باسل العوداتصفحات سورية

لم يبق للسوريين إلا الصحراء/ باسل العودات

 

 

تسبب الحل الحربي الذي اتبعه النظام السوري بانتشار الفوضى في سورية، من أقصاها لأقصاها، حيث دمّر النظام وميليشياته مناطق شاسعة وفق سياسة الأرض المحروقة في محاولته إخماد الثورة التي أرادت إسقاطه، وانتهج آخرون نفس الطريق كرد فعل على أفعاله أو انتقاماً منه تارة وانتهازاً لفرص لن تتكرر تارة أخرى، وبات الكثيرون يُهيمنون على مناطق أو كانتونات أو أقاليم لا يأبهون بالآخرين، وضعفت الغالبية السورية التي لا تنتمي لأي  منهم، الغالبية التي ترى بسورية وطناً وحيداً لها، تخاف عليه كموطن أزلي وأبدي لها.

ما جرى على الأرض أن النظام لم يهتم بتقسيم سورية، أو بعبارات أخرى لم يهتم بتقاسمها، ولم يمنع من يشاء على فعل ما يشاء، على أن يضمن هو ما يعتقد أنه (الجزء المفيد) من سورية، سواء أكان التوزع طائفياً دينياً قومياً أم مافيوياً، المهم أن يبقى موجوداً ولو كان على مستوى شريط جغرافي ضيّق.

منذ بداية الثورة سعى النظام السوري لتحويل المطالب السياسية الاجتماعية إلى صراع طائفي، عرقي وديني، وعندما تراجعت قوة النظام وبدأت قواته العسكرية تسير في طريق الانهيار، حَضَّر نفسه لقضم جزء من غرب سورية لا تزيد مساحته الجغرافية عن 10% من مساحة سورية، تسكنها غالبية علوية موالية له، خطط لها لتكون دويلة علوية أو (جيب علوي) في حال استشعر قرب نهايته، وهو فعل ذلك مقتنعاً بأن السوريين سيقبلون بوجود هذا الكيان (الجيب) كحل وسط لا يموت فيه الذئب ولا تفنى الأغنام، ولهذا حوّل الدولة إلى كيانات هشّة مفككة تحكمها ميليشيات، لا يمكن لأي منها منفرداً فرض هيمنته على كامل سورية، وضربت هذه الكيانات بعرض الحائط وحدة سورية ومصلحة الشعب وأهداف الثورة.

وفي الشرق، انقلب السحر على الساحر، فتنظيم (داعش) الذي ساهم النظام بنشوئه بشكل ما، انقلب عليه وتمدد كالسرطان في المناطق التي ينسحب منها النظام، وانتشر كالفطر في مناطق تسيطر عليها المعارضة، واستخدم وسائل دموية لا تقل فظاعة عن وسائل النظام لتوسيع جغرافيا الدولة الإسلامية المشوهة التي يَنشدها، وكله قناعة بأن السوريين سيرضخون لقدرهم ليصبحوا رعايا أو عبيداً لهذه الدولة، لا حقوق لهم سوى ما يتكرم به الخليفة، الذي يجب أن يمتلك كل شيء، الحجر والبشر والمستقبل وحتى الغيب.

وفي شمال سورية وجد الأكراد في الثورة والفوضى فرصتهم التاريخية ليُحيوا حلماً طالما راود كل كردي في العالم، دولة كردستانية من إيران للمتوسط، ولا مشكلة إن كانت تتألف من إقليم واحد أو أقاليم متعددة، غربية شرقية أو شمالية، المهم أن تُشبع طموح سياسييهم وتُرضي شعوبية الكثيرين منهم ممن اتّضح أنهم كانوا يعتبرون عيشهم في بلاد عربية هو عيش مؤقت، ولتحقيق ذلك تعامل الأكراد مع النظام واستلموا سلاحاً منه، ثم تعاملوا مع المعارضة ليتفادوا الصراع معها، ومدوا خطوط اتصال مع حزب الله وإيران، وتعاونوا مع قوى كردية في العراق وتركيا، دون أي حساب لـ (السورنة) التي من المفترض أنهم أحد أعمدتها، وبدأوا (حرباً) عسكرية على هامش الثورة، تهدف لرسم حدود إقليمهم، أو جزء من دولتهم الأوسع، وتعاملوا مع بقية السوريين كعوامل معيقة لا مانع من تهجيرهم أو طردهم أو حتى قتلهم، وهم يعتقدون بأن هذه الدولة باتت أمراً واقعاً سيعترف بها الجميع يوماً ما.

وبتغيير الاتجاه نحو الجنوب، وبحجة الحياد والحاجة لحماية الطائفة ومستقبلها، وحجة النأي بالنفس، أحكم دروز سورية سيطرتهم على السويداء وما حولها، اعتبروها الجزء السوري الذي يملكونه، كانتونهم الخاص الذي لا جدال حوله، وكأن سورية أقاليم طائفية، وسكتوا عن اتخاذ النظام جبلهم معقلاً لقواته ومركزاً لتوزيع الموت على جيرانهم، كما عقدوا اتفاقات هدنة مع ثوار الجوار يقيهم خيرهم وشرهم، وصدّوا أي تقدّم للمعارضة تجاههم بحجة أن النظام سيقصفهم إن لم يساندوه، وتوزعت ولاءاتهم بين سورية ولبنان والجولان ودمشق، ورغم أن بعض معارضيهم السياسيين، وجلّهم يساريون، شددوا على سورية الموحدة لكل السوريين، لكن حذار من أن تطأ على طرف عباءتهم الدينية أو الجغرافية، ودغدغت أحلام بعضهم فكرة إنشاء تجمع لبني معروف يمتد من جبل إلى جبل، واحد في سورية وآخر في لبنان، وبحال لم يعجبهم أي حل مستقبلي ليس من المستبعد أن يسعوا لتحقيق هذا الحلم.

ومن الجنوب وبالعودة إلى الشمال الشرقي، حيث أكثرية آشوريي وسريان وكلدان سورية، وحيث الإمبراطورية الآشورية مازالت حاضرة في أذهان وعمق تفكير الكثيرين، عاد سؤالهم للواجهة من جديد: لماذا لا يعود آشور صياد الأسود ليتسيد المنطقة ويعيد أمجاداً بادت، فالنزعة الدينية هنا تختلط بأخرى قومية، ويؤكدون أن هذا من حقهم، فالأرض أرض أجدادهم، ورغم أن الرياح غير مواتية لتحويل هذا الحلم لواقع والعدد غير كافٍ لاستعادة الامبراطورية، إلا أن الحلم بالنسبة لهم حق يجب أن يسمح به دستور سورية الجديد.

نظرياً، يرفض الجميع فكرة تقسيم سورية وتقاسم المناطق وإنشاء كانتونات مغلقة، وينددون بأدبياتهم السياسية والفكرية بمثل هذه الأفكار، وأكدوا مراراً على وحدة سورية أرضاً وشعباً، وأعلنوا رفضهم للدويلات المبنية على أساس ديني أو قومي أو مذهبي، لكن الواقع العملي يشير إلى عكس ذلك، ويدل على أن الجميع لا يمانع بذلك في اللحظة المصيرية إن أتت بشكل غير مناسب لهم.

تقاسم النظام سورية مع ميليشياته والمتطرفين والمتعصبين والمتشددين من كل نوع، فالشرق لتنظيم الدولة، والشمال للأكراد، والساحل للعلويين، وجبل حوران للدروز، وريف دمشق لـ (علوش)، والجولان للسلفيين، ولم يبق أمام الغالبية التي لا تنتمي لأي ممن سبق سوى الصحراء الخالية، ريثما يُدرك الآخرون أن تاريخ سورية وجغرافيتها ومستقبلها ليسوا للبيع وتصطدم أحلامهم مع هذه الحقيقة.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى