ابرهيم الزيديصفحات المستقبل

لمّ الشمل/ ابرهيم الزيدي

 

لم يعد الشتاء يرسم غيومه في أحلام المزارعين السوريين، ولا أحد من التجار اليوم يبحث عن فضل القيمة، بين حركة رأس المال الثابت، ورأس المال المتداول. لقد سيطر الموت على مقاليد الحياة السورية، وسجلت عملة الخوف، أعلى معدلاتها في سوق البورصة، فسقطت من التداول عملة الأمان والاستقرار. أصبح الوطن حلماً جميلاً، في الذاكرة، وليس في الواقع، وتحولت حياتنا إلى رواية، تمعن في الإفصاح عن نفسها كل يوم، ولكل فصل من فصولها المأسوية، أبطاله. في متن النص ثمة حرب، أصبح من العسير إحصاء أطرافها، أو معرفة أهدافهم. أما في الهامش فثمة غصص ترويها مسيرة الألم، على طريق النزوح واللجوء والهجرة غير الشرعية. أشخاص لم يتبادر إلى خواطرهم أن المأساة ستأكل أحلامهم البسيطة؛ أفراد، وعائلات، وجدوا أنفسهم في خضمّ القلق، تلطمهم أمواج الحيرة والضياع. وقد التقيت بالكثير منهم، وأتاحت لي الظروف أن ألتقي بالفروع التي غادرت سوريا بحثاً عن ملاذ آمن، والتقيت أيضاً بالأصول التي تنتظر من فروعها الخبر اليقين. فالمغامرة يقوم بها أحد أفراد العائلة، لعل أملاً يحثّ إليه الخطى، فيتبعونه بحكم صلتهم به. ترى الزوجة التي غادرت برحلة محفوفة بالأخطار، وهي حامل، لعلها تضع مولودها في إحدى الدول الأوروبية، على أمل أن يحصل وليدها على جنسية تلك الدولة، بحكم ولادته فيها. من ثمّ، تتقدم إلى تلك الدولة، بطلب لمّ الشمل الذي يؤهلها أن تستقدم زوجها، وبقية أولادها بطريقة شرعية. هناك الرجل الذي جازف بكل ما يملك من مال وحياة، لعله يصل إلى إحدى الدول الأوروبية التي تمنح السوريين حق اللجوء، ومن ثم يتقدم بطلب لمّ الشمل، ليستقدم بقية أفراد عائلته بطريقة قانوية، وهكذا.

أصبحت المغامرة سبيلهم الوحيد للوصول إلى أحلامهم بالأمان. كأننا نجسد مقولة دانتي: لبلوغ الجنة على المرء أن يعبر الجحيم. وليتها كانت جنة.

سألتُ صديقي أرسين الذي التقيته بمحض المصادفة في أحد مقاهي بيروت، عن سبب وجوده، فأخبرني أنه ينتظر أحد سماسرة تهريب السوريين إلى أوروبا، وعلمت منه أن ذلك السمسار وعده بجواز سفر بديل “مزور”. أرسين هذا، أرمني من مدينة تل أبيض شمال شرق الرقة. عرفته مذ كنت أميناً لمكتبة المركز الثقافي هناك. كان الأرمني الوحيد المثابر على المطالعة، فغالبية الأرمن انصرفوا إلى الأعمال المهنية. سألته إن كان سبب مغادرته لسوريا دينياً، فقال سأجيبك بكلام منقول: مشكلتنا لم تكن يوماً مع الدين، أو مع السياسة. مشكلتنا كانت ولا تزال مع أولئك الذين يصرّون على تسييس الدين، وتديين السياسة.

تذكرت قول جوزف كامبل: لا اعتقد ان الناس يبحثون عن معنى الحياة بقدر ما يبحثون عن الشعور بأنهم احياء.

في الطرف الآخر هناك مهاب، الفلسطيني القادم من مخيم اليرموك في دمشق. مهاب هذا، سافرت زوجته الحامل، يرافقها ابنها الرضيع، برحلة من طريق تركيا، وقد استطاعت أن تصل إلى ألمانيا، وهو ينتظر أن تستكمل زوجته المدة القانوية، وبعد ذلك يمكنها أن تتقدم بطلب لمّ شمل. سألته لماذا جعل زوجته هي التي تقوم بتلك المغامرة، ولم يقم بها هو؟ فأجابني أن زوجته تتقن اللغة الإنكليزية، وشكلها يوحي بأنها أجنبية، فهي شقراء، ممشوقة القوام، بينما هو لا يتقن غير اللغة العربية، وشكله يوحي بأنه عربي. إضافة إلى ذلك، ثمة تسهيلات للنساء، أكثر مما هي للرجال. ثمة شباب غير متزوجين، قد غادروا على مراكب الموت، أو عبر حافلات، أو بجوازات سفر مزورة، منهم حسام، الذي قال لي وهو يغادر إلى تركيا: “عندما بدأت ببناء مستقبلي، انهار الوطن”. وصل هو الآخر إلى أسوج، إلا أنه لا يستفيد من لمّ الشمل، الذي لا يشمل الأخوة والأخوات. لقد اقترفنا البعاد، واتسعت المسافة بين أفراد العائلة الواحدة؛ ثمة من ملأها بالأمل، والأكثرية قد انتعلوا بؤسهم، وساروا في طرق اليأس، فهي الطرق الوحيدة التي بقيت سالكة في سوريا. أصبح مصطلح “لمّ الشّمل” من مصطلحات الأمل في حياة السوريين. أخشى ما نخشاه، أن نستعير من إخوتنا الفلسطينيين، مصطلح “عائدون” فهذا يرعبني، لأننا إن فعلنا، فلن نعود أبداً.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى