتها تبعاً لمخططات الخصوم الأكراد، وفرضت مواقع متقدمة لها على المستوى الميداني، وفي صفوف المعارضة، لكن العبور إلى إدلب بدا التدخل الأكثر علانية ووضوحاً. فقبل ذلك، جمّلت أنقرة تدخلها في مناطق سوريا بحلفاء من مجموعات الجيش الحر، اخترعت لهم اسم «درع الفرات». ففرّغت معنى القتال ضد النظام، ومنحته بعداً مصلحياً، تمثل بحماية حدودها من الخطر الكردي. وباستثناء أصوت نادرة داخل المعارضة السورية، لم تصدر مواقف رسمية أو شعبية صارمة ضد الدخول التركي، الذي ينزع نحو مصلحة مضادة للثورة، ويتسق مع خيارات خصومها والمنكلين ببيئاتها المحلية. وإذا كان صمت التكتلات السياسية، التي استولت على قول السوريين في المحافل الدولية، وصادرت خياراتهم، مرتبطا بعلاقات مع القيادة الأردوغانية، تبدأ بالاستضافة وتنتهي بالتحكم بالقرار والسلوك، فإن للقبول الشعبي في الشارع المعارض، والحماس للدخول التركي، مبررات أخرى. ذاك أن الاستقطاب السني – الشيعي، الذي صاحب الثورة مع دخولها طور العنف، ولّد انحيازات عمياء لا تراعي المصلحة السورية، وتفضل طرفا على آخر بحكم هويته، لا قياساً بنفعه وفائدته. وعليه، بات أردوغان منقذا دائماً للسوريين، رغم سلوكه المتخاذل معهم وتحالفه مع أعدائهم القادمين لقتلهم وتشريدهم.

والانحيازات تلك، ليست نتائج للواقع الحالي المعقد فقط، وضيق خيارات السوريين، بل ثمة ما هو تاريخي، ويتمثل بضعف تأثير الرواية البعثية عن عقود طويلة من التواجد العثماني الثقيل في سوريا. جماعات غالبها يقطن الحزام الذي يطوق حلب وإدلب، تميل نحو تركيا، خصوصاً في ظل وطنية سورية تفتقد إلى الإجماع وتفرض نفسها، قسراً وعسفاً، من فوق على المجتمع، عدا عن السنوات الست الماضية التي شهدت انقسامات عمودية وأفقية، تركت الجماعات عرضة لكل أهواء ما خلف الحدود. والنازحون السوريون المتواجدون في تركيا ضمن شروط جيدة قياسا ببقية دول الجوار، يضيفون سبباً آخر للولاء الأردوغاني. وبعضهم، لم يكن أقل حماساً من مؤيدي الزعيم الإسلامي، عند محاولة الانقلاب الفاشل فبدا الأمر أقرب إلى الوطنية التركية المركبة على مقاس «العدالة والتنمية» منهم إلى الوطنية السورية الضبابية وغير الواضحة.

«المحتل السني» إذن، بصيغته التركية، مقبول في الحاضر، باعتباره أفضل من المحتلين «الشيعي» و»العلوي»، ويمكن تأصيل مشروعيته في الماضي، خصوصاً إذا ما جرت مقارنته مع الانتداب الفرنسي، الذي ساهم في صعود أقليات ترى الكثير من مرويات الثورة أنها السبب في ما يحصل حالياً من استبداد وحشي يرمي البراميل المتفجرة على الأكثرية ويشمت بموتها. و»المحتل» هنا، لا يقاس على تعريفات كلاسيكية ماضية، وإنما على قاعدة التدخل المصلحية التي تساهم في تحوير الصراع ونقل اتجاهه من معركة ضد الاستبداد إلى تحقيق منافع هنا وهناك، وتحوّل السوريين إلى حراس حدود، وتزيد التوتر بينهم وبين الأكراد.

ضعف الحساسية المعارضة، شعبياً وسياسياً، حيال التدخل التركي، دليل، يضاف إلى أدلة سابقة يصعب إحصاؤها، عن انهيار الإطار الوطني السوري، وتوزع الولاءات انطلاقاً من بعد هوياتي – طائفي، تشاء صدف التاريخ أن يكون هذا البعد، حيلة بيد رجل، يريد مواصلة حكمه، ببراغماتية يصعب حصر تناقضاتها.

٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى