صفحات العالم

لماذا يقمع النظام السوري شعبه وينتحر

 


فهمي هويدي

اكان ضروريا أن يطلقوا الرصاص على الرأس والصدر، في حين أنهم لو أطلقوهعلى الأرجل لتسلمنا رسالتهم وفهمنا موقفهم؟

ولماذا استخدموا الرصاص الحيوكان بوسعهم أن يلجأوا إلى الرصاص المطاطي الذي يمكن احتماله، هذا إذا كانالمطلوب مجرد فض التظاهرات وترويع المتظاهرين؟

ولماذا عاقبوا بعصيهمالكهربائية كل من خرج إلى الشارع في دمشق يوم الجمعة، ولو أنهم اكتفوابضرب المتظاهرين وحدهم لحقق لهم ذلك ما يريدون، دون أن يستثيروا غضب كلسكان العاصمة؟

أدهشني منطق صاحبنا القادم لتوه من دمشق، فاضطررت إلى مقاطعته، قائلا:

إنني أستغرب المقارنات التي أوردها. إذ في حين توقعت منه غضبا واحتجاجاعلى مبدأ إطلاق الرصاص على المتظاهرين، فإنني وجدته يفضِّل إطلاقه علىالقدمين وليس الرأس، كما أنه يفضِّل الرصاص المطاطي على العادي، ولا يمانعفي ضرب المتظاهرين في دمشق، بدلا من تعميمه على كل سكانها.

أطرق الرجل لحظة ثم قال إنه وجيله أُنهك حتى تعب وفقد الأمل في تحسنالظروف التي مازالت على حالها منذ 40 سنة. لذلك فإنهم لم يعودوا يقارنونوضعهم السيئ بوضع أفضل، ولكنهم أصبحوا يقارنون السيئ بالأسوأ. وهو ما يضيقمن خياراتهم، بحيث يصبح السيئ مرغوبا، ليس لأنهم راضون به، وإنما لأن ماهو أسوأ منه أشد ضررا وأتعس.

طلبت إيضاحا فقال لي إن المذبحة التي ارتكبتها السلطة في حماة في شهرفبراير عام 1982 كسرت قلوب السوريين وأذلتهم. ذلك أن نظام الرئيس حافظالأسد استخدم الطيران والدبابات في تأديب المدينة وقتل ما لا يقل عن عشرةآلاف شخص (البعض يتحدث عن ضعف هذا العدد)، غير الألوف الذين اختطفواوأحيلوا إلى جحيم السجون وبشاعتها، حيث قطعت أطرافهم وقلعت أظافرهم وفقئتأعينهم، وتم تذويب بعضهم بواسطة حامض الأسيد. وإذا قارنت ما حدث في حماةقبل نحو ثلاثين عاما بما يجرى الآن فقد تدرك لماذا جاءت المقارنات التيأوردتها على النحو الذي لم يعجبك. على الأقل فالطيران لم يستخدم في قمعالناس وسحقهم. والدبابات فقط هي التي حاصرت بعض البلدات واقتحمت بعضها.

أتيح لي أن أستكمل المناقشة مع بعض الناشطين السوريين المهاجرين الذينلقيتهم في اسطنبول هذا الأسبوع، وكانوا قد دعوا للاجتماع فيها من جانب بعضمنظمات المجتمع المدني التركية (400 منظمة شكلت ما سموه منبر اسطنبولللحوار السياسي).

من أهم ما قالوه في اللقاء إن أغلب المتظاهرين الذينخرجوا إلى الشوارع ينتمون إلى جيل لم يعش أحداث مذبحة حماة، من ثَمَّ فهوأكثر جرأة واستعدادا للتحدي. وإلى جانبهم هناك أعداد غير قليلة منالمثقفين والناشطين الذين ضاقوا صدرا بممارسات النظام ومن تسويف قيادته فيخطوات الإصلاح السياسي.

قالوا أيضا إن الرئيس بشار الأسد كانت أمامه فرصةكبيرة لتحقيق الإصلاح المنشود بعد رحيل أبيه. خصوصا أنه لم يكن مسؤولا عنشئ من ممارسات نظام الأب، ولكن بعد مضي نحو 11 سنة على حكمه فإن السلطة لمتغير من نهجها الذي يصر على مصادرة الحريات وسحق المخالفين. ورغم أن نفوذحزب البعث تراجع إلى حد كبير، إلا أن النظام كله أصبح خاضعا لنفوذ أجهزةالأمن التي ينتسب أغلبها إلى الطائفة العلوية (أكثر قليلا من مليون نسمةفي حين أن أهل السنة نحو 22 مليونا). وهذه الأجهزة مازالت تتصرف بذاتالأسلوب الذي اتبع في حماة سنة 1982.

قالوا أيضا إن المظاهرات لم تطالب في البداية بإسقاط النظام، ولكن العمليةبدأت باعتقال مجموعة من الشباب في درعا تأثروا برياح الحرية التي هبت علىالعالم العربي، فقد كتبوا على الجدران عبارات طالبوا فيها بإصلاح النظام. وهؤلاء تم اعتقالهم وتعرضوا لتعذيب وحشي قلعت فيه أظافرهم.

ولأن بعضهم ينتمون إلى أكبر العشائر والقبائل هناك، فإن شيوخ تلك العشائر ذهبوا إلىممثلي السلطة في درعا يسألون عن أبنائهم. لكنهم قوبلوا بإهانات جارحة مستشرفهم وكرامتهم. فخرجوا غاضبين وثار أهاليهم لكرامتهم وكرامة أبنائهم،حينئذ ردت الأجهزة الأمنية بأسلوبها القمعي الذي لا تجيد غيره.

وكانت تلكهي الشرارة التي عممت الحريق في بقية المدن التي تستشعر القهر وتختزنالحزن. إذ انتقلت الشرارة من درعا إلى بانياس واللاذقية وحمص ودوما وإلىدمشق ذاتها.

وكلما سقط قتيل جديد اشتدت النيران اشتعالا. (العدد تجاوزالآن 600 قتيل)، وحين قرر الرئيس بشار الأسد إلغاء قانون الطوارئ وإلغاءمحكمة أمن الدولة، فإن ذلك جاء متأخرا جدا، فضلا عن أنه لم يغير شيئا لأنقتل المتظاهرين لم يتوقف، الأمر الذي أقنع السوريين بأن الأمل في الإصلاحمفقود، وأنه لا بديل عن المطالبة بإسقاط النظام. وهذا ما حدث

ــ إنالمستبدين حين يصرون على قمع شعوبهم، فإنهم قد يسحقونهم لبعض الوقت، لكنهميهدمون أنظمتهم وينتحرون في نهاية المطاف، سياسيا على الأقل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى