عبد الله امين الحلاق
يروي التاريخ، أن واحداً من حاشية الملك جاء إلى الملكة ماري أنطوانيت محذراً من مخاطر الحال الاقتصادية المتردية في فرنسا قبل الثورة الفرنسية قائلاً: «إن الشعب الفرنسي لم يعد يجد خبزاً يأكله في فرنسا». آنئذٍ أجابته الملكة: «إذا كان الشعب لا يجد الخبز فليأكل البسكويت».
هذا للتدليل على نمط تفكير الطغاة والمستبدين على مدى التاريخ. شعوب مسحوقة تحت أقدام الطغاة ومحرومة مما هو مغاير للحرية والانعتاق من نير العبودية بأشواط، عنينا الخبز، طالما أنه ثمة أنظمة تسلطية في عالمنا لا تشكو شعوبها بالضرورة من فقر أو عوز اقتصادي. واستطراداً، كان العامل الاقتصادي ـ الطبقي واحداً من العوامل المحركة لعجلة التاريخ ودفعها بطرق شتى بما فيها الثورات البشرية ضد أنماط من الحكم الأوتوقراطي تشابه النموذج الفرنسي أيام لويس السادس عشر، من دون أن يكون العامل الوحيد، تبعاً لزجليات ماركسية كلاسيكية اختزلت البشر وحياتهم وتطلعاتهم بــ «الطبقة».
تلك الزجليات تضع نفسها في موقع المتفرج من الثورة السورية حيناً، أو المعارض لها أحياناً كثيرة، ذاك أن من دعم الثورة المصرية والتونسية بصفتهما ثورتين ضد ربيبَين للغرب «الامبريالي»، هو ذاته من عارض الثورة السورية بوصفها تمرد عصابات وسلفيين و«إخوان» ضد النظام «الممانِع»، فإذا أضفنا للبعد الممانع «عدم نضوج الظرف الطبقي» المفضي لثورة يسارية خالصة ونقية، باتت المقتَلة السورية اليوم دون مستوى طموحات «الرفاق» المطالبين النظام الجملكي في سوريا بمطالب طبقية خالصة وإصلاحات اقتصادية قوامها الخبز، تقع السياسة والعودة إلى الفعل على هامشها وعلى شكل «رتوشات» وإصلاحات شكلية.
بالعودة إلى الخبز، فإن عمليات القصف الممنهجة التي ركز فيها الطيران على المخابز في سوريا، من حلفايا مروراً بتلبيسة وصولاً إلى معضمية الشام وكل ذلك في غضون الأيام العشرة الاخيرة من عام 2012، لم تكن محاولة لإخماد لهيب الثورة السورية، بقدر ما كانت استهدافاً لتجمعات بشرية وجدت في الأفران ومراكز توزيع الخبز مكاناً لها.
يدرك النظام السوري جيداً أن ما يريده السوريون اليوم هو إسقاطه بكامل أركانه ورموزه دون أي مساومة على ذلك، وأن من ساهم في ذلك هو نفسه «النظام»، عبر تراكم القتل اليومي الذي أدى إلى تراكم في الحشود النازلة سلمياً إلى الشوارع، ليتلو ذلك اختلاف في أسلوب المواجهة من قبل تلك الجموع التي صارت اليوم زاحفة عسكرياً باتجاه العاصمة… وهو يدرك أيضاً أن مطالب الشعب السوري في الأشهر الأولى من الثورة كانت دون السقف الذي وصلته اليوم، إلا أنها لم تكن مطالب معيشية بالأساس. لم يقابَل قرار لبشار الأسد بالرفض كما قوبل ذلك القرار الصادر في آذار 2011 والقاضي بزيادة الأجور والرواتب للعاملين في إطار محاولة الالتفاف على إرهاصات الثورة التي بدأت تتنامى آنئذٍ. بعدها، وفي الجمعة التالية والتي كانت ثاني جِمع الثورة السورية، ارتفع في أكثر من مدينة سورية شعار: «الشعب السوري مو جوعان». طبعاً، ثمة جائعون ومعدَمون وأناس دون خط الفقر بكثير في سوريا، ومنهم من خرج ثائراً احتجاجاً على وضعه الاقتصادي، لكن، وفي المقابل، كان شعار الحرية هو الجامع للكثيرين ممن خرج بداية الثورة مطالباً بالانعتاق من نير الأسد، وهو حكمٌ اجتمع فيه التجويع والقمع والسجون والذل تجاه الشعب الذي صبر كثيراً وعلى مستويات متعددة، قبل الانفجار الكبير الذي حصل في آذار 2011، الذي حاول الأسد إخماده بــ 1500 ليرة سورية لكل عامل في قطاعات الدولة «أي حوالى 30 دولاراً في ذلك الوقت»، فكان أن فشل فشلاً ذريعاً لجأ بعده إلى القناصات والدبابات والطيران والبراميل ومضادات الدروع والصواريخ المنهالة على المخابز ومحطات الوقود.
مُرَّ معي بالسجون والمعتقلات التي صارت مقابر جماعية او مختبرات لقياس مقدرة التحمل لدى ذلك الكائن المستباحة إنسانيته والمسمى «الإنسان السوري». مُـرّ ببيوت فقيرة وبائسة وأُسر سورية لا تجد قوت يومها من الخبز في الوقت الذي يخرج الأسد خطيباً في دار الثقافة والفنون. قف لوهلة مع نفسك وفكّر بانتهاك الكرامة في سوريا التي صارت بنية لكل فعل من قبل النظام ضد الشعب، وأنت تفكر بكل ذلك، أطلق لمخيلتك العنان وتوقع معنا حجم الخراب والموت السوري واحتمالات استمرار غياب الأنسنة وصفاء النفوس في مرحلة ما بعد سقوط هذا النظام.
التوصيفات لهذه الثورة تبقى على الهامش مقارنةً بالنتيجة الزلزالية التي يرنو إليها السوريون بعد السقوط المرتقب، مهما تعددت التوصيفات لدافع ومسبب ذاك السقوط.
السفير
