صفحات الثقافة

لماذا يقرأ العربيّ أدب السجون؟/ إيمان القويفلي

 

دخل العربيّ عبر الترجمة إلى كلّ سجون العالم، الحقيقية والـمُتخيلة في الكتب والأفلام، إلا أن علاقة العربيّ مع أدب السجن العربي فريدة وخاصة. فكرة السجن في الأدب والفنّ العالميّ تغلب عليها الخيالية المحضة، أو التاريخية الكاملة، حيث أشهر نصوصها ونماذجها تأتي بمثابة نظرةٍ إلى الوراء، وتسجيلٍ لحقائقِ تاريخٍ تمّ تجاوزه والانتصار عليه، مذكرات مانديلا في سجن دولة الفصل العنصري أو قصص وأفلام سجناء الحرب الأهلية في آيرلندا الشمالية أو معتقلي الأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية أو سجناء ألكتراز، جميع هذه السجون أغلقتها التحولات الديمقراطية والحقوقية خلال الثلث الأخير من القرن العشرين. ما يُميّز أدب السجون العربيّ هو الأمر المعاكس بالضبط، فعلى قدر ارتفاع أسوار السجن العربي، المادية والنفسية، ينعدم في أدب السجون الخطّ الفاصل بين التاريخي والراهن، والمُتخيّل والواقع، والمجتمع المسجون داخل السجن والمجتمع المسجون خارجه، والدولة العربية وجارتها.

ليس السجن العربيّ اليوم تاريخاً مهما تقادم بهِ العهد، ولا خيالاً مهما جمحت بهِ المُخيّلة، وكل حكاية ماضية تنفتح على واقعٍ حاليّ. بهذا المعنى، يصبح مفهوم “أدب السجون” أوسع بكثير من حبسه في السّرد وحده، إذ يمكنه أن يتّسع عربياً ليشمل الرواية والسيرة الذاتية والشعر، بالإضافة إلى الأفلام الدرامية والصور الحقيقية والشهادات الحية وتقارير المنظمات الدولية. في أدب السجون العربي تذوب الحدود، وكل قطعة من هذا “الأدب” تنفتح على الأخرى، وكلّ

“تجربة السجين هي تجربة العربيّ في حدودها القصوى المتطرّفة التي يخشى الجميع مقاربتها” مَمرٍّ في سجنٍ عربي يُفضي إلى باحات سجنٍ عربيٍ آخر. شهادة سجين تزمامارت، أحمد المرزوقي، مَمرّ إلى أحمد زكي في فيلم “البريء”. ورواية “القوقعة” لمصطفى خليفة تنفتح على شهادة سامي براهم أمام هيئة الحقيقة والكرامة في تونس. بحوث منظمة العفو الدولية عن صيدنايا تقود إلى مقالات علاء عبدالفتاح المكتوبة في طُرّة. سيرة “السجينة” مليكة أوفقير تنفتح على شهادات ضحايا سنوات الجمر الذين أشرف والدها على تعذيبهم. التدوينات الطازجة على “فيسبوك” لشباب مصريين خارجين للتو من أهوال الاعتقال في “الأمن الوطني” تتداخل مع “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف. عبر المستويات المختلفة للقصة والأصوات المتنوعة، يبني ذهن القارئ العربيّ “كولاج السجن”، يأخذ من الوثائق صورة سجين ميّت، يفتح عينيها ويُجلسها في الزنزانة، يستعير لها صوتاً وصمتاً وهواجس وألماً وجـِراحاً، يختار لها فصلاً للعذاب بالبرد أو الحرّ، ويعلّق ذهنهُ المشنقة في باحة السجن، ينتهي من الكولاج، ويحاول أن يجد معنى لكلّ هذا.

يجد القارئ العربي في أدب السجون فتنةً ذات خصوصيّة ثقافية، فالسجن هنا هو السجن السياسي بالدرجة الأولى، والسجن السياسيّ هو أحد أصدق التعبيرات عن حقيقة الدولة العربية، لماذا تسجن؟ مَن تسجن؟ كيف تسجن؟ لذلك تهتمّ هذه الدولة بإخفاء سجونها ومساجينها، سرّها القذر، قدر اهتمامها بالقبض عليهم وإبقائهم في الحبس. يقرأ العربيّ أدب السجون، ليتعرّف على ضمير الدولة، على أسرارها المخزية، ليعرفها بطريقة حميمة، على الرغم من أنها ترفض وتغضب، يقرأ ليحمي براءته من صدمة متأخرة. ويقرأ العربيّ أدب السجون العربية ليُقاوم التاريخ الرسمي، فالدولة العربية تكتب تاريخها المجيد ساطعاً خالياً من السجون والأصفاد، إلا بوصفها عقاباً عادلاً للخونة والعملاء، أو بقدر ما يخدم هذا الاعتراف بالأخطاء عملية التنصّل من أوزار حقبة سابقة، من دون أن يعني تغيراً جذرياً في الحقبة الجديدة (مشهد الرئيس أنور

“عبر قراءة أدب السجون، يتعرف العربي على الحدود القصوى التي لا يرغب في بلوغها” السادات وهو يهدم طُرّة). يتمسك العربيّ، عبر قراءة أدب السجون، بمعرفة نسخته الخاصة من التاريخ، يقاوم بالقراءة ضغط الدولة من أجل عزل سجنها عن التاريخ، على غرار عزل سجنائها المساكين عن الزمن. تهدم الدول العربية سجونها، تسوّي تزمامارت وتدمر بالأرض، لكنها تبقى رغماً عنها أعلى السجون ارتفاعاً على خارطة الأدب العربي. يقرأ العربيّ أدب السجون، لأن تجربة السجين هي تجربة العربيّ في حدودها القصوى المتطرّفة التي يخشى الجميع مقاربتها. يختبر العربيّ العاديّ وجود الدولة عبر الشعور بالخوف، بالاعتياد على الشعور بكثير من الخوف، من قول شيء، من كتابة كلمة، من حيازة كتاب، من الاتصال بشخص.

عبر قراءة أدب السجون، يتعرف العربي على الحدود القصوى التي لا يرغب في بلوغها، لتجربته بصفته “مواطناً”. يقرأ العربيّ الخائف ليعرف ما عليه فعله، إذا وجد نفسه في السجن. يتعلم، عبر أدب السجون، أن السجناء يمكنهم أن يجعلوا السجن مكاناً لتعلّم لغة أخرى، أو حفظ القرآن، أو تأليف كتاب، كما أنّ السّجان يمكنه أن يجعل السجن مكاناً لفقدان ما تبقى من العقل والكرامة. ويقرأ العربيّ لأنّ أدب السجون قد يكون السبيل الوحيد لفهم المرارة التي يشعر بها شخصٌ آخرَ مرّ على السجن، فأفقده قدرته على الكلام. ويقرأ لأن النجاة والسلامة من الاعتقال في حُقب التغوّل البوليسي، تورث شعوراً غامضاً بالذنب لا يهدأ إلا بطريقة أكثر غموضاً: إثقال الذات بعبء هذه المعرفة الـمُظلمة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى