صفحات الثقافة

لو أنك أكياس كمّون/ خالد خليفة

 

 

قبل موته بساعتين، نظر عبد اللطيف السالم بما بقي له من قوّة في عيني ابنه بلبل، كأنّه ينتزع منه وعداً مؤّكدًا، ثم أعاد طلب دفنه في مقبرة قريته العنابيّة. عظامه سترتاح بعد زمن طويل هارب قرب رماد أخته ليلى كما قال، وكاد يضيف، قرب رائحتها، لكنّه لم يكن متأكداً من احتفاظ الموتى برائحتهم نفسها بعد أربعين عامًا. اعتبر كلماته القليلة وصيّة أخيرة، ولم يضف أيّ كلمات تجعل تفسيرها ملتبسًا. قرّر الصمت في ساعاته الأخيرة، أغلق عينيه متجاهلًا الأشخاص المحيطين بـه، وغـرق في وحدته مبتسمًا. استعاد صـورة نيفين، ابتسامتها، رائحتها، جسدها العاري الملفوف في عباءة سـوداء وهـي تحاول الطيران كفراشة، تذكّر أنّ عينيه التمعتا في تلك اللحظة، قلبه دقّ بقوة وركبتيه ارتجفتا، حملها إلى السرير وقبّلها بنهم، وقبل استعادته كل لحظات ليلة الأسرار الخالدة كما سمّياها، مات.

بلبل فـي لحظة شجاعة نـــادرة، وتحت تأثير كلمات الفراق الأخيرة وعينيْ أبيه الغائمتين الحزينتين، تصرّف بثبات ودون خوف، ووعد أباه بتنفيذ وصيّته التي كانت برغم وضوحها وبساطتها مهمّة شاقّة. من الطبيعي لرجل كلّ ما فيه يدعو للرثاء، ويعرف أنه سيموت خلال ساعات قليلة، أن يكون ضعيفًا، ويطلب أشياء صعبة التحقّق، كما من الطبيعي لرجل هشّ مثل بلبل ألّا يخذله. اللحظة الأخيرة دومًا عاطفية، غالبًا غير مناسبة للتفكير، لا مجال فيها لمحاكمات عقلانية، ويتكثّف فيها الزمن. مراجعة الماضي وتصفية الحسابات تحتاج إلى هدوء وتأمّل طويلين لا يمارسهما المقبلون بعد لحظات على الموت، يرمون على عجل بأحمالهم، ويمضون لعبور البرزخ إلى الضفّة الأخرى الّتي لا قيمة للوقت فيها.

شعر بلبل بالندم لأنه لم يكن حازمًا، كان يجب عليه أن يخبّر أباه بصعوبة تنفيذ هذه الوصية في مثل هذه الأيام، فالقتلى في كل مكان، يدفنون في مقابر جماعية، ودون تدقيق في هويّاتهم. مراسم العزاء حتى بالنسبة للعائلات الغنية اختُصرت إلى ساعات قليلة، لم يعد الموت كرنفالًا يستحقّ إعلان النفوذ. قليل من الورد، معزون ّ قلائل يتثاءبون في صالة شبه فارغة لمدة ساعتين، مقرئ يتلو سوراً قليلة من القرآن بصوت منخفض، وينتهي كل شيء.

فكر بلبل، العزاء الصامت يزيل رهبة الميت، للمرة الأولى تساوى الجميع في الموت، لم تعد المراسم تعني شيئًا، الفقراء والأغنياء، الضباط الكبار والجنود الفقراء في الجيش النظامي، قادة الكتائب المسلحة والمقاتلون والموتى العابرون ومجهولو الهويّة، يُدفنون بمواكب هزيلة تثير الشفقة. لم يعد الموت فعلًا يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصًا يثير حسد الأحياء.

بالنسبة إلى بلبل، كانت القصة مختلفة تمامًا، جثمان أبيه عبء ثقيل، في لحظة عاطفية خاطئة وعده بدفنه في قبر عمّته ليلى التي لا يعرفها. كان يظن أنه سيطلب تنفيذ إجـراءات تحفظ حقوق نيفين، زوجته الجديدة، في منزل العائلة الـذي دمّرته غارة جوية بالكامل ما عدا غرفة النوم، حيث قضى أبـوه أيام حبّه الأخيرة مع نيفين قبل خروجه من بلدته “س” بمساعدة مقاتلي المعارضة.

” مشهد مؤثر لن ينساه بلبل طوال حياته… أتوا به نظيفًا، من الواضح أنّهم اعتنوا برفيقهم، الذي اختار البقاء معهم برغم الحصار المفروض على البلدة منذ أكثر من ثلاث سنوات. ودّعوه بتعاطف كبير، قبّلوه بحرارة، أدّوا تحية رفاقية، أوصوا بلبل برعايته بطريقة لائقة، وغادروا بلمح البصر عبر طريق فرعي محروس جيّدًا، ومفتوح على بساتين تودي إلى البلدة. كانت عيناه تشيعانهم للمرة الأخيرة، حاول رفع يده ليلّوح لهم لكنه لم يستطيع، كان منهكًا وجائعًا، فقد أكثر من نصف وزنـه، منذ أشهر لم يأكل وجبة طعام كاملة، ككل المحاصرين في البلدة.

كـان جسده ورديّاً، ومسجّى على نقالة معدنية في المشفى العمومي. قال الطبيب لبلبل: يموت الكثيرون كل يوم، يجب أن تكون سعيداً لأنه وصل إلى الشيخوخة. بلبل لم يكن سعيداً كما رغب الطبيب لكنّه تفهم قصده، شعر بضيق شديد من هذه الورطة، شوارع المدينة مقفرة منذ الثامنة مساء، ويجب نقل الجثة قبل منتصف نهار الغد، لا يمكن إشغال المشرحة لوقت طويل، الكثير من جثث الجنود تصل في أوقات الفجر من أطراف دمشق، حيث المعارك لا تتوقف.

خرج بلبل من المشفى والساعة تقترب مـن الثانية ليلًا، فكّر بأنّ أباه يخصّ عائلة كاملة، وعلى جميع أفرادها تنفيذ وصيته الأخيرة. بحث عن سيارة تاكسي توصله إلى منزل أخيه حسين بعد فشل محاولات اتصاله الحثيثة به منذ يوم أمس. فكّر بإرسال رسالة موبايل، لكن الإبلاغ بموت أب عبر رسالة موبايل فيه احتقار كبير، يجب قول ذلك وجهًا لوجه وتقاسم المصاب والألم.

أشار إليه جندي من حرّاس المشفى بالانعطاف نحو كراج درعا القريب. هناك سيجد تاكسي.

قـرر عدم التفكير بصوت الرصاص القريب، حثّ خطاه، وضع يديه في جيبيه وتخلى عن خوفه، السير في هذه الليلة الشتائية، خطر إلى درجة كبيرة، الدوريات لا تتوقف، الشوارع تعج بمسلحين مجهولي الهويّة، الكهرباء مقطوعة في أغلب الأحياء، كتل الكونكريت المرفوعة أمام الفروع الأمنية تحتل أغلب الطرقات، لا يستطيع أحـد، إن لم يكن من سكان المنطقة، معرفة الممرات المسموح بالسير بها والممرات الممنوعة. رأى من بعيد بضعة رجال يتحلّقون حول تنكة مفتوحة فيها عيدان حطب مشتعلة، فكّر بأنهم على الأغلب سائقون تقطّعت بهم السبل، ينتظرون الفجر ليغادروا إلى منازلهم. كان في الرمق الأخير من شجاعته، حين وجد سائق تاكسي يستمع إلى أغنية لأم كلثوم باسترخاء كامل، تفاهم معه، ولم يناقشه في الأجرة.

صمت أوّل الطريق، وبعد دقائق أراد طرد خوفه، أخبره عن موت أبيه بشكل طبيعي منذ ساعة في المشفى، ضحك السائق وأخبره أن ثلاثةً من إخوته وأولادهم ماتوا الشهر الماضي في القصف، صمت الاثنان، لم يعد الحديث متكافئًا، كان ينتظر التعاطف من السائق الّذي كان كريمًا معه، ولم يتركه حتى اطمأن عليه. فتح حسين الباب، وحين رأى بلبل واقفًا أمامه في مثل هذا الوقت فهم كل شيء. عانق أخاه بحميمية، قاده إلى الداخل وقـدّم له الشاي، طلب منه غسل وجهه، ووعده بتدبر أمر كلّ ما بقي من أشياء، الكفن ومعاملات الدفن وإحضار أخته فاطمة.

شعر بلبل بنفسه أكثر خفّة وشجاعة، انزاح همّ ثقيل عن كاهله، نسي تجاهل حسين لوجود أبيه في المشفى، المهم أنه لم يتابع الاختفاء ويخذله. يثق بلبل بقدرة أخيه على التصرف بطريقة جيدة في مثل هذه المواقف، فقد تنقل حسين بين مهن عديدة أكسبته خبرة في معاملات الـدولـة، ولديه الكثير من المعارف في أمكنة عديدة. دون تلكؤ فكّ حسين كراسي الميكرو باص وأعـاد تركيبها بشكل صندوق مفتوح، قال: سنمدد الجثمان على المقعد الجانبي، المساحة جيدة لسفر مريح للجميع، كان يقصد بلبل وأختهما، وإذا أحبّ صهرهما مرافقتهما فلن يضايقهما وجـوده، لكنهما سرعان ما استبعدا ذلك. لم يعد الناس يشعرون بضرورة القيام بواجب تجاه رجل سيقطع جثمانه مئات الكيلومترات للوصول إلى مثواه الأخير.

في السابعة صباحًا أنهى حسين كل ترتيبات السفر، أحضر أخته من بيتها، أزال لوحات الميكروباص الذي يعمل عليه كسيرفيس على خط جرمانا، وبمساعدة صديقه كهربائي السيارات ارتجل إشارة سيارة إسعاف مع زمورها، اشترى علبة ملطف جو، قدّر أنه سيحتاج إليها في سفره الطويل، ولم ينس الاتصال بأحد أصدقائه لتأمين أربعة قوالب ثلج كبيرة. برغم صعوبة الطلبات استيقظ أصدقاؤه قبل الفجر، قدّموا له التعازي، وساعدوه في ترتيب أمور سفرهم. كل ما بقي لتحركهم توقيع مدير المشفى الذي لن يأتي قبل التاسعة صباحًا. انتظروا أمام باب المشفى، لكن مدير المشرحة طلب منهم حمل جثمان والدهم إلى السيارة فورًا، فدفعة جثث جديدة تنتظر على البلاط، والبرادات كانت مكتظة أصلًا.

*مقتطف من الفصل الأوّل من رواية “الموت عمل شاق” التي ستصدر قريبًا عن دار العين، القاهرة ودار هاشيت – أنطون، بيروت

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى