صفحات العالم

لن أتكلم عن سوريا الحرية والتحرير

 



سعيد ناشيد

لن أتكلم عن سوريا، وقد سبق بعض القول وأرجئ بقيته إلى حين. لن أتكلم عن حزب الله، وذلك المقام قد لا يسع هذا المقال. لن أتكلم عن حركة حماس أو الجهاد الإسلامي أو فصائل المقاومة الفلسطينية. وبالأحرى، لن يكون الكلام هنا عن المقاومة ولا عن الممانعة. لكننا نود الخوض في كلام آخر، قد يتقاطع مع هنا أو مع هناك، لكنه كلام في غير هذا وغير ذاك. نود التفكير في موضوع هو الأكثر بداهة والأكثر إثارة لإساءة الظن ولسوء التفاهم. وهذا مبرر كاف للموضوع.

أريد أن أتكلم عن الحرية حصراً. وأبتغي ابتداء تجريد هذه الكلمة النبيلة من لعبة التوازنات الإقليمية والمصالح الاستراتيجية، ومن ثمة أنظر إليها عارية من كل الحسابات والتقديرات التي غالباً ما يضيق ثوبها بجسد الحرية. دعنا نتطرق لتلك الحرية التي لا تحتاج لأي تبرير أو تفسير؛ لأنها هي التي تصوغ كل تبرير وتحمل كل تفسير. فهي ليست وسيلة لأي شيء آخر؛ لأنها وفقط لأنها غاية الغايات.

دعنا إذاً نتحدث عن الحرية التي لا تقبل المقايضة السياسية بأي موقف كيفا كان؛ لأنها وحدها ما يبرر أو لا يبرر أي موقف من المواقف.

مجمل القول أن لا قداسة تعلو فوق الحرية.

ماذا يعني هذا الكلام؟

هنا سنحتاج إلى بعض الفلاسفة أكثر ما نحتاج إلى كل الأنبياء. غير أن القول الفلسفي قد يبدو ثقيلا على من يستثقلون فعل القراءة، أو يعوزهم الذوق النبيل والحس السليم. وما أكثر هؤلاء بين الساسة الناطقين بلغة الضاد. وتلك معضلتنا الأولى منذ دخل العقل العربي والإسلامي في سبات طويل.

هؤلاء الساسة الذين لا يقرأون، أو الذين كلما سمعوا كلمة الثقافة تحسسوا مسدساتهم، على حد بوح جوزيف غوبلز وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر، هؤلاء أقترح عليهم منطلقاً يسيراً: أن نبدأ بنسيان كل شيء. ولا بأس بذلك طالما أن الثقافة هي ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء. ولنحاول الاحتفاظ بفرضية واضحة وضوح شمس الشرق في نهار جميل، أو أنها قد تصمد من تلقاء نفسها في وجه رياح النسيان. إنها فرضية يسهل علينا استيعابها من فرط الحروب المفروضة على منطقتنا بسبب النفط وإسرائيل وأشياء أخرى.

فرضية واحدة ستكون كافية لكي نفهم الكثير. إليكم الدرس:

يخبرنا هيغل بأن المهزومين في الحروب، عبر تاريخ البشرية، إما أنهم يقاتلون في المعركة حتى الموت، أو أنهم يستسلمون راضين بالتحول إلى أسرى الحرب. هؤلاء الأسرى، هم بالتعريف الهيغلي، مقاتلون لم يقاتلوا حتى الموت، وإنما آثروا البقاء على قيد الحياة، ومن ثم قايضوا الحياة بالحرية، فأصبحوا عبيداً يتم استخدامهم وبيعهم واستعبادهم كيفما شاء لهم الأسياد. وهكذا نشأ، لأول مرة في تاريخ البشرية، ما يسمى بطبقة العبيد.

ثم صار العبيد ينجبون عبيداً بالوراثة والتوريث.

في ماذا يعنينا هذا الدرس نحن عرب اليوم؟

لم نعد اليوم ننتمي إلى ثقافة الهزيمة، وهذا على الأقل منذ صيف 2006. منذ ذلك التاريخ لم نعد ننتمي إلى سلالة الخاسرين للحروب أو المهزومين سلفاً وبلا حروب. وسواء أدرك المنتصرون والممانعون ذلك أم لم يدركوه، فبفضل انتصاراتهم على العدوان الإسرائيلي، لا سيما في تموز 2006، تكسرت أغلال قيم القدرية وثقافة الهزيمة وتخلصت ذواتنا من يأسنا.

المنتصرون، سواء احتسبوا أو لم يحتسبوا، فقد افتدوا حرية الأمة بكلفة غالية، لكنهم افتدوها في الأول والأخير، وعليهم الآن أن يتحملوا كلفة الحرية بعد أن تحملوا كلفة التحرير.

لقد ساهموا في صناعة ذلك المطلب الذي صاروا الآن مطالبين به: الحرية.

إنه مكر التاريخ: درس آخر من دروس هيغل.

هل تدركون معنى العبارة؟

بالمعنى السياسي، فإنها تعني أن العبودية والهزيمة صنوان، وأن كل انتصار، سيوقظ، بل يؤجج مطلب الحرية عند الشعوب. ما يعني أن ثورات الشارع العربي ضد الاستبداد الداخلي هي إحدى ثمرات انتصار الأمة على العدوان الخارجي واستعادتها لإرادتها، سواء توقع المنتصرون ذلك أم لم يتوقعوه.

إن لم يتوقعوا ذلك، فعليهم الآن أن يحققوا مطلب الحرية بعد أن ساهموا في تحقيق مطلب التحرير.

قلت اني لن أتكلم عن سوريا.

ربما أكون قد أخطأت.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى