صفحات الناسعزيز تبسي

ليه يا بنفسج!!/ عزيز تبسي

-1-

لا يضحك الزهر ولا يبكي، كما لا يحزن ولا يفرح. وإن كان يختلج بتلك المشاعر، فنحن لم نستطع رصدها ومراقبتها. الناس هم من يؤوّل ألوانه وعطوره. تتعثّر التأويلات مرة أخرى، البنفسج لا يبتهج، من يبتهج هم زارعوه وسقاؤوه، الراسخون في تراب حقولهم، المتكبدون عناء طرد الذباب والدبابير عن وجوههم وأطعمتهم في الصباح، المتلاصقون ببعضهم خلف أبواب موصدة، لتجنب المواجهات المخفقة، مع الضواري في أوّل الليل وآخره.

يخرجون من بيوتهم في الصباح الباكر، بالتزامن مع خروج تلاميذ المدارس، ليصغوا إلى الصخب المبهج الخارج من رئاتهم الصافية، وليتأمّلوا ظهورهم المنحنية تحت ثقل حقائب مختنقةً بالكتب والدفاتر، وضحكاتهم التي تتعالى على رشقات الرصاص المتقطّعة، وعبث أقدامهم بالحصى والعلب الفارغة، وهرولتهم إلى بوّابة المدرسة فور سماعهم رنين جرسها.

ينعطفون بعد ذلك في شارع فرعي، ويمضون لشراء الزلابية الساخنة. يحتسون بعدها قهوة اشتروها من صانعها، الذي يحمل آلته ولوازمها على ظهر سوزوكي، ويرابط بهم على نواصي الشوارع. يحيون الأصدقاء القدامى، العابرين على دراجاتهم الهوائية التي اقتنوها حديثاً، حازمين فوق مقعدها الخلفي عبوة غاز فارغة، الذين يردّون التحية بتحريك رؤوسهم نحو الأعلى خوفاً من رفع أياديهم وترك المقود. يدخنون السجائر، وينفثون دخانها إلى الأعلى، وهي سانحة لرؤية السماء وغيومها، والدخان الأسود المتصاعد، من حيث تساقطت القذائف في الليل. قد أرادوا الإيحاء لأنفسهم ولمن حولهم أن: الحياة حلوة، ويمكن عيشها بطريقة ما.

تمنوا ألا تنتهي النقود من جيوبهم، كما كانت لا تنتهي الذخائر من بندقيات أبطال أفلام رعاة البقر، السلف الصالح لرجال الشرطة والمخابرات في الأفلام الأميركية الأحدث، وألا يموتوا مضرّجين بدمائهم على الطرقات، حيث ستعجز نساؤهم وأولادهم عن جمع أشلائهم ورتقها، كما عجزت أمهاتهم، في زمن خلا، عن رتق قمصانهم وبناطيلهم، تكفيهم بضعة جراح عابرة، يستطيع النطّاسون مداواتها، بحياكة متّزنة للجلد، وتضميدها برقائق الشاش الأبيض، علّها تلقنهم درساً في مواجهة الموت.

-2-

تغيّرت الأمور، لم يعد اللصوص يستعينون بقفازات جلدية، كما في الأفلام البوليسية، ليعاينوا أقفال الحوانيت والبيوت التي يسرقونها، مختبرين في فتحها الأنيق أعداداً كثيرة من المفاتيح ، بعدما تبينوا أن “شعبة البصمات” التابعة للشرطة الجنائية، عاجزة عن التمييز بين البصمات الآدمية وحوافر الماعز، وأنه بات بإمكانهم كذلك اقتلاع بواباتها المعدنية، بعد ربط أطرافها بسلاسل معدنية، وجرّها بالسيارات التي سرقوها قبل أيام من أصحابها. لم يعد من ضرورة للتستّر، حين الابتلاء بالمعاصي، لأن هناك ألف وسيلة للدفاع عن المعصية، في حين لم يتبق سوى وسيلة واحدة للعقاب. تغيّرت الأمور، لم يعد الناس يكترثون بأنواع الشامبو والصابون، حيث تنتشر اللوحات واللصقات الدعائية على واجهات الصيدليات والمجمّعات التجارية، الجميع بات يستخدم طواعية شامبو “سنان” المضاد للقمل والصئبان.

-3-

يجلس العجوز، في صدارة طاولة خشبية مستطيلة، ثابتة منذ زمن أمام مدخل المقهى، يحيّيه الداخلون والخارجون بلباقة مصطنعة، يتحلّق حوله أصدقاء وشبّان بأعمار أولاده، ينتظرون منه كلاماً غير ذاك المكرّر الذي أمسى امتداداً للنعاس. يدوّر السيجارة بين أصابعه قبل أن يولجها فوهة “الأمزك” الخشبي، يشعلها وينفث دخانها ببطء. يتحدّث عن ضرورة التمسّك بالثوابت، فيخالها المستمع ضربًا من الوطنية الراسخة أو الهتافات الثورية الصادحة، وإذ بها ربطة العنق والمنديل الخارج من طرف جيب الجاكيت والحذاء اللامع، وتدوير الكلام الصادر من المحطات التلفزيونية المحببة. لكنّه تحدث أخيرًا بكلام مختلف: “أتعلمون أنه مازال البعض من أهل المدينة، يطلقون على “الهيطلية”، الحلوى المصنوعة من طبيخ النشاء والحليب والسكر ويرش سطحها المتجمّد بماء الزهر، “حيطلية”؟. لا يكمل حديثه بعجالة، بل يتأنّى محدّقاً في وجوه الأصدقاء ليرصد أثر الكلام. وبعدها يستأنف حديثه: “يجهلون أو يتجاهلون عن عمد اسمها المنسوب لمدينة هيطل في شرق خراسان، بينما أهل دمشق يسمّونها “هيلطية””. يقاطعه أحد الشبّان الجالسين على الطاولة: حسناً، لكن ماذا تسمّي الوقائع التي بدأت في 18آذار2011 يا أستاذ! أرجو ألا تتأخر في الإجابة، قبل أن نتحوّل كلنا إلى هيطلية أو حيطلية، لأنه بعد هذا التحوّل، لن يفيدنا لفظ الاسم الصحيح ولا نبرة الصوت التي سننطقها به.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى