أحمد عمرصفحات الناس

لهجات قاتلة/ أحمد عمر

 

 

قالت العرب مقتل الرجل بين فكيه، مقتل الدكتاتور أيضا بين فكي الشعب، في صيحة، فهمسةٌ مثل همسة جاليلو، تميمةٌ لا تنفع.

دوقلة المنبجي، كتب قصيدة يتيمة. لم تصلنا منه سوى قصيدته الدالية الشهيرة التي يمدح فيها دعداً، وقصته مأساة لا تشبهها مأساة. حمل قصيدته مهراً، وقصد أميرة نجد دعداً ليمدحها، في مسابقة “من يربح الأميرة”، ويفوز بها زوجاً، لكن أعرابياً عابراً، صادفه خلال رحلته، أعجب بالقصيدة التي سمعها منه في “البريك”وأضمر سرقتها وأراد الفوز بالأميرة زوجة، وهي سرقة لا تتم إلا بالقتل، فغافل صاحب دعدٍ نائما وقتله وادّعى القصيدة لنفسه، قصد الأميرة وأنشدها القصيدة، وكان مقتله في هذا البيت: “إن تُتْهـمـي فتهـامـةٌ وطـنــي أو تُنْجـدي، إنَّ الهـوى نَجْـدُ”. فالأعرابي كان حجازي اللهجة، فوقفت وصاحت بالجند ثكلى، لله درّها: اقتلوا قاتل زوجي!  اللهجة فضحت القاتل! اللهجة كانت قاتلة في سوريا في الحقبة البعثية.  كانت سلماً للمعالي أيضا. غالبا ثمت دلائل أخرى على الجريمة لا ترويها الروايات.

لم تكن لي قصيدة مثل دوقلة المنبجي، وقصدت فرع أمن الدولة  لا للحصول على  موعد مع دعد، وإنما بهاتف من صوتٍ جنيٍ سمّى نفسه أبو علي، كانت مصادفة للمرة العشرين أن يكون المهاتف شخص كنيته أبو علي، أخبرني أني مطلوب لفرع الشام، وخاطبني  بلهجة التكريم: أستاذ!

كدت أنفجر عليه غضباً، مادام قد أكرمني بخطاب مخادع كريم، وشتمت في سرّي أخت الأستاذ وأم الأستاذ، اتركوا الأستاذ وحرروا فلسطين والجولان يا عرصات،  طيب أرسلوا سيارة  للأستاذ من سيارات المقاومة والممانعة المجنونة التي تجوب الشوارع محتفلة بأعراس المقاومة، لتقلني إلى معلمكم ابن الحرام. لم أنفجر، ولو كان مسموحاً بالانفجارات الشخصية لما دمّرت سوريا تدميراً.

كانت المرة الأولى التي أُطلب فيها في العاصمة، سأسافر.. السفر قطعة من  العذاب، فكيف لو كان إلى فرع الأمن الذي يوصف بأن “الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود”، السفر كلمة  تحولت إلى الألم في اللغة الإنكليزية ” سافرينيغ”، السفر الاختياري لا يتضمن غرامة تكاليف السفر. الأمر بمراجعة الأمن لغسل الدماغ وتزفييت الروح كان دوماً أشق علي من طلوع الروح،  فالعزلة كاملة في فرع الأمن.. لا نصير لك فيه وغوانتانامو أرحم بل هي حلم مشتهى.

وصلت حسب الموعد،  بعد سفر 700 كيلومتر في بيداء اليأس إلى قلعة “الفرع” . سلّمت بطاقتي الشخصية فدخلت، كنت خلال سنوات قد تدربت وعرفت شيئاً  مهماً هو أن رؤساء الفروع لا يردون السلام على المطلوبين للتحقيق والتعرية، كنت أحتار  كيف أبدأ بتحية الدخول؛ فالسلام عليكم  تحية إسلامية مشبوهة يبغضونها، ومرحبا  تحية ناعمة ونسائية وقليلة الأثر، والأهم من هذا وذاك  أنّ المحقق لا يرد، وعدم الرد إهانة، لذلك كنت أتأسى بالإمام الباقلاني الذي أرسله عضد الدولة إلى ملك الروم، ففطن  إلى حيلة احتالوها  عليه حتى يدخل ساجداً بين يدي ملك الروم، فدخل القهقرى بمؤخرته،  فكبر في عين ملك الروم وهَابَه، لذلك حرصت دائماً على الدخول من غير كلام: اسمي فلان، طلبتموني للتحقيق. لا يعدم المرء حيلاً انتقامية بسيطة يقي شر نقص الكرامة المكتسب في دولة المقاومة.

وصلت  إلى القلعة المسورة بالجند والحديد ودخلت، لا فرق بين وجهي ومؤخرتي من اليأس، احتفظ مكتب الحرس ببطاقتي، حجزوها. قادني أحد العناصر إلى مكتب فيه عناصر يقاومن بالكوتشينة، تفحصت لهجة العنصر التي بدت لي غريبة،  ليست لهجة مخيفة، ليست لهجة قلقلة كبرى.  لاحظت أنّ عنصراً  زميلاً لهم من رتبتهم كان يتصرف بعنجهية وخيلاء، و يجيد أحكام التجويد الجديدة ويمدح قريته “مرقب”، ويلفظ قافها مقلقلةً قلقلةً كبرى، والعناصر الآخرون مؤدبون بحضرته أو أنهم يخشون الأرواح الشريرة في قوافيه! كان يتصرف كأن الفرع فرعه، ملكه  الشخصي.. سألني بعض الأسئلة، أظنّ إنها لم تكن من عمله، فهددني إذا ما كنت خائناً، بأنه سيرمينني في القبو، ويجعلني أنسى الحليب الذي رضعته..

بقيت نهاري كله أتابع قناة الدنيا بأغانيها ومعانيها معهم، وظهر فيها كاتب سيناريو، وظهوره فيها شبه يومي، فكرت في أن أخبر العناصر أنه صديقي، الحق أنه  كان من معارفي، لكني فضلت الصمت، واختلست حبة من علبة في جيبي ورميتها في فمي، فكان أن قفز علي المرقبي، بطل أحكام التجويد في الفرع، وأمسكني من خناقي، فاعترفت بأنها حبة مضاد حيوي، دواء … أنا مريض بالتهاب اللوزات، بدا متشككاً  وخائفاً من أن تكون محاولة انتحار،  ويضيع سرّ الكنز المجهول على سيادة اللواء!  أخرجت له العلبة، فنظر إليها محاولا القراءة … تضرعت من العطش: ماء!!  بدأ ينظر إلي وكأني غدرت بهم جميعاً وحاولت الانتحار.

أمضيت عشر ساعات وأنا أتفرج على قناة الدنيا التي قال عنها رسام كاريكاتوري إنها تصلح للتعذيب. تدربت في أثناء الانتظار على  أمر واحد هو أن أسير بسنة الباقلاني والدخول من غير  تحية وسلام، سأدخل صامتاً،  سأدخل أن استطعت بمؤخرتي. لاحقاً، بعد الثورة، قرأت شهادات لناجين من المعتقلات تقول إن الزبانية كانوا يخضعون  المعتقلين لامتحان بسيط: يخرج الضابط برتقالة ويطلب من الضحية معرفة اسمها فإذا قلب قافها همزةً قضي عليه؟ لو اختبرني؛ لحاولت التخلص من نطق حرف القاف همزة، وقلت عن البرتقالة : باذنجان وردي  أو أورانج!  الأورانج تسمية عربية أصلها نارنج؟  سبعة عشر فرعاً سوريا، و 299 شعبة لتعليم العرب صعود جبل قاف.. بالقوة!

في العسكرية الأمور أكثر سهولة، يسأل الضابط الذي غالباً يكون من أصحاب القلقلة الكبرى المجندَ عن مسقط رأسه؟ ليفحص لهجته، فيقول ما شاء له القول، وعليه؛ إما  أن يكون من ملّة البرتقال، أو من طائفة المندرين أفندي؟ الفواكه طوائف في دولة المقاومة التي لها سيد أوحد في لبنان، حقوق المقاومة والممانعة محفوظة!

اللهجة دين، ” مثل ال د ن ا” .. الساعة  الثامنة مساء، حلّ عذاب موعدي مع  دعد وسقط الرجز، وحضر اللواء،  مرَّ من أمامي  في سحابة من  العطر، أنيقا  كامل الزينة يتراكم عطره في الممرات، بديناً، متبخترا، يمشي مثل وحيد القرن،  كأنما يأكل ثلاث عشرة وجبة في اليوم، بعد دقائق أبلغني العنصر مرقب، إنّ وقت الامتحان قد حان، الشاعر الوحيد الذي أعرفه يستعمل كلمة عنصر في أشعاره هو نزيه فلاديمير عفش أبو بوتين !

رتبني العنصر وكواني  كياً وزرّرّ أزرار قميصي في جروح عرواتها، وأحضر مشطاً وسرّح شعري! كان الانتظار قد دَرَسَني دَرَسا،  تابع إعدادي! كما لو أني بطل سيمثل فيلما هنديا! واقتادني من يدي، الغرض هو الإخافة، وإشعار المطلوب بأنه مرقوب ومعتقل ويرسف في أغلال غير مرئية،  تقدمته وأنا أموج مثل موجة جيبية في الرياضيات؛ نبضة شجاعة فوق، ونبضة خوار تحت، أخيراً مثلت بين يدي ملك الروم والفرس في غرفة مكتبه الفارهة، بات ريقي يحتاج إلى ماء للبلع ، لم أسلم، نظر إلي  نظرة  “جو أرض” وزانني بعينين محتقرتين،  أوقفني مرقب باستعداد؟ هل أنا جندي في معركة؟

سألني ملك الروم والفرس باللهجة السكين ، بالقاف القاطعة؟ عن اسمي ؟ لعله أدرك خدعتي ويريد إذلالي. كيف يسألني وهو ينتظرني وأرسل في طلبي من جبال الواق الواق؟

أظن إني نسيت اسمي،  ووقعت في أسوأ موقف مررت به في حياتي فجعلت البرتقالة باذنجاناً وردياً، بدلا من “أحمد عمر” قلت:”قحمد أومر”. العصبة الحاكمة كانت في مرحلة خلق جديدة، تضمر تدريب الخليقة الثانية أسوة بالخليقة الأولى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا … الأسماء التي علمها ربنا الجديد هي “البرتقالة” وأخواتها!

كنت أدّخرت  له صيحة مثل صيحة إسرافيل في السور : خسئت يا ابن مقطعة البظور.أمصص بظر اللات.. لكني جبنت، بل أني أوشكت أن أتبول على نفسي. لو كانت قواعد الفروسية قائمة لتعاركنا، شاب أعزل يواجه وحيد قرن، وربما تساجلنا، المشكلة كانت أن وحيد القرن مسلح بقرن الدولة كلها!

وقعت على اعتراف وتنازل عن حقوقي كلها متعهداً بعدم الكتابة سوى عن بطولات المقاومة والممانعة، أنا ممنوع عن الكتابة  حتى عن مسلسلات مرايا وبقعة ضوء.. اعترفت أني حيوان، خرجت سعيداً بالحرية وكأني عنترة بن شداد أو آدم الخليقة الثانية. خرجت إلى الشارع ورحت ، عطشاً ، أحسو بعينيّ حركة السير والناس في الليل. أخرجت علبة الدواء وتناولت حبة من غير ماء، كانت الشوارع  خالية تقريبا،لم أجرؤ حتى  على همسة جاليلو، التميمة، بكيتُ مثل دوقلة المنبجي:

هَل بِالطُلولِ لِسائِل رَدُّ

أَم هَل لَها بِتَكَلُّم عَهدُ

دعد..

دعدي كانت قد قتلت…

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى