تهامة الجنديصفحات الثقافة

لم يعد لي ظلّ واحد وحياتي سرقها الطغاة/ تهامة الجندي

جئت من رحم الأجنة المجّهضة، «الوحدة والحرية والاشتراكية«. كلي حدود، كلي جنود، وعشت في ظل أحكام الطوارئ، مع تماثيل الرئيس. حلمت كثيرا بالتغيير، وسقطت رايتي أول الدرب، غادرني الوقت بطيئا على غيوم الخوف، مراحل وأجيال، ولم يطرق بابي الربيع. زنزانتي أضيق من أنفاسي، الكوابيس وسادة صمتي الطويل، أُشاجرُ نفسي، أُحاججُ السماء، أَلّعنُ جيلي المعوّق، ألّعنُ زمن الطين، هززّت سريري، ونمت على فراش اليأس عشر سنين.

مثل معجزة أيقظني الشعاع في سجن العدم، حين علتْ صرخة الشباب «نريد إسقاط النظام«، كانت أجمل قصيدة كتبها العشّاق… أطفال درعا، «بيان الحليب«، عام الفرح، الأغاني، الأمنيات، وشقائق النعمان تقفز من الأسير، إلى القتيل. حبيبتي «الحرية« صارت فتيل الإرهاب في كتب الطغاة، كأس إبليس في الفتاوى، وانهمر الموت سخيا بكل الصور، ومن كل الجهات، ووجدتني مرة أخرى، أقف على مفترق الجحيم.

لعنة الحرب لا تبرح المكان، والزمن عالق بين رصاصتين… العنف أعمى، بلا ضمير، يحصد الأخضر واليابس، البشر والحجر، وعدسات المصوّرين تلتقط احتضار أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ… العصافير تهجر الأشجار، الغربان تحتل الفضاء، الهواء ثقيل، الجنازات أكثر من الأعراس، الجثث تفترش الحدائق، الأحياء يسكنون العراء، ينزحون بالمئات إلى دول الجوار، والمعتقلين يواجهون وحوش التعذيب.

يسيل الدم على زجاج البلد المكسور، يختفي العابر عند المنعطف، تتعثر الأقدام تحت قوس الخطر، وأنت الأعزل، قربان المجتمع الدولي، تهادن الطائرات والقذائف على بعض الحياة، تقايض القلق بمعجزة، لن تهبط عليك… أنت نص الزنزانة، حروف الاغتصاب، الموت ظلّك، الخوف وعّدك، يصحبك من الفجر، حتى وسادة الكوابيس… لن ينفعك أرشيف الصور والوثائق في الجامعة العربية، ولا في مجلس الأمن، لن تحميك السماء، وأنت تنظر صوبها بعينين دامعتين «يارب لم يبقَ غيري، أين انت من عذابي؟«.

ودّعتُ ذكرياتي، المقهى القديم، الشارع الضيق، بيتي الصغير، ركن الكتابة، وصورة حب غادرني قبل الأوان. تركتها عند جلادي، وجئتكِ ألوذ من جحيمي، من بلاد تسقط فوق رأسي، قنّاص يتربّص بي، سلفي يضع أقفاله على جسدي، ويقيم الحد. ضميني، حرّة كنتُ، وكدّتُ أصير، لولا الطغاة يغلقون أبواب دمشق، يقّلعون الحناجر والعيون، يشلعون قلبي.

أحدّق في عينيكِ، أنسى تعبي، أجلس في حضّنك، أنزع شوكي وذعري، أمشي إلى جوارك، أسقيكِ دمعي، أحدثكِ، كم مرة سرقوا حياتي، كم سنة صمتّ، كم رجل اشتهاني، كم واحد أحببت، ولم أجرؤ.

في بيروت أستطيع أن أكون ذاتي، صعّلوكة من زمن عروة بن الورد، أكتبُ ما يحلو لي، أرتدي ما أشاء، أتسكّع على هواي، أدخّن في الشارع، أرشف قهوتي وحيدة في مقاهي الرصيف، قلت لصديقي، قال: بيروت عاصمة الكاتبات العربيات.

صامتة أغلب الوقت، والصمت إصغاء. وشوشات، رغبات، وأنّات تنبعث من مناطق غير مرئية في دواخل البشر وثنايا المكان، أصغي وأتبع قلبي، وحين يقطع صمتي أحدهم بالسؤال عن ماذا أفكر، أرتبك كثيرا، ولا أدري بماذا أجيب، كأنه الخواء يمّسح ذاكرتي. لم أستطع أن أكون الحقيقة، عشت حكاية في عيون الآخرين، مدخلا لرواياتهم المتضاربة عني، قرأت حكاياتي على أوراقهم، في أحداقهم وأحاديثم، وكنت أتساءل أيها أنا. في البداية كنت أغضب حتى البكاء، وانتهيت أن أقبل قدري. أنا الصمت والحكاية، فيما الآخرون ينسجون واقعهم وحقيقتهم.

في بيروت وجدتني حقيقة للمرة الأولى في تاريخي، شخصية من لحم ودم، ينتظر الآخرون منها الأفعال وردود الفعل والاستجابات، وهنا بدأت محنتي، ركاكة التعبير من ركاكة الحياة، وأنا أجبن كائن عرفته الخليقة.

منزلي بغرفة واحدة وحمام صغير، كافحت الصراصير التي اقتحمت عليّ خصوصيتي، لكن المياه المالحة، أعيت شعري وجلدي، في الصباح أفتح الصنبور، ويتدفق الصدأ، بت أكره النظافة، ولا أجدها من الإيمان. في الليل أستلقي بهدوء فوق سريري، يسّقط بي إن تحرّكت، أغسل ملابسي بيدي، أكتب على حضني. أدفع لقاء رفاه معيشتي ستمئة دولار في الشهر، وتدفع لي هيئة الأمم ثلاثين دولارا ثمن طعامي.

شاشتي الكبيرة لا تستقبل سوى القنوات المحّتشمة، والموالية للنظام السوري، وأنا شبعّتُ من سياسة الحجب، وكنت أمنّي النظر بلقطات أكثر إثارة. أحد القاطنين السوريين في البناية، يهدد جاره اللبناني برجال أمن السفارة السورية، لأنه شتم رئيسنا، وكنت أعتقد أني بمأمن من الشبيحة. جاري العراقي متزوج من سورية، صوت أمها أشبه ببطرونة الأفلام المصرية، رواد المنزل كثر، ينامون في النهار، ويصحون في الليل، تصلني أصوات ضحك وشجار وشتائم وضرب، هل هو عنف جسدي، أم جنسي؟ الله أعلم، لا أنام، ولا أجرؤ على فتح بابي، واستطلاع الأمر.

شهوة عالقة على شغاف القلب.

أجلس وحدي، وأغني إمام «إن كان أمل العشاق القرب، انا أملي بحبك هو الحب«.

أهيم في الشوارع، وأقرأ المجنون «أظن حبها تاركي في مضلّة/ من الأرض لا مال لديّ ولا أهل«.

في المساء أشتاقه على شفتي، في جهاتي.

في المساء أُجّلِسُ عزلتي على شبكات التواصل، وأسأل الصفحات عن الحب.

حزب الله في سوريا، والسوريون يفترشون لبنان. أزمة اقتصادية خانقة، غلاء فاحش، نقص في الكهرباء والخدمات، وما من حكومة تتسلم المهام. انتهى عامي الأول باغتيال محمد شطح، وبدأ الجديد بالتفجيرات وحوادث خطف وقتل الناشطين السوريين. يطلبون مني أن أكتب، ولا ينشرون، وعاودني الخوف والقلق والاكتئاب.

الحياة تستعرض أمامي، جبروتها، فنون إغوائها، ولا ترى ضعفي، ضيق حالي، عزلتي التي تدلف من الجدران.

لم يعد لي ظل واحد، صارت ظلالاً، الفقر، سكين الجزار، سوط الجلاد، قنابل متفجّرة، موقوتة، أمشي وتتبعني، من سجني الكبير، إلى المنفى الصغير.

إلهي أين أذهب؟ صرت اشتهي الموت، أريده رحيما، ينهي حياتي المؤجّلة بلا عذاب.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى