صفحات المستقبل

لم أعد كما كنتْ/ أحمد أطرش 

 

 

اعتدتُّ في الأشهر الأخيرة أن أكون منهمكًا طيلة الليل بالتحدّث مع أحد الأشخاص حول مدينتي، حيث يبدأ كلامي دائمًا “منذ حوالي الست سنوات أو الخمس سنوات”، لا أستطيع العودة بالذاكرة إلى ما قبل تلك السنين حيث لا ذكرى وجودية للحب إلى حدّ الموت من أجله آنذاك.

أقول في مطلع كل مرّة “كانت أشبه بعروسٍ عشرينية” وأُكمل.. حيث بدأ يرتبط حبُّي الأبدي لهذه المدينة بذكريات ما بعد آذار/ مارس 2011، هنا بدأت أكتشف في نفسي الحب الدفين لمدينتي واستعدادي للتضحية من أجلها، حيث امتزج ذاك الحب العذريْ بالحبيبة الأنثى التي رأيتها في إحدى ليالي سنة 2012.

وأُكمل حديثي بحسب تواتر الأحداث أو حتى ورودها في مخيّلتي بشكلٍ عشوائي.. أُروّض كلماتي المبعثرة في داخلي وأحاول ترتيبها قدر إمكاني قبل الخوض في حديث العشق عن تلك المدينة والأنثى العشرينية.

أتكلّم عن امتزاج دم أبنائها بتلك الأرض، ونَوح الحمام على شرفات مبانيها المتينة، وبكاء أطفالها خوفًا عليها من مفرقعة نارية قد تفضي لانهيار الحياة، وعن ضحكة الخوف لنسائها فرحًا بعدم أذيّة أحد المارّة بعد مراقبة طويلة لأحد الاستعراضات الجويّة العسكرية في سماء المدينة، وعن رقصي مع رجالها وشيبها طربًا خلال مناسبة عامة قد يتم التحضير لها أسبوعا كاملا، حيث يسمّى أسبوع “الحرية”.

هو الأسبوع الثاني من شهر آذار/ مارس، وأيضًا عن علاقات أبنائها الاجتماعية التي تسودها الأخوّة والاحترام المتبادل للمساحات الشخصية، حيث يتمكّن من خلالها التعبير عما يدور في رأسه دون تردّد أو خوف من قمع الآخر له، ويجمع هؤلاء دائمًا الحب المتوقّد للتراث الفني وعُتْقِه، لا تفرقةَ على أساس دينيٍّ أو طائفي ولا فروقات بين طبقات المجتمع؛ أولع سيجارة التبغ خاصتي.. أستنشق هواء الغرفة المليء بدخان هذا التبغ الرديء، أصمت لبرهة.. أُعدّل جلستي، أرفع رأسي وأشد المنكبين وأنظر إلى عيون من أتكلم إليه.

أعودُ فأكمل الحديث بتأنٍّ عن تلك الفتاة العشرينية، رصانتها وأناقة كلماتها اللطيفة، شخصيتها القويّة المليئة بحب الحياة.. والتعمّق بالحديث عن عنفوانها “الثوري” وطريقة مجابهتها للمصاعب في كل مرةٍ، وعن نجاحاتها الحياتية في دراستها والعزف على آلاتها الموسيقية، نعم حيث إنها تؤمن بشيء واحد فقط هو أن الحبّ يبدأ بحركة موسيقية..، وحبها الكبير لقراءة روايات الأديبة أحلام، وعن كتابتي لها كلمة “انتظرها” على أحد جدران المدينة في العام الماضي، وإكمال حديثي عنها كيف خرَجتْ من مدينتي مهاجرة خارج البلاد.. قاطعني ذاك الشخص بسؤاله التهكّمي.. – لماذا خرجت من مدينتك الفاضلة؟ أوليست تحبّها مثلك تمامًا أم أن مؤهّلات الحب لديها تختلف عنك؟

ارتبكت قليلًا.. ولّعت سيجارة أخرى دون انتباهي إلى سيجارتي المرتكزة إلى صحن التبغ.. صمت طويلًا دون إجابة، عاد السؤال يتكرّر على مسمعي أكثر حتى أن حدقتي عينيه بدأتا تتّسعان في كل مرّة يعيد طرح السؤال، ويده تهزُّ كتفي.. كانت نظراتي تملأ أرض الغرفة فقط.. لم أتجرّأ النظر إليه.. حتى بدأ بالصراخ في وجهي.. “صممت” أذنيَّ بيدَيّ حتى كاد ينفجر رأسي من صراخه وكثرة البحث في دماغي عن إجابة.

عدّلت جلستي بسرعة وصرخت في وجهه “اخرس”، دعني أُكمل حديثي دون أن تقاطعني.. كنت أتحدث إليك عن مدينتي التي رسمتها في مخيّلتي ووضعت تلك الأنثى بها.. لم أكن لأردّد اسم المدينة حتى.. أنا لا أتكلّم عن حلب التي امتزج بها الدم مع الخبز.. لم أحكِ لك عن تقطّع أجساد أطفالها بعد كل غارة جوية.. ما قلته في بداية حديثي هو عكس الواقع تمامًا، حتى في كلامي عن التفرقة والفروقات كنت أقصد مدينتي الماكثة في خيالي..

حلب كما رسمَتها مخيلتي تعود إلى زمن الصحافية مريانا مراش، ذاك الزمن الذي قرأت عنه في الكتب، وأخبرني به أجدادي، حتى أنني لم أكن أحبها كما يجب، كنت أكذب في الواقع، انظر إلى عيني البائستين يلفّهما سوادُ المدمن على الخمرِ، سأخبرك أن لديّ رغبةً متجددةً في الانتحار، إما المحبوبة أو تلك الفكرة، لا نجاة بخَيارٍ ثالث لدي، إنني لا أُنصت إلى جعجعات المحبّين الآخرين، هم، أو أنا لم يكن لديّ أي مؤهّلات للحب، لم أكن على قدر المسؤولية، كنا نكذب على أنفسنا حين نتصارح بحبنا الأبدي لها.. حتى لم نستطع الحفاظ على عاداتها وتقاليدها، أو حتى ممارسة حريّة التعبير فيها.

هذه المدينةُ العتيقة لا ترضى البقاء بين الكاذبين في الحب، ولم تبق تلك الفتاة العشرينة أيضًا رغم صدقي في حبها البعيد في قلبي، كنت أفكّر منذ عدة أيام بكتابة رسائل الحب وإرسالها عبر ساعي البريد إلى تلك المدينة وإلى الفتاة العشرينية، ولكن لم تعد هي الحبيبة ولم تعد تلك مدينتي.. هذه المدينة التي كانت تُؤنسُ ليلي ويُطلق صوتها انفجارات الحب..، والآن تصرخُ في الصمت وحدها وليلها يتكلّم في أنّات وأنينِ العاشقين المتروكين: أحبك، هنا يتمزّق حلمي ويهترئ شوقي..

لا أتجرّأ على سؤالها ولا أواسي دمعتي عليها.. أنا من هربت وهربت من بحّات صوتها وضجيج مدافعها.. وصدأ حديدها، منذ سنة تغيرت ملامح وجهي عن وجهها.. وجه العاشقين، ومنذ أيّام اختفى حبّها لتلك الفتاة العشرينية، حتى أنني أضعتُ ريشة آلة العود الملفوفةِ بقماشةٍ مطرّزة كنت أنوي إهداءها لها، يأتيني صوتها في منامي، كان هواء ليلها هو ساعي البريد، فتُسقِط كلمة الحب من معانيها.

هذه الأشهر الماضية علمتني كيف لا أنسى الإساءة.. إساءتي في حبها، وكيف أنني لم أخرج إلى سمائها قبل خروجي من أرضها، أعلم.. سوف تسألني أين مؤهّلاتك للحب أنت أيضًا؟ سأخبرك: اتَّبعَ خُطايَ أحدِ الملثّمين العابرين في أرضها.. سُرق مني دمي المتدفق في حبها، وتركني أهربُ بعيدًا عنها متخفّ بخوفي.. لم تعد لديَّ مؤهلات سوى الخوف، الخوف من قتلي لأجله لا لأجلها.. أصبح جسدي باردًا في الحب كشتائها مذ غادرتها.. أصبحتُ العاشق الغريبَ البعيد في وجدانه عنها..

أصبحت هناك مسافات فاصلة بين حبي وأرضها، بين حبي وانتظارها، مسافة طولها خمسة أعوام عن تلك الأنثى، وانتظاري للعودةِ إلى الأرض دخل عامه الثاني، أحفر طريقها في الغياب كما حفرته في ما سبق بسلاحي إلى سمائها ونجوتُ في كل مرة.. كانت ترفض استقبالي وتقول اهرب بعيدًا في أرضي..

نعم هربت ودخلت في سجنٍ نأي معزول، ثم أخرج لأدخل في مدينةٍ تُنسِي الذاكرة ما حملت طيلةَ الغياب الأخير، أنا الطائر الغريب المحلق في ذكرياتها، أنا اللاشيء فيها، أنا الخائن الهارب في حبها..

ولّعت سيجارة أخرى وفتحت شبّاك غرفتي رغم صقيع الجو، أريد أن أتنفس هواءً باردًا، أطفأت سيجارتي، وأشعلتُ نور الكهرباء، نظرت إلى يميني.. لم يعد ذاك الشخص موجودًا، بحثت عنه في ذاكرتي المتعبة ولم أرَه، هو لا يحب الخائنين في الحب، والفاشلين بعلاقاتهم مع اللواتي في سن العشرين.. لم تعد لدي مؤهّلات للحب من جديد.. لم أعد كما كنت.

جدل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى