صفحات سورية

ليكف عجول السلفية عن توفير الغطاء للنظام لاستباحة الدم .

 


محمود جلبوط

مرت “الجمعة الحزينة” لصلب المسيح هذه السنة على سوريا ثقيلة الحزن , لم يحتج مسيحيي سوريا هذه السنة أن يتبادلوا القليل من النبيذ الأحمر استحضارا لدم قدمه المسيح طوعا على صليب طغيان الأيام الغابرة لعسكر روما الغرباء الذين أتوا المنطقة محتلين بعد أن وشى عنه يهوذا اليهودي , لأن دم المناسبة المسفوك هذه السنة ملأ شوارع المدن السورية بعد أن قرر سكانها محاكاة المسيح لمواجهة طغيان حاضرهم بصدور عارية تماما كما فعل المسيح ولكن تكاثر عليهم وللأسف أبناء جلدتهم من أجهزة أمنية وجيش وشبيحة وقناصة يتلمذون الحقد وضمير قد انتهت صلاحيته بوشاية يهوذيي العصر عجول السلفية , الطائفية والمذهبية .

عندما طلبت بالأمس خلال اتصال هاتفي مع سوريا من صديق ينحدر من عائلة مسيحية , أن يحدثني عن رأيه فيما يجيش في الشارع السوري وخاصة بين صفوف مسيحييه حول ما يجري من نشاط انتفاضي في الشارع السوري , أجابني بحسرة وتأفف : لقد أتت جهود النظام في بث الخوف بين صفوفهم أكلها يسانده خطاب سلفي وطائفي يتناثر هنا وهناك تساهم السلطة عن قصد على نشره في المناطق التي يقطنها أبناء الأقليات الدينية والمذهبية لتخويفهم ولهذا يرجح صديقي أنه من الممكن أن يكون بعض هؤلاء العجول ممن علفتهم الأجهزة الأمنية السورية لتمتطيهم في مثل هذه الظروف رجالات المخابرات والشبيحة كما حدث في مصر .

حزنت , ثرت , وفجرت عاصفة غضب في وجه صديقي على الهاتف : ليكف هؤلاء العجول شرهم عن المنتفضين , وأمطرت صديقي بوابل من الأسئلة: كيف ومتى وأين ومن , وختمت بالسؤال: أين العقل والعقلاء ؟

يقاطعني صديقي : في ظل الخوف والفزع يسيطر على تصرفات الناس غريزة القطيع ويهبط دور المنطق والعقل إلى حدوده الدنيا وأنت أكثر العارفين : ماذا تظن في أناس من أتباع أقليات دينية ومذهبية, مسيحيين/علويين/دروز/اسماعيليين..إلخ هم فاعلون بعد سماعهم خطبة الشيخ السلفي الفلاني في مدينة درعا يطعن في وطنية جيرانه من المدينة المجاورة لها (السويداء وتجمع سكانها دروز ومسيحيين) وفي شرف نسائها وهي في أمس الحاجة لتضامنها أو الفلاني في بانياس التي تحتاج لتضامن سكان القرى العلوية من حولها وكذا جبلة واللاذقية وطرطوس وحمص وحماة وغيرهما من المدن السورية , أو بعد قراءتهم وسماعهم لتعليقات أو كتابات صحفية أو الكترونية أو مشاهدة بعض اليوتوبت المشبوهة في ظل ما يسود من تضليل أمني وتهويش وتشويش منظم وهادف من قبل رجالات النظام أمنيين وإعلاميين ومثقفي سلطة لتعميم الخوف والتمهيد للإيغال في دم المنتفضين الذين تجرئوا على إزالة الخوف الذي سعت السلطة على مدار حكمها لاستقراره في قلوبهم و.و..و.وكثيرا من الأمور التي تناولناها في جو متوتر ومشحون….

تتوزع أحياء باب توما سبع كنائس مختلفة وفقا لتقسيمات رعاياها الدينية , يرتادها المسيحيون كما اعتادوا في هذا الوقت من كل سنة , ليلة “الجمعة الحزينة” لإحياء جمعة القيامة من كل سنة بالآلاف ولكن الحضور في هذه المرة قد اقتصر كما حدثني صديقي على عدد قليل لم يتجاوز العشرات وعندما سألت صديقي عن الأسباب قال لأن غالبية المسيحيين الدمشقيين قد اختاروا اعتكاف منازلهم ضيقا وخوفا وقلقا , وحدثني أيضا أن في أحد الشعنين الماضي كانت عناصر أمن سورية بلباس أسود تجري تفتيشا دقيقا لزوار الكنائس التي لوحظ مرابطة بعض من العناصر المسلحة على أسطحها.

إن عزف النظام على وتر الثنائية المتضادة :الأمن-الفوضى بدأت تؤتي أكلها , كما حدثني صديقي , فقد لوحظ في الفترة الأخيرة تشكيل مجموعات مسلحة في الأحياء التي يقطنها المسيحيون في باب توما والقصاع ودويلعة , يجولون الشوارع ليلا ويقومون بعمليات تفتيش استفزازية والتدقيق في هويات المارة الشخصية تحوم شكوكهم حول أي عابر سبيل غريب عن الحي . يريد النظام أن تنتشر الشكوك بين التجمعات السكانية المختلفة ليحقق أمرين : ضمان عدم التجمعات الكبيرة وإحباط أي إمكانية لتنسيق شعبي مشترك بين فئات الشعب يتطور من خلاله العمل الانتفاضي المستقبلي .

لقد أتت سياسة الخوف التي اتبعها النظام أكلها إذا وأدت إلى تشويش موقف أبناء الطائفة المسيحية كما فعل نظام مبارك المخلوع في صفوف أقباط مصر.

إن الخوف الذي عم الأقباط المصريين نتيجة الهجوم الإرهابي الذي تعرضت لهم كنائسهم أثناء أعياد الميلاد في مدينة الإسكندرية , والذي كان له قصب السبق في إحجامهم عن الاشتراك الفاعل في الانتفاضة المصرية عندما انطلقت التزاما بدعوة البطريرك شنودة لهم , يمكن أن يتكرر أيضا في سوريا وينتشر بين صفوف أبناء الطائفة المسيحية والأديان والمذاهب الأخرى في سوريا وإن لم يعلن عن نفسه بعد مكتفيا بأن تمظهر بالدعاء للرئيس بشار بطول البقاء كعادة السوريين في الممالئة , على أجنحة خطاب أرعن وحقير يمارسه عجول السلفية من الطائفة السنية وبعض عجول المذهبية والطائفية من الطوائف والمذاهب الأخرى من علويين وغيرهم الذين تمتطيهم أجهزة المخابرات السورية أشباه مأمون الحمصي أو الشيخ السلفي الدرعاوي الموزع على صفحات اليوتوب أو شيخ عشيرة ..إلخ فيتكرر سيناريو أقباط مصر ويحصد النظام منه ما يدعم دعواه ضد الانتفاضة ليوجد غطاءا ولو واهيا لتوجه دباباته اليوم لاقتحام درعا والمدن السورية الأخرى فتنفتح أبواب سوريا لاحتمالات مدمرة : إما تكرار ما جرى فترة الثمانينات من القرن المنصرم , أو توريط الشعب السوري قصرا لتكرار ما جرى في ليبيا بانتظار تجهيز دول حلف الناتو مطيتهم.

إن الخطاب السلفي والطائفي المتساوق مع ما يقترفه قناصة النظام وبلطجيته , السابقون والحاليون واللاحقون , أو على يد “مندسين” كما يدعي النظام والبعض من مؤيدي نظريته , يضع أبناء الطوائف الغير سنية مسيحية/درزية/علوية/إسماعيلية وغيرها أمام خيارين : إما الانضمام إلى السلطة وتأييدها خوفا على حياتهم ومصالحهم وأمنهم مما يحمله مستقبل يكتنفه الغموض يدعمه غياب خطاب انتفاضي سياسي وطني جامع بل نكاد نقول علماني واضح ومعلن , أو الانكفاء عن الاشتراك في أي عمل انتفاضي معارض في أفضل الأمور .

إن هذا بالضبط ما خطط له النظام منذ اندلاع الانتفاضة الجريئة لتؤتي روايته التي طبلت وزمرت الأجهزة الإعلامية للترويج لها في الأوساط المحلية والعربية والدولية أكلها : أي بمعنى آخر أن النظام يعلن على الملأ : “إن سقطت ستعم الفوضى في المنطقة وستسقط البلد في براثن السلفيين والإرهابيين الإسلاميين” الرواية إياها التي سئمها الشعب العربي كثر ما كررها كلا من الرئيسين السابقين المعزولين بن علي ومبارك ومن على طريق العزل القذافي وعبد الله صالح …إلخ فيبرر لإيغال أجهزته الأمنية في دم المواطنين تحت “ضوء الغرب الأخضر” كما حصل فترة الثمانينات من القرن الماضي وبالتالي يحاصر الشعب بخيارين اثنين أحلاهما مر : إما إعادة الخوف والرعب واليأس اللائي انتزعهما الشباب السوري بجسارته المنقطعة النظير إلى قلوب الناس وبالتالي رضوخهم ثانية لحياة الذل والخنوع لتعود الأمور إلى سيرتها الأولى , أو دفع المنتفضين الذين يصرون في كل حين على سلمية انتفاضتهم لعسكرتها ولو بالقوة والمؤامرة كما حصل في ليبيا فتقع الانتفاضة في الفخ الذي نصبه لها النظام بجرها إلى حقله الذي خبره جيدا لممارسة لعبة أتقن الفوز فيها بامتياز وقد درّع نفسه لها بكل أدواتها , وبالتالي ستشرع أبواب سوريا لرياح المجهول وستكون الطريق ممهدة للقوى الإقليمية والدولية , الغربية والصهيونية منها بشكل خاص , للعبث ليس بأمن سوريا لوحدها بل لصياغة المنطقة حسب أجنداتها , ومن هنا يمكن فهم مواقف بعض اليساريين والقوميين العرب البعيدين عن حقيقة المشهد السوري والغير ملمين بطبيعة النظام وتركيبته بالطبع لعدم تعرضهم للسعات “ممانعته” المحلية الحقيقية , الموقف الذي يستخدمه مثقفي الولاءات المذهبية والطائفية , طبعا إلى جانب الموقف الذرائعية كل للمقاومة الفلسطينية واللبنانية(مع اختلاف أسباب كل منهما!!) التي تغض الطرف عن معاناة الشعب السوري وتفتحه على آخره في مواقع الانتفاضات العربية الأخرى.

فهل يمكن للمرء أن يفهم من التعقيدات الملمة بالانتفاضة السورية أن الشرط المجتمعي للتغيير في سوريا لم ينضج بعد؟

أم أن الأمر يتعلق بحساسية الموقع الجغرافي الاستراتيجي لسوريا بالرغم من افتقارها لحقول نفط واسعة؟ أم لأسباب أخرى لم تتكشف تفاصيلها بعد ؟ على القوى الوطنية السورية في الانتفاضة وخارجها والغيورة على مصير سوريا ومصير العرب والمنطقة الإسراع في توسل الإجابات الصحيحة لأن الدم السوري ينزف وبغزارة للمرة الثانية .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى