محمد تركي الربيعومراجعات كتب

لوحات وليم بارتليت: السوق الدمشقي… ثقافة الترفيه واللباس المحلي في عهد إبراهيم باشا/ محمد تركي الربيعو

 

 

ولد الفنان الإنكليزي وليم هنري بارتليت في لندن عام 1809 لعائلة من الطبقة الاجتماعية الوسطى. بدأ حياته الدراسية في مدرسة لتعليم العلوم، لكنه سرعان ما انتقل في عام 1821 للدراسة لدى الإنكليزي جون بريتون، الذي يعد واحداً من أهم المعماريين والآثاريين البريطانيين في تلك الفترة، وهو صاحب أول مجلد عن الآثار المعمارية لبريطانيا، كما ألف ما يقارب الأربعين كتاباً عن الطوبوغرافيا، والفنون الجميلة وفن العمارة. وسرعان ما اتبع باريت خطوات أستاذه في الاهتمام بالآثار ورسمها؛ فقد أبدى الشاب الصغير اهتماماً بدراسة تاريخ الكنائس والكاتدرائيات الإنكليزية.

وبعد هذه الدراسة، أخذ يحظى بشهرة وموثوقية واسعة كرسام له أسلوبه الخاص وطريقته في الرسم، إذ كان يبحث أثناء إعداده للوحاته عن منظور محدد يوفر له مؤلفاً فنياً يرضيه كفنان. ولذلك كان العديد من رسوماته مأخوذا من سفح هضبة، أو من قارب في نهر أو بحيرة، فلا يعيق نظره شيء. كما أن ما ميز أسلوب بارتليت ـ وفقاً للمؤرخ الإنكليزي فيليب مانسيل- إعارته للمناظر الطبيعية الخلاّبة وما لها من أثر على اللوحة بجملتها، أهمية أكثر من تلك التي كان يعيرها لفن عمارة القرون الوسطى بأصالتها وبهائها، وهو أسلوب يعكس تأثره بالفترة الأدبية الرومانسية؛ وإلى جانب ولعه هذا، كان بارتليت يولي الناس المحليين ووصف يومياتهم، سواء في لوحاته أو في ما كتبه اهتماماً كبيراً. ولعل من بين رسوماته الشهيرة التي تعكس هذه الأسلوب لوحة بعنوان «نهر بردى» كان قد رسمها في زيارته لدمشق عام 1934، وأعاد نشرها قبل سنوات المؤرخ السوري حسين عصمت المدرس، والفرنسي أوليفيه سالمون مع مجموعة نصوص ورسوم أخرى في كتاب حول رحلته الرومانسية من أوروبا إلى الشرق الأوسط. إذ تظهر اللوحة مبنىً عثمانياً على يمين الصورة، وهو التكية السليمانية، يقع على الضفة الجنوبية لنهر بردى ضمن مشهد طبيعي خلاب، وبالمقابل على يسار الصورة، هناك مبنيان مقببان، أحدهما على مستوى النهر والآخر (المدرسة العزية). وفي وسطها يظهر رتل طويل من الخيم الممتدة على الضفة الشمالية للنهر، مقابل التكية. كما يُظهر بارتليت في مقدمة اللوحة مظهراً من الفعاليات الحياتية: رجال جالسون تحت الخيمة، وآخرون واقفون يتحدثون على ضفاف النهر، بالإضافة إلى جمال ترعى بحرية على ضفاف النهر، كلها تفاصيل توحي بالهدوء والاستراحة والهناء وجمالية الطبيعة.

الاهتمام بنهر بردى

ومما يلاحظ في اللوحة السابقة، أن اهتمام بارتليت بنهر بردى (رغم أن له صورا أخرى عن دمشق) لم يكن نابعا عن جمالية مشهد النهر الذي يمر في المدينة وحسب، بل تعكس الصورة في أحد جوانبها بعداً لاهوتياً أحاط بالكثير من أعمال بارتليت؛ إذ هدف بارتليت من خلال رسوماته في دمشق والقدس تمكين التلاميذ المهتمين بالتاريخ الإنجيلي من التعرف على جغرافية الإنجيل، والأمكنة التي عاش فيها الحواريون بشكل أفضل. وهو ما يؤكده بارتليت في الصورة السابقة حول نهر بردى، عندما يشير في نهاية رحلته لدمشق إلى أن أكثر الترابطات الموجودة في الإنجيل جدارة بالاهتمام مع هذه المدينة هي أنها كانت موجودة عندما هاجر إبراهيم الخليل (عليه السلام) من أور في الكلدان إلى فلسطين، وكان مرافقه أليعازار الدمشقي، وأن «بردى هو المكان الذي اعتنق فيه القديس بوليس المسيحية، في الوقت الذي كانت فيه سورية قد سقطت بأيدي الرومان».

واللافت أيضاً في صورة بارتليت ـ كما بيّن المؤرخ والمعماري السوري سامر عكاش في كتابه «يوميات شامية»- هو غياب النساء عن مشهده الذكوري بالكامل، بعكس ما تصوره لنا رواية أحمد البديري الحلاق عن سيران دمشق قبل قرابة ثمانين عاماً من زيارته لدمشق؛ ولعل هذا الغياب يعكس دور المخيلة الاستشراقية التي أثّرت في رسم بارتليت لواقع المدينة الشرقية، وهي مخيّلة بقيت كما يبدو في هذه الصورة وفي رواية ثانية – يذكرها في سياق اكتشافه لمدينة دمشق و»لعوالمها المحجوبة» وتتعلق بطلب «ملا رفيع المستوى/فقيه» (لا يأتي على ذكر اسمه) منه مرافقته إلى مخدع زوجته لرسم صورة لها- لا ترى أي دور للنساء داخل الفضاء العام خارج غرف «الحريم السرية والغامضة» وفق تعبير الفنان، أو داخل بعض الحمامات؛ مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن هذه المخيلة لم تكن مدعومة ـ بصور وشغف أيروتيكي- كان دارجاً في رحلات الأوروبيين إلى الدولة العثمانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وربما لو غامر بارتليت بالذهاب إلى يوميات البديري المنشورة عام 1750 ـ كما يبيّن عكاش في كتابه السابق- لكان حظي بصورة مغايرة للنساء في دمشق العثمانية، وذلك قبل زيارته للمدينة بثمانين سنة. إذ يذكر الحلاق الشعبي تفاصيل سيران حضره مع جمع من الأصدقاء في ناحية تدعى الشرف، مطلة على نهر بردى (من الضفة نفسها التي رسم فيها صورته لنهر بردى) «وفي يوم الخميس، الثامن عشر من ربيع الثاني، خرجنا إلى سيران الشرف المطل على المرجة مع بعض أحبابنا. وكان الوقت في أول خروج الزهر في البساتين، وجلسنا مطلين على المرجة والتكية السليمانية. وجدنا النساء وربما كانوا في الكثرة أغلب من الرجال، جالسين على شفير النهر، وهم حول المرجة، والتكية طوال النهار بالمأكل والمشرب والتتن والقهوة، كما يفعل الرجال. وهذا شيء ما رأيناه، ولا الذي هم من قبلنا، إلا في هذا الزمن».

ويشير سامر عكاش إلى أنه رغم عدم دقة المخيال الاجتماعي لصور بارتليت، تبقى رسوماته وثيقة تاريخية مهمة؛ إذ نلاحظ في «صورة بردى» أن المشهد الذي يرسمه عن النهر وموقع التكية، ما زال بالإمكان رؤية ملامحه العامة إلى يومنا هذا، ما يعزز من مصداقية التعريف البصري لرسومات بارتليت للفضاء الحضري للمدينة.

رسم الحياة اليومية

وبالعودة إلى زيارة بارتليت لمدينة دمشق عام 1834، نجد أنه لم يقتصر على رسم بعض ملامح المدينة، بل حاول أيضاً أن يتطرق في مذكراته للحياة اليومية للسكان، وأماكن الترفيه، وواقع المدينة السياسي في تلك الفترة التي كانت تعيش خلالها مرحلة مؤقتة، ومختلفة بعض الشيء، في ظل فترة سيطرة إبراهيم باشا على المدينة، بعد أن كان قد انتصر على السلطان العثماني محمود الثاني، قبل ذلك بثلاث سنوات. فبعد وصوله إلى المدينة، زار بارتليت القنصل البريطاني العام في منزله الريفي في منطقة الصالحية، وفي اليوم التالي رافقه في زيارة إلى أحياء المدينة، وهناك تعرف على بازارات المدينة وحاول مقارنتها بأحوال البازارات في القاهرة والقسطنطينية. وقد «كانت تلك البازارات، كالعادة، مقسّمة إلى شوارع وأزقة، موزعة حسب السلع المعروضة أو النشاطات القائمة، ولا شيء يثير الملاحظة، وربما الإعجاب، أكثر من العدد الكبير من دكاكين الحلوى أو المربيات، وأكوام الحلوى، والمعجنات الدقيقة المحلاة.. وهناك عدد كبير من محال الطعام التي تباع فيها «الكبوب» (الكباب) وأطباق أخرى من الطعام العربي. هناك مقاه في كل زاوية، وبعضها قائم على ضفاف نهر بردى، وهي أماكن مفضلة لدى الشرقيين الذين يستمتعون بالأصوات المريحة كخرير المياه العذب، وحفيف أوراق الشجر استمتاعهم بطعم القهوة والتبغ».

واستمر استكشاف بارتليت لبازارات المدينة عدة أيام، ويذكر في هذا السياق، أنه لم يتعرض لأي مشاكل أثناء تجواله، ولكن لما كانت ملابسه الأوروبية تسلط الضوء عليه بشكل غير مستحب، مرت بباله ـ كما يذكر- فكرة ارتداء اللباس المحلي «متحاشياً اللباس التركي لعظمته وكلفته الباهظة، قررت اعتماد النمط الأكثر تعقلاً من اللباس، وهو لباس المسيحي المحلي». وهنا نعثر على وصف لهذا اللباس المحلي المسيحي، إذ يشير إلى أن خادمه «قام بلف شريط من «موصلين أبيض» ذي طرفين مذهبين حول طربوش أحمر مراراً ليصبح عمامة تقي الرأس من أشعة الشمس، وارتديت فوق قميص فضفاض من الحرير والموصلين وبنطال واسع جداً من الكاليكو الرقيق، ثوباً طويلاً من الحرير يحزمه في منتصفه على خصري شال، ثم أكمل هذ الزي رداء رزين طويل من القماش الأزرق ذو كمين فضفاضين. كما ارخيت شاربي، وصار التحول تاماً على نحو لن تتعرف إليّ أمي إذا صادفتني في الشارع». وبعد ارتدائه للباس المحلي للمدينة يقول «أمسكت بغليوني، ورميت بنفسي وسط الزحام. كانت مشاعري غريبة إلى حد لا يوصف.. وعندما وصلنا إلى منزل صديق لصديقي سي…، تركت حذائي الأحمر عند الباب، ثم جررت قدمي إلى داخل غرفة الاستقبال، لأقفز وأجلس متربعاً على الديوان كمسلم حقيقي (وتلك عملية مستحيلة التحقيق لمن يلبس ثياباً ضيقة)، وسرعان ما أقبل أحد العبيد ليقدم لي كوباً من القهوة وغليوناً، ثم أخذت أدخن وأغمض عيني بكسل واسترخاء كما يفعل الباقون». هنا نجد أن الخيال الاستشراقي بقي يؤثر في سلوكيات الرسام داخل مدينة دمشق عبر سلوكه ورغبته في التخفي بلباس محلي ومحاولة اكتشاف المحجوب بداخلها، مع ذلك فإن ما يلفت النظر في كلامه، هو تكرار حديثه عن القهوة والمقاهي في دمشق بوصفه – مشروباً اجتماعياً – مقبولاً مقارنة بفترة الخلاف الفقهي والمحلي حول دخول القهوة إلى دمشق في القرن السادس عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر، وربما بدايات القرن التاسع عشر كذلك. مع ذلك لا نعلم بالضبط إن كان انتشار هذه المقاهي في تلك الفترة قد تأثر بفترة قدوم إبراهيم باشا للمدينة، خاصة أن وجود المقاهي ودوام عملها كان يتأثر بفترات القلاقل والتحولات السياسية؛ هنا لا يوحي كلام بارتليت بأي شيء بخصوص هذا الجانب، لكن ربما بالإمكان أن نعثر على إجابة عن هذا التساؤل من خلال قراءة مذكرات مجهول كان يعمل ككاتب في الحكومة المحلية، ونُشرت بلغة عامية شامية بعنوان «مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا»، تحقيق أحمد غسان سبانو؛ إذ تأتي هذه المذكرات على ذكر حادثة تتعلق بإصدار إبراهيم باشا لأمر بفتح خمارة في الشام، «وضمنوها نصارى ويهود وإسلام وأخذوا خان المصبنة الذي في الخراب وقاعة النشا وعملوهم خمارة وتشوف الإسلام بأسوأ حال لأنه شي مثل هذا عمره ما صار (قبلا) بالشام وتنظر الوارد على الخمارة مسلمين ونصارى ويهود وتنظر العرق والنبيذ مبسطين فيه بالقهاوي والشوارع مثل قهوة علي ابن منين وقهوة باب شرقي وقهوة باب توما». كما أن ما يلفت النظر في حديث بارتليت إشارته إلى اللفة البيضاء التي وضعها خادمه على رأسه، وهي لفة يقال إن ارتداءها كان مقتصراً على المسلمين وحسب، قبل قدوم إبراهيم باشا للمدينة؛ فقد شعر النصارى مع قدوم الحاكم الجديد بتحسن في مكانتهم الاجتماعية، سواء في الفضاء اليومي العام أو داخل أجهزة إدارة المدينة، وقد انعكس هذا التحسن أيضاً من خلال السماح لهم بارتداء اللفة البيضاء، كما يفعل المسلمون المحليون، الأمر الذي أثار غضب شرائح واسعة في دمشق. وربما نعثر أيضاً في مذكرات الكاتب المجهول على ما يدعم هذه الفكرة، إذ يشير إلى أنه بعد عودة ولاية سوريا للعثمانيين «رتب ديوان مشورة من مفت ونقيب وآغاوات وتجار ومن الجملة اثنين نصارى الخواجا حنا عنحوري (روم كاثوليك) والخواجا جبران ميداني (روم أرثوذكس) وواحد يهودي، وأول الترتيب الذي عمله الديوان أن النصارى لا يكون عندهم جوار ولا يلفوا أبيض ولا يركبوا الخيل ولا ينقلوا السلاح… فلما بلغ النصارى ذلك اجتمعوا في محل وأرسلوا واحدا نصرانيا اسمه الخواجا موسى صدقة من أعيان طرابلس النصارى. هذا كان ثاني كاتب في ديوان تحارير شريف باشا، وهو رجل جسور وله معرفة بالمتسلم فتوجه إلى عند المتسلم وحاضر ليودعه فقال له يا خواجا موسى الظاهر مسافر فقال له لا. وانما امتثالاً لأمر أرباب المجلس بأن النصراني لا يلف أبيض ولا يكون عنده جواري ولا يركب خيل التزمت أني أقمت اللفة ولفيت كفية لأنه بلغ طوائف النصارى أن أمس تاريخه عند المسا نسيب أفندي ومحسن أفندي (المفتي) اثنينهم كانوا عمالين يحرروا خلاصة بذلك بخط نسيب أفندي (القاضي)». ولما سمع المتسلم ذلك، سأل النقيب عن صحة هذه الأخبار، فأجابه أن ذلك صحيح «لأن النصارى خرجوا عن حدهم وصاروا يقلدون الإسلام في جميع أمورهم». وفي هذه الأثناء دخل عليهم رجل اسمه فرنسيس صهر الخواجا مخايل الصولي، ويعمل ترجماناً لقنصل الإنكليز في ولاية سوريا، وطلب منه رد شرفه، لأنه وهو يمر في حارة العمارة، قام أحد أولاد العمري «فخربط له لفته وقال له غير مرة إن عدت لفيت بيضة بقطعها على رأسك». هذه الحوادث دفعت المتسلم إلى أن يطلب من المنادي أن يشيع خبر السماح للنصارى بلف اللفة البيضا وشرب العرق والخمر و«يكون مثل أيام إبراهيم باشا وزيادة»، وقد برر هذا القرار بكونه يعكس رغبة السلطان عبد المجيد في فرض التنظيمات العثمانية الجديدة التي صدرت في عام 1839، خاصةً القانون الجزائي الذي صدر بعد هذه الإصلاحات بعام (1840) والذي اعتبر أن المواطنين العثمانيين سواء أمام القانون، وبموجبه يكون النصراني واليهودي والمسلم رعايا، ويكون حال كل واحد منهم كحال الآخر بدون تمييز يذكر.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى