صفحات الرأي

لويس ألتوسير: كيف قتلت زوجتي هيلين

 

 

في يوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1980 قتل الفيلسوف الفرنسي زوجته هيلين ريمان وهو في حالة عقلية متدهورة. يحكي هذا النص، الذي نترجمه اليوم، تجربة محنة غريبة بطلاها ألتوسير وهيلين. تجربة اهتز لها العالم بأكمله، وعالم الفلسفة والماركسية على الخصوص في كل بقاع الأرض. وقبل وفاته يوم 22 تشرين الأول/أكتوبر 1990، رأى الفيلسوف والمنظر الماركسي أن يكتب سيرته الذاتية “المستقبل يدوم طويلا” التي نشرت بعد موته، بعد أن عُثر عليها محفوظة بعناية بين أوراقه وأرشيفه الخاص، فتم تسليمها إلى “معهد الذاكرة” من طرف عائلته سنة 1991. ومنذ ذلك الحين تحولت هذه السيرة الذاتية المدهشة أسطورة من أساطير الأدب الحديث، وبفضل حفيده ووريثه الوحيد فرانسوا بودايير رأت طريقها إلى النشر، مع كتابات ودراسات أخرى غير منشورة وجدت ضمن أرشيف ألتوسير. وقد اعتمد الناشر، وهو يتهيأ لنشر هذه السيرة الذاتية، على عدة شهادات أدلى بها أصدقاؤه، كانت أحياناً مختلفة ومتضاربة، عن حقيقة هذه المخطوطات.

السيرة الذاتية التي اقتطعنا منها هذا الجزء، وهو الأول ضمنها، عرفت شهرة كبيرة كادت تغطي حتى على الكتابات النظرية لألتوسير. فعالم الصحافة يهتم كثيراً بالأسماء الكبيرة حين تتورط في جريمة أو فضيحة، وحين، بعد ذلك، تحكي عن تلك الجريمة في كتاب، كما هي حالة “المستقبل يدوم طويلا”. ما دفع صحافي فرنسي إلى إطلاق اسم “قتل سيرذاتي” على هذا النوع من الأدب الذي يعترف فيه كُتّابه بتفاصيل ارتكابهم للجريمة. إنها وجبة إعلامية دسمة لا تساوي فيها الضحية إلا بضعة أسطر، أما المجرم فيتحول إلى نجم ساطع، إلى بطل.

بعد الجريمة، وبعد إطلاق سراح لويس ألتوسير، إثر الحكم الصادر في حقه، والقاضي بعدم المتابعة لأن الجاني لم يكن في كامل قواه العقلية، قرر ألتوسير الاختباء وعدم الظهور مجدّداً على مسرح الحياة العامة، وقد حكى أحد أصدقائه أنه بصدد كتابة سيرة ذاتية ينوي التطهّر من خلالها عن طريق سرد تفاصيل ما جرى، وأدق اللحظات التي تلت قتله هيلين التي كانت تمثل بالنسبة إليه العالم كله. ويعرف قراء ألتوسير أن همَّ كتابة سيرة ذاتية قد رافقه حتى في كتاباته النظرية. فكتابه النظري “مادية اللّقاء” يبدأ كما يلي: “أكتب هذا الكتاب في أكتوبر 1982، بعد خروجي من تجربة مرعبة استغرقت ثلاث سنوات، من يدري، سأكتب قصتها ذات يوم، ربما يستفيد منها آخرون، وقصة تلك الظروف وما تعرّضت له (العلاج النفسي، إلخ). لأنني خنقت زوجتي التي كانت كل شيء بالنسبة لي في هذا العالم، في خضمّ أزمة حادّة ومفاجئة من الغموض الذهني، في نوفمبر 1980، هي التي كانت تحبني إلى درجة أنها أبت إلا أن تموت حين انعدمت قدرتها على الحياة، وبدون شك “قدمت لها هذه الخدمة”، وأنا في غموضي الذهني وانعدام وعيي”.

I

هكذا احتفظت بالذكرى كاملة ودقيقة في أصغر تفاصيلها، موشومة في داخلي وعبر كل تجاربي إلى الأبد. بين ليلتين، ليلة خروجي ولا أعرف ما هي، وليلة دخولي، سوف أقول متى وكيف: هاكم مشهد القتل كما عشته.

فجأة، قمت من سريري وأنا أرتدي منامتي، داخل شقتي في المدرسة العليا للأساتذة. في يوم رمادي من أيام نوفمبر. كان يوم أحد، والساعة تشير إلى حوالي التاسعة من صباحٍ دخل من اليسار وأضاء أسفل السرير عبر نافذة بالغة العلو، مغطاة منذ زمن طويل بستائر قديمة جدّاً بلون أحمر إمبراطوري، تمزّقت مع الزمن وحُرِقت بأشعّة الشمس.

أمامي: هيلين، نائمة على ظهرها، وترتدي منامتها.

حوضها يرتاح على حافة السرير، ورجلاها ترتخيان فوق السجادة.

جثوت بالقرب منها، وانحنيت على جسدها، وبدأت أمسد عنقها. كنت أحياناً أدلك في صمت رقبتها، ظهرها وخاصرتيها: تعلمت هذه التقنية من أحد رفاقي في الأسر، “كلير” الصغير، وهو لاعب كرة قدم محترف، وخبير في كل شيء.

لكن هذه المرة، قمت بدلكِ عنقها من الأمام. ضغطت بإبهامي الاثنين على الفجوات الموجودة بين أعلى عظام الصدر، وأنا أضغط، ذهبت ببطء بإبهام نحو اليمين وآخر نحو اليسار في خط مائل، إنها المنطقة الأكثر صلابة أسفل الأذنين. شعرت بتعب عضلي شديد في ساعدي: أنا أعرف، التدليك يسبب ألماً دائما في ساعدي.

كان وجه هيلين جامداً وصافياً، عيناها مفتوحتان تحدّقان في السقف.

وفجأة صعقني الرعب: عيناها ثابتتان في السقف دون حركة، وخصوصاً كان رأس لسانها يطلّ، بغرابة وسكون، من بين أسنانها وشفتيها.

لقد رأيت أمواتاً بكل تأكيد، لكنني طيلة حياتي لم أرَ وجه امرأة تمّ خنقها. ورغم ذلك عرفت أنها مخنوقة. لكن كيف؟ نهضتُ وصرختُ: لقد خنقت هيلين.

أسرعت، وأنا في حالة رعب قصوى، أركض بكل قوتي، عبرت الشقة، نزلت الدرج الصغير ذا الدرابزين الحديدي المؤدّي إلى الساحة الأمامية المحاطة بسياج حديدي عالٍ وتوجهت، وأنا أركض دائماً، نحو العيادة إذ كنت أعرف أنني سأجد الدكتور “إيتيان”، المقيم في الطابق الأول. لم ألتق أحداً، كان يوم أحدٍ، والمدرسة شبه فارغة، وما زالت نائمة. وأنا أصرخ دائماً صعدت أدراج الطبيب أربعاً أربعاً: “لقد خنقت هيلين”.

ضربت بقوة على باب الطبيب، الذي كان هو الآخر يرتدي منامة، وفي الأخير فتح الباب، وعليه علامات المفاجأة. صرخت بقوة بأنني خنقت هيلين، جذبت الطبيب من رقبة منامته، مستنجداً أن يأتي بسرعة لرؤيتها، وإلا فإنني سأحرق المدرسة. لم يصدّقني “إيتيان” فقال: “مستحيل”.

نزلنا بسرعة وهنا نحن معاً أمام هيلين. لها نفس النظرة الثابتة وطرف لسانها واقع بين الأسنان والشفتين. فحص إيتيان صدرها بالسماعة: “لا شيء يمكن فعله، فات الأوان”. قلت: “لكن يمكن إنعاشها؟ غير ممكن”.

في تلك اللحظة، طلب مني إتيان بضع دقائق، فتركني وحيداً. بعد ذلك فهمت أنه ربما اتصل بالمدير، بالمستشفى، والشرطة، ما أدراني؟ بقيت أنتظر وأنا أرتعد دون نهاية.

الستائر الحمراء الطويلة الممزّقة تتدلّى من طرفي النافذة، أحدها، الأيمن، يوجد في أسفل السرير كاملا. خطر على بالي صديقنا جاك مارتان، الذي وُجِد ذات يوم من شهر أغسطس/ آب ميّتاً داخل غرفته الصغيرة الواقعة في شارع 16، وهو ممدّدٌ على سريره منذ عدّة أيام، وفوق صدره وُضع جذعٌ طويل لوردة قرمزية: وهي رسالة صامتة لنا نحن الاثنين، فنحن نحبه منذ عشرين سنة، كذكرى لـ”بيلّويانّيس”، رسالة من وراء القبر. أمسكت بأحد الأطراف الممزّقة أعلى الستار الأحمر، ودون أن أقطعه، وجّهته نحو صدر هيلين، حيث استقر مائلا على حافة الكتف الأيمن حتى النهد الأيسر.

عاد إيتيان. هنا كل شيء مشوّش. قام بحقني، على ما يبدو. ذهبنا معه إلى مكتبي ورأيت أحداً ما (لم أعرف من هو) وهو يحمل كتباً كنت قد استعرتها من مكتبة المدرسة. تحدّث إيتيان عن المستشفى. اختفيت في ظلام الليل. كان عليّ أن “أستيقظ”، لا أعرف متى، وأنا في “سانت آن”[1].

II

ليغفر لي قُرّائي. لقد كتبت هذا الكتاب الصغير[2] أولا لأصدقائي، وربما لي أيضاً. وستتبيّن فيما بعد دوافعي.

بعد وقت طويل من المأساة، علمت أن اثنين من أقاربي (لم يكونا الوحيدين بدون شك) تمنّيا لو لم أكن موضوع عدم المتابعة الذي أقرّت به الخبرات الثلاث الطبية-القانونية خلال الأسبوع الذي تلا موت هيلين، وأن أمثل أمام المحكمة. كانت تلك للأسف أمنية تقية.

كنت في حالة مرضية صعبة (لبس ذهني، هذيان حُلمي)، خارج الوضع الذي يسمح لي بتحمّل المثول أمام المحكمة؛ لم يتمكّن قاضي التحقيق الذي كان يزورني من أخذ كلمة واحدة منّي. فضلا عن ذلك، وأنا موضوع تحت الحراسة بفعل مذكرة أصدرها والي الأمن، لم أعد أتمتّع لا بالحرية ولا بحقوقي المدنية. مجرّد من كل اختيار، كنت في الواقع منخرط في إجراء رسمي لا أستطيع دفعه، وما عليّ سوى الخضوع له.

هذا الإجراء يتضمّن إيجابياته الواضحة: إنه يحمي المشتبه به بصفته غير مسؤول عن أفعاله. غير أنه يخفي أيضاً سلبيات مريعة، غير معروفة إلا قليلا.

بكل تأكيد، بعد المرور من تجربة محنة طويلة مثل هذه، كم اندهشت من تفهّم صديقاتي. عندما أتحدث عن محنة، فأنا لا أتحدث فقط عمّا عشته في السجن، بل عمّا أعيشه منذ ذاك، بل أيضاً، إني أراه جيداً، عمّا أنا مضطرٌّ على عيشه حتى آخر يوم في حياتي إذا لم أتدخّل شخصياً وعمومياً لإسماع شهادتي الخاصة. العديد من الأشخاص وهو في أفضل أو أسوأ العواطف خاطروا لحدّ اليوم بالصمت أو بالحديث نيابة عنّي. إن قدر عدم المتابعة، كان في الواقع هو الحَجَر التي كسّر الصمت.

وصفة عدم المتابعة هذه التي تمَّ النطق بها لصالحي في فبراير/ شباط سنة 1981، تتلخّص في الفصل الشهير رقم 64 من القانون الجزائي، في صيغته لسنة 1838: فصل ما زال جارياً رغم اثنين وثلاثين محاولة إصلاح لم تُسفر عن شيء. منذ أربعة أعوام، ضمن حكومة “موروا”[3]، وجدت إحدى اللجان نفسها مجدّداً أمام هذه القضية الدقيقة، التي تسائل كل الآلة السلطوية الإدارية، والقانونية والعقابية التي لها علاقة بالمعرفة، بالممارسة وبالإيديولوجيا النفسية للسجن. هذه اللجنة لم تعد تجتمع. يبدو أنها لم تجد ما هو أفضل.

يعارض قانون العقوبات منذ 1838 وضعية “انعدام المسؤولية” لمرتكب جريمة قام بجرمه وهو في وضعية “جنون” أو “تحت الضغط”، في مقابل “وضعية المسؤولية” الخالصة والبسيطة المعروفة لدى كل إنسان “عادي”.

وضعية المسؤولية تفتح الطريق نحو الإجراء الكلاسيكي: المثول أمام المحكمة، نقاش “عمومي” أو حيث تتم المواجهة بين تدخلات “وزارة الشعب” التي تتكلم باسم مصالح المجتمع، والشهود، ومحامي الدفاع وبين الجزء المدني الذي يعبر “علانية” والمتهم الذي يقدّم بنفسه تفسيره الخاص للوقائع. كل هذا الإجراء المطبوع بالإشهار ينتهي بمداولات سرية للقضاة الذين ينطقون بالحكم علانية من أجل التبرئة، أو من أجل حكم بالسجن، حيث تتم معاقبة المجرم بمدة سجنية محدّدة، يكون فيها “مضطراً” على أداء الثمن للمجتمع، وبالتالي “التطهُّر” من جريمته.

– مركز استشفائي نفسي أقام فيه ألتوسير للعلاج مباشرة بعد حادث قتل زوجته. [1]

[2] – L’avenir dure longtemps, (1985), éd. Stock, 1992-2007. Ed. Flammarion, 2013.

– حكومة بيير موروا وقد دامت ثلاث ولايات (22مايو 1981-23 يوينو 1981)- (23 يوينو 1981- 23 مارس 1983)- ( 23 مارس 1983- 17 يوليو 1984).[3]

المترجم: محمود عبد الغني

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى