صفحات الناس

ليلة تمنّيت موت حافظ الأسد/ ريم الجندي

 

 

عام 1970 سجن أبي في سورية. تلك كانت المرة الأولى. كان عمري ست سنوات. لم يخبرني أحد حقيقة أن أبي مسجون، لكني فهمت ذلك من همس العائلة والزوار وارتباك أمي واتصالاتها الهاتفية في محاولات مستميتة لمعرفة مصيره.

في غيابه الذي استمر حوالي السبعة أشهر، كان علي أن أتمسك بفكرة أن أبي سيعود، وأن أشياءه التي تركها هي الدليل على ذلك. فمن غير المعقول أن تبقى فرشاة أسنانه وماكنة الحلاقة المعدنية وعطر الـ “أولد سبايس” بسفينته الشراعية، مصفوفة على رف المغسلة من دون أن يستعملها. ومن غير المعقول أيضاً أن تبقى كتبه المرصوصة في مكتبته متروكة من دون أن يقرأها ويكتب على هوامشها بقلم حبره الأخضر.

بدأت علاقتي بأبي السجين تتحول إلى علاقة مع أغراضه. صرت أجلس ساعات في الحمام أنظر إلى رف البرسولين الأبيض حيث أدوات الحلاقة، أفتح خزانة ثيابه، أكتشف النقوش على كرافاتاته، ألعب بأزرار قمصانه، أستعمل أقلامه، وأقرأ كتبه. أول كتاب قرأته في ذلك العمر لم أفهم منه شيئاً، لكن ذلك بدا وسيلة منطقية لاستمرار وجود أبي في البيت. ما زلت أذكر ذلك الكتاب الأول والخط الأسود الذي طبع به العنوان. إنه “السأم” لألبيرتو مورافيا.

بعد عدّة أشهر عاد أبي. كان شديد النحول. هذه أيضاً صورة لن تمحى من ذاكرتي. لم يطُل بقاؤه معنا. غادر بيروت مسافراً إلى سيراليون التي أمضى فيها ما يقارب السنة. لم أحتمل فكرة غيابه مرة أخرى حتى لو لم يكن الغياب هذه المرة سجناً. يوم سفره، وقفت أنظر إليه منتظراً المصعد وحقيبة سفره إلى جانبه. ألحيت عليه أن يأخذني إلى المطار لأودعه هناك. قال إنه لا يستطيع اصطحابي معه، لأنه لن يقدر منع نفسه من البكاء أمام الناس كطفل صغير، كان أبي يخجل من البكاء.

اعتدت في تلك الفترة من عمري أن أتمنى كل ليلة قبل النوم أمنية واحدة: أن يموت حافظ الأسد. كل ما كنت أعرفه عن ذلك الشخص وقتها أنه الشرير الذي يحرمني من أبي. حين مات بعد ذلك بسنوات، جلست أمام التلفزيون إلى جانب أبي في انتظار تأكيد الخبر. وحين أعلنت الوفاة رسمياً، قال لي “إن كان هناك من تعويض، فهو أنني شهدت موته ولم يشهد موتي”.

في العشرينيات من عمري، سألته إن كان تعرض للتعذيب، نفى ذلك. لم أصدقه. هي محاولته الأخيرة لحمايتي ولحماية نفسه من الانهيار أمامي.

عام 1994 كان العام الذي سجن فيه والدي للمرة الأخيرة في سورية. سجن شهراً ونصف، مرّ خلالها عيد الميلاد الأول لابني. حين عاد إلى البيت بدا وكأنه كبر عشر سنوات. وجهه أيضاً كان نحيلاً. وحين احتضن حفيده انهار بكاءً وشهيقاً لم أتخيل أن أسمعه منه يوماً. كان يحمل ابني ويبكي وينظر إلي وكأنه يعتذر. تلك المرة لم يستطع أن يحميني من رؤيته باكياً.

كنت أنظر إليه وأتذكره في طفولتي واقفاً مع حقيبة السفر. كنت أنظر إلى طفلي في حضنه وأفكر: حين يكبر ابني عاصم، الذي يحمل اسم جده، عليه أن يغادر هذه البلاد.

العربي الجديد

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى