صفحات الرأي

ليس محكوماً على الربيع العربي الحشر بين الديكتاتورية والتطرّف/ د. أكرم سكريه

في هذا “الزمن العالمي” وفق المصطلح الماركسي، ومن يسكن خارج العولمة اليوم يسكن خارج الزمن. حيث أكد Pierre Bourdieu على أنه لا يمكننا تفسير ظاهرة اجتماعية، في هذا الزمن، خارج تأثير العامل الكوني (Facteur universel).

أقرأ مع الديموغرافي الفرنسي Emanuel tod، الذي استقرأ انهيار الاتحاد السوفياتي في كتاب صدر له عام 1978، أي قبل 11 سنة من حدوث ذلك على الانهيار، إن ثورات الربيع العربي محكومة بمآل ديموقراطي.

وأقرأ كذلك مع المستعرب الفرنسي (Henri Laurens) “إنها اللحظة التاريخية التي سيتعلمن فيها الإسلام”.

إن الشباب العربي الذي احتل الساحات والميادين، تحت شعار المطالبة بالحرية والكرامة، إن هو إلا جيل ما بعط سقوط برلين عام 1989.

إن إشكاليات ثقافة الحقوق الإنسانية والقيم العالمية، التي طرحها مثقفو عصر النهضة العربية في بدايات القرن العشرين، على صعيد النخبة الفكرية العربية والإسلامية في حينه، يتم استعادة طرحها اليوم، ولكنها، ولأول مرة في تاريخ هذه المجتمعات، تطرح على الشارع العربي والإسلامي، بمتعلميه والأميين فيه، من خلال شاشات التلفزة أولاً، ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي ثانياً. ومن خلال السفر والتنقلات والهجرة وتبادل المعلومات ثالثاً.

فالمشترك الثقافي العالمي هو ما تنتجه المؤسسات الدولية، الأممية منها والحكومية، والقطاع الخاص والأفراد. وما يتم الترويج له من خلال وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وهو ما يدخل البيوت من دون استئذان من أصحابها. وهو ما يتحقق من خلال القوانين الدولية ذات السيادة على القوانين الوطنية.

إنها العولمة، فنحن مواطنون عالميون ثقافياً، وما الخاص الثقافي، لكل جماعة من الجماعات البشرية، إلا تنوعاً (وليس تعدداً) في إطار وحدة الانتماء للثقافة العالمية. ونحن مواطنون عالميون اقتصادياً، بفعل التزام دول العالم بقوانين وأنظمة اقتصاد السوق. فإن إخراج دولة ما من السوق العالمي هو أحد أشكال العقوبات عليها (تجربة إيران نموذجاً).

فهل يمكن للخاص الثقافي لهذه الجماعة أو تلك، أن يهيمن على المشترك الثقافي العالمي، ذو الأصول الغربية، في زمن العولمة؟ أعتقد أنه كمن يحرث في بحر.

لقد رفعت بعض الحركات السياسية العربية والإسلامية شعار “الإسلام هو الحل”. وعندما وصلت الى السلطة، تخلّت عنه، وراحت تبني سلطة الحزب الحاكم لا سلطة الشرع الإسلامي، (حركة حماس في غزة وحزب الأخوان المسلمون في مصر).

أما حزب ولاية الفقيه في إيران، فهو يناضل من أجل العودة الى المجتمع الدولي بشروط المجتمع الدولي، ومن أجل العودة الى السوق بشروط اقتصاد السوق، لا بشروط الشرع الإسلامي وفق المذهب الجعفري الإثنيْ عشري.

لقد وعيَ جيل شباب ثورات الربيع العربي العالم، على نظام سياسي واحد، وهو النظام الديموقراطي وعلى ثقافة وقيم هذا النظام:

1 ثقافة الحقوق التي تقرّها شرعة حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وشرعة حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية.

2 ثقافة القيم العالمية Les valeurs universelles في الحق بالحريات العامة والخاصة.

فهذه تونس تحتكم لشروط الخيارات الديموقراطية وفقاً لدستور وطني قائم على احترام مبادئ حقوق الإنسان مع صعوبات طبيعية في مرحلة التحوّل.

وهذه مصر، على أبواب إقرار دستور وطني قائم على احترام مبادئ حقوق الإنسان، لا “إعلاناً دستورياً”، كما فعل حزب الأخوان المسلمون على يد الرئيس المنتخب في لحظة استثنائية، من مسار الثورة المصرية، السيد محمد مرسي.

وهذا الشعب السوري، الذي وطيلة أعوام ثلاث، يواجه جيش النظام الأسدي المتوحش إسماً وفعلاً، ويستمر في المواجهة على الرغم من تأخر وتردد المجتمع الديموقراطي في العالم، بدعمه بالسلاح في اللحظة المناسبة، مما أدى الى تشتت قواه المسلحة في مواجهة سلاح الطيران ومدفعية النظام وأشكال الدعم العسكري كافة، من مجموعات قتالية مساندة لهذا النظام، من العراق ولبنان وإيران وغيرها.

إن الشعب السوري لا يختصر بعشرات آلاف المسلحين ممن هم منضوون في إطار جبهة النصرة وداعش.

وها هما وزيرا خارجية كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية يؤكدان بأن بشار الأسد هو من يدعم بعض التنظيمات المتطرفة والإرهابية، من أجل أن يضع المجتمع الدولي بين خياري الديكتاتورية، وهو من يمثلها أو التطرّف.

ولقد خبرنا نحن اللبنانيين هذا النظام، كيف حضّر حافظ الأسد للحرب الأهلية اللبنانية، تمهيداً لدخوله العسكري الى لبنان تحت شعار حماية مسيحيي لبنان.

لقد سمى (Michel Seurat) هذا النظام (Syrie: Etat Barbarie) سوريا: دولة البرابرة (وتمت تصفيته جسدياً بسبب هذا المقال).

إن دولة إيران تدعم دولة البرابرة في سوريا، وكذلك روسيا بوتين ودولة الصين الصاعدة عالمياً، مما منع مجلس الأمن عن اتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة من أجل حماية الشعب السوري من نظامه المتوحش. وهذا ما دفع بشباب من سوريا الى الانخراط في مجموعات مسلحة متطرفة مدعومة من المجتمع الأهلي الخليجي.

إن إشكالية الصراع في هذه اللحظة من تاريخ المجتمعات العربية هي:

1 إشكالية صراع سياسي بين جيل ما بعد سقوط جدار برلين وما بين أنظمة الاستبداد السياسي.

2 إشكالية صراع ثقافي بين مقولة “الإسلام هو الحل” التي تتهاوى، ووثائق الأزهر الثلاث:

أ الوثيقة الأولى: في الدولة المدنية حيث يؤكد “أن لا دولة دينية في الإسلام”.

ب الوثيقة الثانية: حول الحق في الحريات العامة والخاصة.

ج الوثيقة الثالثة: حول الحق بحرية الإبداع.

(لقد شارك مصريون أقباط في وضع هذه الوثائق).

3 إشكالية صراع اقتصادي بين فئات اجتماعية شابة وعاطلة عن العمل من جهة، وفئة اجتماعية متحكمة بالثروة الوطنية لهذا البلد أو ذاك من موقع السلطة السياسية.

4 إشكالية صراع بشأن حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة وفق قرارات الشرعية الدولية 242 و338، مما يدفع بالشعب الفلسطيني للإحساس بالظلم التاريخي وبالتالي اللجوء الى الفكر الديني في مواجهة مقولة “يهودية” الدولة الإسرائيلية.

إن أنظمة الاستبداد السياسي العربي منعت طيلة عقود ست أو سبع، أي شكل من أشكال التنظيم السياسي للقوى المعارضة للحزب الحاكم. والسؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً ليس حول غياب القيم الديموقراطية عن المجتمعات العربية في ظل أنظمة الاستبداد السياسي العربي وهذا ما هو تحصيل حاصل. بل كيف استطاع الشباب العربي إسقاط هذه الأنظمة من دون وجود لأحزاب سياسية معارضة؟

5 إشكالية موقع ودور الجماعات المسيحية في دول الربيع العربي:

إن نظام الطائفية السياسية في لبنان قد حمى الحريات العامة والخاصة في فترة الاستبداد السياسي العربي. وكان مسيحيو لبنان هم من أسس لهذا النظام.

ومن ثم كان اتفاق الطائف الذي أكد على تطوير نظام الطائفية السياسية باتجاه الدولة المدنية.

هذا المصطلح الذي يعني الاعتراف بالجماعات المكوّنة للمجتمعات العربية وإيجاد مجلس شيوخ للحفاظ على خصوصيتها الثقافية، الى جانب برلمان منتخب على أسس المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون.

لقد شكّل المسيحيون اللبنانيون والعرب عموماً رافعة تقدم اجتماعي تاريخياً. ولقد شكّل لبنان، بفعل الدور المسيحي، نموذجاً متقدماً للمجتمعات العربية في انفتاحه على الثقافة الغربية وقيم هذه الثقافة التي أضحت ثقافة عالمية. وكانت انتفاضة ثورة الأرز في 14 آذار 2005 تجسيداً لبنانياً لهذه الثقافة.

إن انتصار ثورة الأرز في طرد النظام السوري من لبنان شكّل المقدمة الضرورية، وإن لم تكن المحدّدة لثورات الربيع العربي.

إن مستقبل الجماعات المسيحية في العالم العربي رهن بمستقبل المجتمعات العربية بمكوناتها المتجمعية كافة. ومستقبل هذه المجتمعات رهن بمستقبل الديموقراطية فيها، وهي قيد الإنجاز على الرغم من كل الصعوبات التي تطفو على سطح الأحداث السياسية، وهي صعوبات طبيعية في مرحلة التحوّل هذه.

إن التكامل بين الشرطين “الذاتي” العربي و”الموضوعي” العالمي هو الذي يضمن وصول الشعوب العربية الى الالتحاق بالركب الديموقراطي العالمي الذي كانت من إحدى تجلياته بالأمس جنازة المناضل نلسون مانديلا بكل معانيها الإنسانية والديموقراطية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى