صفحات سوريةوائل السواح

ليس العالم قرية صغيرة/ وائل السوّاح

 باتت الكذبة التي أطلقها بحسن نية أو بسوء نية الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان من أن العالم أضحى قرية صغيرة سمجة وتافهة. والأدهى أننا في بلداننا الكسلى نتشدق بها كل صباح وكل مساء، ونردّدها ونحن جالسون في المقهى أو مثبتون وراء أجهزة اللابتوب أو الآي باد. “العالم صار قرية صغيرة”، نقول متباهين وكأن هذا القول يريح ضمائرنا، ويشعرنا بالمساواة مع من يتفوق علينا بالقوة والسلاح والعلم والفلسفة والكتاب والسياسة ومؤسسات الدولة وحرية التعبير وحقوق الإنسان وكل شيء تقريباً.

ليس العالم قرية صغيرة. ما يحدث في مكان ما في العالم يؤثر على الناس في ذلك المكان، ولا يشعر به البشر الفانون على الأطراف الأخرى من الكرة الأرضية. لا أحد في كندا أو في الولايات المتحدة أو البرازيل أو أوروبا أو الصين وماليزيا وكوريا يعرف مثلاً ما الذي يحدث في جنوب السودان وسوريا. لا يهتم آدمي واحد بما يحدث في طرابلس لبنان أو تشاد أو بورما. وعندما يذهب سفير النظام السوري لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري ليكذب على مواطني سان دييغو في كاليفورنيا، لا يدرك هؤلاء أنهم يستمعون إلى سفاح متورط في قتل مائة وخمسين ألف سوري وجرح أضعافهم وتشريد الملايين من السوريين داخل سوريا وخارجها.

في باكستان حاول متعصب أخرق من طالبان قتل الفتاة الباكستانية ملاله يوسفزي (16 عاماً) قبل أكثر من عام لإصرارها على حق التعليم. هاجم الرجل ملاله، وأصابها بطلقة في رأسها ولكنها تعافت بعد أن نقلت للعلاج في أحد مستشفيات لندن حيث تقيم حالياً. يعرف البريطانيون والغربيون ملالة جيداً. ولكن ماذا بشأن مئات ألوف البنات اللواتي يحرمن من التدريس في إقليم سوات الباكستاني؟ ما الذي يعرفه الأمريكي المتوسط عن إقليم سوات أو بيشاور أو قطاع غزة مثلا؟ هل يعرف أن الإسلاميين الظلاميين قد احتلوا بلدة كفرنبل منارة الثورة السورية؟ وهل يعرف ما هي كفرنبل أصلاً؟

ولا شك أن العالم كله سمع بالمجزرة الكيماوية التي ارتكبتها قوات النظام الفاشي في دمشق بحق أطفال الغوطة الشرقية الصيف الفائت؟ ذلك أن أمريكا كانت على شفا إيقاع ضربة بذلك النظام لارتكابه ذلك. ولكن الجمهور نفسه الذي يعرف ذلك يجهل كل الجهل ان النظام نفسه لا يزال يقصف أبناء وبنات شعبه بالذات بالبراميل المتفجرة والصواريخ الباليستية ويعتقل مثقفيهم وقادتهم بتهمة الإرهاب، ويحاصر النساء والأطفال في مخيم اليرموك ليميتهم جوعاً ومرضاً بعد أن عجز عن قتلهم بأسلحته المختلفة.

وسمع العالم كله العام الفائت بإدوارد سنودن الذي كشف تورط الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالتجسّس على مواطنيها ومواطني العالم بأسره من خلال الهاتف والإنترنت. ولكن معظم القرّاء الذين يتابعون الخبر في الجريدة، يطوونها بعد الانتهاء من القصة، ويتابعون حياتهم بشكل عادي، وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن أحداً لا ينتهك خصوصياتهم وحياتهم الخاصة في أدق تفاصيلها.

قبل سنودن أقدم المجند الأمريكي برادلي مانينغ، 24 سنة،على سرقة آلاف الوثائق من أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية وسرّبها إلى موقع ويكيليكس. الفتى الذي خدم في العراق متهم بأنه سرّب إلى “ويكيليكس” بين تشرين الثاني/نوفمبر 2009 وأيار/مايو 2010 وثائق عسكرية أميركية سرّية عن حربي العراق وأفغانستان، إضافة إلى 260 ألف برقية ديبلوماسية أميركية عائدة إلى وزارة الخارجية. هزّ هذا الحدث حكومات ومسؤولين وأشخاصاً، ومع ذلك أحسب أننا في البلدان العربية لا نعرف تفاصيل ما حدث مع مانينغ وسنودن، ولا نعرف شيئاً عن الصراع بين المحافظين والليبراليين الأمريكان حول زواج المثليين جنسياً، ولا نعرف شيئاً عن إعدام عم الديكتاتور الكوري الشمالي لسبب لا يعرفه أحد، ولا نعرف شيئاً عن مصير مونيكا لوينسكي التي كادت أن تطيح بالرئيس كلنتون أو مصير دومينيك ستروس، المدير السابق للبنك الدولي والمرشح السابق للرئاسة الفرنسية.

ليس العالم قرية صغيرة. يبلغ متوسط دخل الفرد في قطر 98000 دولاراً أمريكياً بينما لا يزيد متسوط دخل الفرد في جمهورية الكونغو الديمقراطية على 300 دولار. هذا التفاوت يجعل العالم عوالم متعددة ومتباينة، وبين عالم قطر وعالم الكونغو، تتراوح عوالم من التباين في الاقتصاد والإنفاق الحكومي ونزاهة الانتخابات وحرية الصحافة. بين فنلندا وهولندا والنرويج التي تتمتع الصحافة فيها بحرية شبه مطلقة من جهة، وسوريا وكوريا الشمالية وإرتريا من جهة ثانية، ثمة برزخ من العوالم التي تختلف وتتفاوت في حرية التعبير والصحافة.

العالم قرية صغيرة كذبة جميلة، ولكن نظرة صغيرة على ما يحدث في سوريا ولبنان والعراق وبورما وكوريا الشمالية والصومال يجعلنا ندرك ببساطة كم العبارة مضللة، نستخدمها لكي نخفف عن أنفسنا تخلفنا ومأساتنا وحرماننا من الحرية والخبز النظيف والهواء النقي.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى