صفحات الحوار

“لوموند”: الوضع في سوريا يستحقّ جائزة نوبل للسخرية المرة”

أمضى “جان إيرفي برادول”، الرئيس السابق لـ”أطبّاء بلا حدود” (٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٨) شهرين في شمال سوريا، قرب منطقة “الباب” التي تقع على بعد ٣٠ كلم من حلب، وحيث يقوم “أطبّاء بلا حدودط بإدارة مستشفى وبتقديم الدعم للفرق الطبية العاملة في المنطقة. في ما يلي إجاباته على أسئلة جريدة “لوموند”:

* ما الوضع في منطقة “الباب”؟

–  توجد في المنطقة كل المشاكل التي نواجهها عادة في وضع نزاع مسلح. ‪وخصوصا حينما نقترب من خط الجبهة،  مثل منطقة “الصفيرة” مثلاً حيث نقوم بأعمال مساعدة النازحين (توزيع خيام، وأطعمة، وأدوات طبخ). فطوال شهر، كنا نشاهد أعمال قصف كلما توجّهنا إلى هناك لتنظيم المساعدات. وأحياناً، كانت القذائف تستهدف المركز الطبي المتقدم- لم يعد هنالك مستشفى عمومي في المنطقة- في لحظة تدفّق الجرحى إلى المركز. لم يبقَ في “السفيرة” سوى نصف سكانها البالغ عددهم ١٢٠ ألف نسمة.

في “الباب”، بات القصف أقل مما كان في مطلع السنة، ولكن، في كل ليلة، تحلق طائرة فوق المدينة. وقد تعرّضت المدينة أثناء إقامتي فيها للقصف، مرتين، بصواريخ “سكود”. وفي منتصف شهر أيلول/سبتمبر، قامت طائرة حربية بتدمير مستشفى “أطباء بلا حدود” للمرة الثالثة. وقُتِل في هذا القصف الجوي ١١ شخصاً بينهم طبيب واحد وعامل مختبر واحد و٩ مرضى معظمهم من جرحى الحرب.

* هل يؤثّر انعدام الأمن في نشاطكم؟

– الوضع بعيد جداً عن الإستقرار، وهنالك توتّرات بين الجماعات المسلحة، وعصابات نهب وسلب، ومخاطر خطف. وفي مطلع أيلول/سبتمبر، صار اجتياز الحدود التركية صعباً بسبب الإشتباكات بين جماعات المعارضة في “أعزاز”. ومنذ ذلك التاريخ، باتت جميع منافذ الحدود الشمالية قابلة للإقفال في أي لحظة. وذلك ما يزيد من عزلة السوريين ومن صعوبة حياتهم.

خلال الشهرين الأخيرين، في شمال غرب سوريا، تم احتجاز عاملين في “أطبّاء بلا حدود لمدة ٣ أسابيع، كما تم اختطاف جرّاح مناوئ للجماعات الإسلامية واغتياله. وتعرّض أحد زملائي لإطلاق نار. وفي جميع هذه الحالات كان الأطباء الذين تم التعرّض لهم من السوريين. لا يوجد إستقرار. الوضع يتغيّر باستمرار.

* من يسيّر أمور المدن المحرّرة؟

– هنالك مجالس بلدية منتخبة تمتلك إمكانات محدودة جداً. ولكن المحاكم الإسلامية عزّزت نفوذها كمراكز سلطة في القسم الشرقي من محافظة حلب. وتلعب تلك المحاكم دوراً تشريعيا، ودوراً إدارياً كذلك. وهذه المحاكم هي التي تُصدِر إجازات العمل مثلاً.

* يتحدث كثيرون عن تصاعد قوة “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش”)؟

– إنها ظاهرة حقيقية، تنامت بسرعة كبيرة جداً منذ الربيع. والسوريون منقسمون بشأنها. فهذه الحركة تمتلك قاعدة اجتماعية حقيقية وتتمتّع بشعبية حقيقية بين قسم من الشباب، ولكن خصومها نشطون جداً بالمقابل. وتضمّ “داعش” عدداً من الأجانب، ولكن كثيرين من الشبان السوريين التحقوا بها. وكل شيء يتوقّف عما إذا كانت “داعش” تنفرد بالسلطة في ناحية ما أو مضطرة للمشاركة مع جماعات أخرى.

في “الباب”، شكّلت الجماعات الثائرة إئتلافاً لاحتوائها. إن “داعش” تشكل جزءاً من تحالف لقوى المعارضة. وترغب هذه الحركة، مثل الآخرين، بإثبات أنها قادرة على توفير خدمات مفيدة للسكان: مثل توزيع الطحين، والخبز، والوقود، وقوارير الغاز، ومكافحة الجريمة، وإعادة فتح المدارس.

* هل تسعى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” لفرض أجندة أصولية؟

‫- نعم، وهي ليست الوحيدة. فجماعات مثل “لواء التوحيد”، و”لواء الإسلام”، و”أحرار الشام”، تعمل بنفس المنطق. ولكن فرض قائمة ممنوعات (منع بيع السجائر، وإقفال المتاجر في ساعة صلاة الجمعة) ليس أولوية الجماعات الإسلامية.

‫* وكيف يتم التعامل مع الجمعيات الأجنبية؟

‫- يختلف الوضع من ناحية إلى أخرى. ففي “جرابلس”، باتت إقامة الأجانب محظورة، ولكن يمكن للأجانب زيارة المنطقة لمدد قصيرة إنطلاقاً من تركيا بغية الإشراف على برامج المساعدات. أي أن الوضع نصف-نصف. هنالك حذر من الجانبين، وعلاقات لا بدّ منها. إن الجماعات الأصولية ترتاب في أننا نمارس التجسّس والتبشير الديني، غير أنها تعترف بضرورة العون الأجنبي والخبرات الأجنبية، على المستوى الطبي مثلاً.

‫* ما هو الوضع الإجمالي للسوريين؟

– إنطباعنا هو أن نصف السوريين باتوا نازحين. لقد نزح سكان “الصفيرة” نحو الحدود، وحلّ محلهم سكان جاؤوا من دمشق لأن أصولهم تعود إلى “السفيرة”، وهم لم يعودوا قادرين على العودة إلى دمشق. كل شيء بات صعباً جداً. فالمدارس تكتظ بالنازحين، ومع أن هنالك رغبة في استئناف نشاطات التدريس فإن وجود النازحين يشكل معضلة. ويتراءى لنا أن الأشخاص والمؤسسات قد استهلكوا كل إحتياطاتهم المالية. بالمقابل، ما زال نظام التضامن المحلي قائماً، مما يسمح للناس بأن يأكلوا، ليس كثيراً، ولكن المجاعة لم تحلّ بالمنطقة بعد! هذا باستثناء بعض ضواحي دمشق التي تتعرض للحصار. وهنالك شبكة أمان صغيرة، وهي أنهم يمكن لبعض الموظفين أن يقبض رواتبهم، شرط أن ينتقلوا لقبضها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. وعدا ذلك، بات كل شيء مرتفع الثمن، وباتت معظم السلع مفقودة.

* ماذا عن المستوى الطبي؟

– مستشفيات المنطقة لم تعد تعمل. ولم يتم إستبدال الأدوية واللوازم الطبية التي تم استهلاكها. وقد انهار النظام الصحي. الآن، بات الناس يموتون من حادث سير، أو من ضيق تنفّس، أو من ولادة صعبة، بسبب عدم توفّر العناية الطبية أو الأدوية. أما نظام التطبيب الخاص، فهو غالباً مرتفع الكلفة وذو نوعية رديئة. وتنتشر، محلياً، أوئبة “الحصبة” و‪داء الليشمانيات والتيفوئيد.

‪وما يصدم هو أنه، في أزمة بمثل هذا الحجم، فإن المؤسسات الإنسانية الدولية المعهودة ما زالت غائبة: وأعني بها “الأمم المتحدة”، و”الصليب الأحمر” و”الهلال الأحمر”. وهذه المنظمات تعمل في المناطق الحكومية وتعجز عن اجتياز خطوط الجبهة. أي أن كل ما تقدّمه من عون يذهب لمدينة دمشق وللنظام.

‪مثلاً، فإن وزارة الصحة هي التي توزّع الأدوية. ولأسباب قانونية وإدارية تتّصل باحترام سيادة الدولة السورية، فإن الوكالات التابعة للأمم المتحدة لا تعمل في المناطق التي تمس فيها الحاجة للعون الدولي!

إن منظمة “أطبّاء بلا حدود” موجودة في المناطق المحتاجة للمعونات (بطريقة غير شرعية)، ولكننا طلبنا إذناً من النظام للعمل في دمشق منذ سنتين، وما زلنا ننتظر!

لقد نجح قرار صادر عن الأمم المتحدة في فرض وصول مفتشين دوليين إلى مواقع الأسلحة الكيميائية، ولكن شيئاً لم يتغيّر في أحوال سكّان “الغوطة” الذين تمّ قصفهم بالغازات السامة.

فما زالوا تحت الحصار، وما زالوا يتعرّضون للقصف كما في السابق وربما أكثر، وما زالوا محرومين من الغذاء والدواء.

هذا وضع يستحق جائزة نوبل للسخرية المرّة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى