صفحات الناسمحمد أبي سمرا

مآسي حرمون/ محمد أبي سمرا

في رحلة استطلاعية سريعة لأحوال اللاجئين السوريين في ما سمّي “فتح لاند”، في المثلث الحدودي في أقصى الجنوب الشرقي من لبنان، ألحّ هذا التساؤل: ما هي حصة النظام البعثي والأسدي من المأساة اللبنانية المتناسلة، ومن الكارثة السورية الراهنة، ومن مأساة الشعب الفلسطيني؟ فمن “فتح لاند” بدأت مأساة لبنان التي استثمر فيها حافظ الأسد طاقة نظامه الأمني. ولولا هذا الاستثمار الذي شمل الفلسطينيين وقضيتهم، ما كان لذلك النظام أن يستتب و”تتأبد” سيطرته على الدولة والمجتمع السوريين، ولا أن يحصد “أمجاده” الإقليمية والدولية على جثة سوريا. هكذا بنى “مملكة أسدية” جوفاء صامتة كالسجون والمعتقلات، على أنقاض احتمال تشكل لحمات وطنية – سياسية للبنانيين والسوريين والفلسطينيين.

في نهار بارد غزير المطر، قمنا برحلة سريعة في قرى قضاء حاصبيا وبلداته على السفوح الغربية لجبل الشيخ أو الحرمون، وبين شعابه التي تشكل مثلث حدود لبنان مع سوريا وفلسطين المحتلة. كان هدف الرحلة استطلاع أحوال اللاجئين السوريين في تلك المنطقة النائية. لكن التنقل في قرى تلك الديار التي بدت اليوم أرضاً للهجران والضمور والإهمال والنسيان، فتح في الذاكرة سجلّ التاريخ القديم للمأساة التي يتخبط فيها لبنان منذ ستينات القرن العشرين.

الفصل الأول من ذلك السجل بدأ هناك عندما سمّيت تلك الديار “فتح لاند”.

من يتذكر اليوم هذه التسمية وظروفها اللبنانية والإقليمية التي كرّست، منذ عشايا “اتفاق القاهرة” في العام 1969، إقطاع بلدات المثلث الحدودي اللبناني وقراه لمنظمات “العمل الفدائي الفلسطيني” المسلح، من أجل “القضية العربية المقدسة”؟ وذلك بالنيابة عن الجيوش العربية النظامية المهزومة في حرب حزيران 1967.

بدايات المأساة اللبنانية

من يصل إلى شبعا ويمر قرب مزارعها الشهيرة متجهاً إلى كفرشوبا وراشيا الفخار، ومنها نزولا إلى قرى وادي الحاصباني، يستحيل عليه – اذا ما كانت تتشبّث بذاكرته منذ الطفولة أسماء تلك القرى مع فصول ووقائع وحكايات مصدرها الجغرافيا الطبيعية والبشرية لأهلها، قبل صيرورتها “فتح لاند” وبعدها – ألاّ يستعيد الصلة مستقرئاً بين بدايات المأساة اللبنانية في منعطفاتها ومساراتها المتناسلة حتى اللحظة، وبين الكارثة السورية الراهنة التي دفعت ملايين السوريين إلى التشرد في بلدهم، واللجوء إلى دول الجوار.

يصعب نسيان دور سوريا البعث والأسد في تصدير المقاتلين الفلسطينيين وسلاحهم إلى لبنان، واستعمالهم واستعماله، منذ ما قبل “اتفاق القاهرة”، “رأس حربة” إقليمية في الصراع ضد اسرائيل، بديلاً من مجابهة جيشها من الحدود السورية، وخصوصا بعد حرب تشرين 1973 التي أنهت الحرب على الجبهة السورية، فلم تعد تُطلق منها مذاك إلى اليوم، رصاصة واحدة على الجيش الإسرائيلي. أما حدود لبنان الجنوبية في معقل “فتح لاند” ومعه باقي المخيمات الفلسطينية، فتحولت معسكرات لمنظمات مسلحة وأجهزة أمنية شتى، متنازعة الولاءات الإقليمية والأهواء الإيديولوجية، ومتباينة التمويل والتسليح والأمرة التنظيمية والعسكرية. هذا ما أدى الى انفجار الحروب الأهلية الملبننة التي كان للنظام الأسدي حصة الأسد في تأجيجها، وصولاً إلى احتلال لبنان على جثث مئات الألوف من القتلى اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين. والحق أن نظام حافظ الأسد ما كان ليستتب ويتصلّب و”تتأبد” سيطرته الأمنية الديكتاتورية على الدولة والمجتمع السوريين، وما كان له أن يحصد ما حصده من “أمجاد” إقليمية ودولية على جثة سوريا، لولا ولوغه في حروب لبنان وتحويلها سوقاً لمقايضاته التي اشترى بها سكوت المجتمع الدولي عن نظامه الدموي. هذا ما مكّنه من الاستقواء على اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، فقوّض احتمال لحماتهم الوطنية، وأمعن في تدمير مجتمعاتهم وتمزيقها، ليبني على أنقاضها “مملكة أسدية” صمّاء جوفاء صامتة كالسجون والمعتقلات.

أسماء وحوادث

فيما كنت أستمع إلى شذرات من حكايات اللاجئين السوريين عن رحلاتهم البرية الشاقة من قراهم إلى شبعا، عبر قمم جبل الشيخ وشعابه الوعرة، استفاقت ذكريات طفولتي المنسية الأقرب إلى حكايات الجدات ومرويات المكاريين والمهرّبين على بغالهم في رحلاتهم الشاقة في جرود الجبل نفسه. ثم لم تلبث أن ترددت في ذاكرتي القصية أسماء القرى السورية على المنقلب الآخر من سفوج الجبل، وفي سهل حوران وسهل الحولة الفلسطيني الذي تعلوه مزارع شبعا. أذكر من القرى السورية: عرنا، بيت جن، مجدل شمس، حضر، دربل، جباثة الخشب، جباثة الزيت، والقنيطرة في الجولان. أما أسماء البلدات والقرى اللبنانية على المنقلب اللبناني من الجبل، فيعود ترددها في الذاكرة إلى زمن أحدث، هو زمن “فتح لاند” ويسبقه بقليل: مرجعيون، حاصبيا، الخيام، دبين، بلاط، إبل السقي، كوكبا، الفريديس، الخلوات، كفرحمام، الهبارية، راشيا الفخار، كفرشوبا، عين قنيا، شويا، المجيدية، الماري، الغجر، ميمس، الكفير، عين عطا، مرج الزهور، برغز، لبايا، زلايا، وصولاً إلى كفرمشكي وراشيا الوادي في البقاع الجنوبي. وفي صفحات سجل الأسماء المنطوية بعيداً في الذاكرة تتردد أيضاً أسماء مزارع شبعا: برختا، مشكول، الحولة، حوربيا، برطعيا، رمثان، بيت البراق، وسواها الكثير.

حوادث “ثورة 1958″، كما في منام سمعت في نهاياتها بعضاً من أهالي شبعا يرددون هاتفين: “نور السعيد أكل قتلة وانحكم اعدام مع علي شمعونا” (الرئيس اللبناني كميل شمعون). ترتبط تلك الحوادث أيضاً بصورة رجل يدعى علي الوحش، قدم من الجبل من خلف الحدود، فجنّد بعضاً من رجال شبعا وشبّانها، وفجّر في ساحتها سيارة محازب سوري قومي اجتماعي فرَّ من القرية مع غيره مع رفاقه المحازبين، فاحتجز الوحش “الثائر” نساءهم في زريبة في المزارع التي أعدم فيها أيضاً شابين أخوين اختطفهما بثياب النوم عند الفجر من بيتهما في إبل السقي التي كانا يعلّمان في مدرستها.

مرجعيون

هذه الأسماء والحوادث وأمثالها، لا تتوقف عن التدافع في الذاكرة أثناء الرحلة في تلك القرى، بدءاً من مدينة مرجعيون شبه الخالية والمهجورة وسط الضباب على رابية في السهل المنبسط أسافل جبل الشيخ. يصعب المرور في مرجعيون من دون حضور طيف أنطوني شديد، مراسل صحيفة “واشنطن بوست” في الشرق الأوسط، الأميركي المرجعيوني الأصل والأجداد، الذي عاجلته نوبة ربو، فقتلته على ظهر حصان عائد به من القصير السورية، مخوّضاً في نهار ماطر في مياه النهر الكبير الجنوبي على حدود لبنان الشمالية. كان أنطوني شديد يستقصي الوقائع الميدانية للكارثة السورية، بعدما أعادته حرب تموز 2006 إلى جذوره وأرض أجداده في مرجعيون، فسجّل سيرة عودته في كتاب عنوانه “بيت من حجر” (تُرجم إلى العربية ونشرته “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر”، 2013)، وروى فيه ملحمته الشخصية في إعادة تشييد منزل جدّه لأمه، المهجور، وإقامته فيه. لكن الموت عاجله، فترك البيت لسيرة جديدة من الهجران والإهمال والخراب في الحاضرة الجنوبية المحلية الأكثر تمدناً، قبل أن تترك الهجرات المتعاقبة بيوتها الأنيقة الجميلة مهملة مهجورة متصدعة. والحق أن كتاب شديد مرثاة لمرجعيون، قدر ما هو تسجيل يومي لإصرار الكاتب السيزيفي، الموحش واليائس، على إحياء جذوره فيها.

لكن أيّ جذور يمكن بعث الحياة فيها، بعدما مرت سنوات كثيرة على خلوّ بيوت مرجعيون من أهلها الراحلين عنها قنوطاً من مصير حاضرتهم التي شملتها “فتح لاند”، فاحتل المفوّضون السياسيون والأمنيون في “قوات العاصفة” أجمل بيوتها واتخذوها مقارّ لهم في حرب السنتين (1975 – 1976)؟ هذا بعدما أقفلت مدارسها الكثيرة أبوابها، وسكتت أجراس كنائسها، التي كتب الشاعر حسن عبدالله مرة، من بلدته الخيام على رابية مقابلة: “والياس والأجراس سالت على آحاد مرجعيون”، مبتهجاً بتدفق تلك الأصداء ومشاهد المرجعيونيين الزاهية في الآحاد، إلى حواسه على الرابية المقابلة.

الوزّاني

عند منابع نهر الوزّاني المحاذي للجولان المحتل، وقفتُ دقائق، فمرّت في الذاكرة حكايات قديمة لمهرّبين ومكاريين من شبعا يخوّضون في مياه النهر على الحدود اللبنانية – الفلسطينية، فتغرق بغال بعضهم في المخاضة. كثرٌ منهم دهمتهم الحاميات الحدودية السورية في الجولان القريب، فاقتادتهم مع بغالهم وأحمالها إلى مدينة القنيطرة، عاصمة الجولان قبل احتلاله، فمكثوا سنوات في السجون والتعذيب. أحدهم كتب مذكراته في السجن الذي خرج منه بلا أظفار في أصابع يديه وقدميه، ثم هاجر إلى الأرجنتين وانقطعت أخباره. آخر عاد في صيف من مهجره في الكويت، وركب حماره إلى بستانه في مزرعة برختا الشبعاوية غداة الانفصال الوحدوي ما بين مصر وسوريا، فقبض عليه في المزرعة رجل المخابرات السورية المدعو أبو سعيد الذي احتجزه ليومين من التعذيب، متهماً إياه بأنه مخابرات مصرية، وجاء ليتجسّس على سوريا من مزارع شبعا.

موحلة تتدفق مياه نهر الوزّاني في الاتجاه المعاكس لانسحاب وحدات من الجيش السوري في هزيمة الجيوش العربية في حزيران 1967، فوصلتْ تلك الوحدات المنسحبة من الجولان إلى قرية شبعا مروراً بمزارعها، وقام أهالي القرية بإيواء الجنود السوريين المنهكين وإطعامهم وتزويدهم ملابس وأحذية، قبل نقلهم ألى بلدهم بعد أكثر من أسبوع من الكارثة الحزيرانية. اليوم بعد 46 سنة على تلك الكارثة يفر أبناء وأحفاد لأولئك الجنود من قراهم وديارهم السورية إلى شبعا، لكن ليس عبر مزارعها، بل عبر شعاب جبل الشيخ الوعرة، فتتوزع موجاتهم كلاجئين في قرى العرقوب اللبنانية، فهل من صلة بين الواقعتين هاتين وبين “القضية المقدسة” و”فتح لاند”؟

أبو قمحة

في قرية أبو قمحة الصغيرة – وهي كانت مزرعة للزيتون والعنب على ربوة تعلو مجرى نهر الحاصباني أسفل حاصبيا، قبل أن تتسع وتعمر لإقامة قروية دائمة – لا شيء ينبئ عن أن أحداً من أهلها لا يزال مقيماً في بيوتها المهجورة المتداعية، من دون أن يلجأ إلى هذه البيوت أيٌّ من اللاجئين السوريين، على الرغم من أن أحدهم حدَّثنا عن غلاء إيجار البيوت في حاصبيا، الذي التقيناه في ساحتها، وقال إن مئة أسرة من السوريين اللاجئين تنزل في البلدة.

وحدها الكنيسة الضخمة في أبو قمحة تنتصب مرمّمة زاهية، لكن لا حياة فيها، على خلاف حالها في ما رواه لي مرة الصديق الشاعر الراحل بسام حجار الذي نذر السنوات الأخيرة من حياته لرواية “سيرة الرخام” البارد ومشاهد شجرات السرو الوحيدة الجامدة قرب القبور، بعدما أمضى السنوات الأسبق في رواية السيرة الأليفة لاعتزاله في البيت بين أشيائه الحميمة وجدرانه ونوافذه. قال بسام إن لا سيرة ولا ذاكرة له خارج المشاهد الآنية لضآلة العيش وكفافه في حياد الرخام ووحشة السرو. كانت تلك من المرات النادرة التي روى فيها خبراً عن أهله الأحياء، فعرفت أن أمه من حاصبيا، وأنه كان يصطاد في أبو قمحة في فتوّته حين يذهب في الصيف لزيارة أهل أمه.

كنت أحدثه عن فتيان من شبعا سحرتهم صورة الفدائي الفلسطيني في شخصية “الأخضر العربي”. وهو لبناني جنوبي يدعى أمين سعد، وكان مدرّساً قبل التحاقه بمنظمة “الصاعقة”، ومرابطته في شبعا في أواخر الستينات، فقتل على تخوم مزارعها في غارة إسرائيلية على معسكرات الفدائيين. بعدما فعل السحر فعله في مخيلة أولئك الفتيان، نزلوا من قريتهم إلى مركز قيادة “قوات العاصفة” في أبو قمحة، فزوّدهم ضابط فدائي التقوه تحت شجرة زيتون، قنابل يدوية ومسدسات، كي يصيروا فدائيين مثل “الأخضر العربي”. واحد من أولئك الفتية قُتل في الشيّاح بعد سنوات، فيما كان يحرس مقراً لـ”فتح” وقع أمامه اشتباك مع مسلّحي منظمة “الصاعقة”.

بطولات العملة – الأسد

آنذاك، ومنذ غداة الهزيمة الحزيرانية حتى صيف 1982، كان الفدائيون الفلسطينيون من المنظمات الكثيرة المتباينة الأسماء والولاءات، قد نصبوا قواعدهم ومعسكراتهم وكمائنهم ومقارهم في نواحي منطقة العرقوب وقراها وبلداتها. ومنها زحفت “قوات العاصفة” بقيادة أبو خالد العملة (لاحقاً صار شاكر العبسي، مؤسس “فتح الإسلام” في مخيم نهر البارد، من أركان العملة في “فتح الإنتفاضة” السورية الأسدية) إلى جبل لبنان في حرب السنتين (1975-1976)، فسطرت ملاحمها مع “كتيبة فتح الطلابية” من المجندين اللبنانيين اليساريين الماويين وسواهم من الشيوعيين والسوريين القوميين الاجتماعيين، في تهجير سكان أشهر بلدات الاصطياف اللبناني وتدميرها في أعالي المتن، من حمانا الى فالوغا، فالمروج وبولونيا وضهور الشوير والمتين وعينطورة، وصولاً إلى الزعرور والغرفة الفرنسية في أعالي صنين. وهذا ما حمل أبا أياد على القول مزهواً “إن الطريق الى فلسطين تمرّ في جونيه”. فما كان من مدبّري الصفقات في السياسات الإقليمية والدولية إلاّ أن أوكلوا لـ”سوريا الأسد” إدارة المأساة – الملهاة اللبنانية، فزحف الجيش الأسدي من البقاع إلى صنين وطرد القوات الفلسطينية وحلفاءها من أعالي المتن، واستكمل تدمير بلداته، نزولاً إلى بحمدون فعاليه وبيروت. هكذا انكفأت قوات أبي خالد العملة وعادت إلى “فتح لاند” في العرقوب، فيما كان الجيش الإسرائيلي يقيم الشريط الحدودي الجنوبي المحتل بأمرة سعد حداد، لتستمر فصول تهجير القرى والبلدات الحدودية وتدميرها، تمهيداً لزحف الجيش الإسرائيلي وصولاً إلى بيروت صيف 1982.

أشباح الماضي وصناعة الأشباح

من رحم الكارثة اللبنانية الناجمة عن إنشاء “فتح لاند” لمقاومة اسرائيل مقاومةً عروبية فلسطينية أدت الى إطباق احتلالين، سوري أسدي واسرائيلي، على لبنان، جرى، في خضم الاحتلالين ما بعد العام 1982، توليد مقاومة جديدة إسلامية في ضاحية بيروت الجنوبية التي تحولت “مربعاً أمنياً”.

المربّع – المَرْبَع الجديد هذا، يختلف جذرياً عن معقل “فتح لاند” في المثلث الحدودي الجنوبي الداخلي شرقاً. يتجلى هذا الإختلاف في أن المربع مزج مزجاً عضوياً دينياً وطائفياً وخلاصياً بين سكان الضاحية الجنوبية المهجرين المقتلعين في عراءٍ اجتماعي وسياسي في خضم الحروب وكوارثها، وبين نواة الجهاز الأمني المقاوم الوليد ولادة سرية على يدي “الحرس الثوري” الإيراني في البقاع أولاً، قبل غرسه عضوياً في خاصية بيروت الجنوبية. لكن ما قامت به خلايا الجهاز السري في بداياتها في بيروت ما بين 1983 و1985، يشبه ما يحدث في لبنان اليوم من اغتيالات وتفجيرات انتحارية، على إيقاعات الكارثة السورية التي يشارك “حزب الله” فيها مشاركة أساسية، فيما يتدفق مئات الألوف من اللاجئين السوريين الى الديار اللبنانية.

كأن الحزب الخميني – الحرسي الإيراني الذي وُلد من رحم الحروب والاحتلال والتهجير والإقتلاع والتذرر والتشرد، يريد لمشاركته في الحروب السورية وتشريد أهلها أن تولّد عدوّاً جديداً مكافئاً له يشبهه ويسمّيه “الإرهاب التكفيري” الذي يزعم الحزب أنه ذهب لقتاله في سوريا لحماية “ظهر مقاومته” في لبنان. هذا بعدما نسي إسرائيل من دون أن تنساه، إذا صحّ أنها هي من اغتالت حسان اللقيس قبل أيام. لذا يبدو أن “حزب الله” اليوم يقاتل أشباح ماضيه، محاولاً التبرّؤ من ذلك الماضي، ماضي ولادته السرية السوداء، بعدما تراءى له أنه في طريقه إلى السيطرة على لبنان الدولة والمجتمع، سيطرة جهازية شمولية أو توتاليتارية. وذلك على الطريقة الأسدية، وباسم مقاومته إسرائيل و”تحريره” الجنوب، مزدرياً تاريخ لبنان السابق على حروب المقاومة، بوصفه “ملهىً” ليلياً يجلب العار والذل والمهانة، فيما الحروب والقتل والتهجير والتدمير والتشريد والإغتيالات تجلب له وحده أكاليل الغار والأمجاد والملاحم البطولية التي يسطرها اليوم في سوريا إلى جانب بقايا الجيش الأسدي.

في شبعا – التي اشترى فيها “حزب الله” عدداً من المحازبين، معظمهم من الذين كان يسمّيهم “العملاء” المجندين في “جيش لبنان الجنوبي”، على ما يروي كثر من أبناء شبعا – يصعب على المرء ألاّ يتذكر مزارعها التي تذرّع “حزب المقاومة” باستكمال تحريرها بعد جلاء الجيش الإسرائيلي عن الجنوب في العام 2000، فظل لسنتين أو أكثر يلهج باسمها، قبل أن ينساها وينصرف، ما بعد العام 2005 وجلاء الجيش السوري الأسدي عن لبنان، إلى أعمال وغايات علنية وسرية أخرى. وها هو ذا يتوّج أعماله بالحرب على الشعب السوري الثائر على نظامه الأسدي الدموي والإستبدادي، فيتدفق السوريون لاجئين الى لبنان في أمواج بشرية ضخمة من الاقتلاع والتشرد والذل والهوان، استكمالاً لما عاشوه وعاشه لبنان في ظل البعث والأسد، طوال عقود.

ألوفٌ من هؤلاء اللاجئين انتقلوا على البغال والحمير وسيراً على الأقدام من قراهم على السفوح السورية الشرقية لجبل الشيخ، ليصلوا إلى شبعا، مجتازين الجبل في رحلات تستغرق 7 ساعات من المشقّة والعذاب. بعض من هذه الرحلات يموت فيها أطفال ونساء حوامل وجرحى، قبل وصولهم إلى البلدة اللبنانية الحدودية التي لا تاريخ لها خارج الحروب والهجرات والتهجير والاحتلال والعزلة الجغرافية والإهمال في كنف شعاب كتلة جبلية ضخمة صخرية جرداء.

شبعا: عرسال أخرى؟

دور شبعا على حدود لبنان الجنوبية الشرقية، في استقبالها اللاجئين السوريين وإيوائهم وتوزيع بعضهم – بعد فرارهم من قراهم التي تتعرض على السفوح السورية لجبل الشيخ لقصف من الطيران والمدافع الأسدية – يكرِّر دور عرسال الحدودية في أقصى البقاع الشمالي، لكن على نطاق أضيق وأعسَرَ على اللاجئين. فالدروب الجبلية من القرى السورية إلى شبعا، شديدة الوعورة وأطول بكثير من الدروب والمعابر إلى عرسال التي سبقت شبعا زمناً في استقبالها اللاجئين وإيوائهم. لكن البلدتين تتشابهان في تجربتهما الحدودية المريرة مع نظام البعث والأسد.

قد تكون تجربة شبعا مع الاحتلال الإسرائيلي، أنستها تلك المرارة التي تذوّقها الشبعاويون مهانةً وابتزازاً من رجال المخابرات السورية في المزارع، قبل أن تصير مسرح عمليات للفدائيين الفلسطينيين الذين استدرجت عملياتهم إسرائيل إلى احتلالها، مما أضعف عروبة الأهالي الهلامية والناصرية أصلاً. وإذا كانت الحروب الملبننة لم تُبقِ في شبعا أحداً من مسيحييها الذين كانوا يشكّلون ربع سكانها، فإن الإحتلال الإسرائيلي حال دون عودة مسلميها المقيمين في بيروت إلى الإصطياف فيها، فبارت بساتينها وخربت في معظمها، وتضاءل عدد سكانها. لكن المفارق أن العمران العشوائي ضرب أطنابه فيها وفي الوعر والمشاعات، فأمست طبيعتها القروية أثراً بعد عين، اقتداءً بعشوائيات ضواحي الضاحية في حي السلّم وصحراء الشويفات، بفضل أموال المهاجرين والمقيمين في تلك الضواحي. فإذا بشبعا، ما بعد “التحرير” في العام 2000، كتلةً هائلة من الباطون الأجرد على جبل أجرد، يبعث مشهدهما المقبض الضيق والكآبة والغثيان في النفس والروح.

قبل أن يبدأ اللاجئون السوريون في الوصول إليها مطالع الصيف الماضي، كانت موارد شبعا الداخلية ودورة إنتاجها المعيشي المحلي في منزلة الصفر تقريباً، ما خلا موارد الرعاة من قطعان الماعز في الجرد، فيما يعتاش سواهم من المقيمين على تحويلات المهاجرين المالية، وبعض مرتّبات الوظائف الحكومية، التي يُصرف معظمها على تشييد البيوت وتكديسها. وهي البيوت التي كانت على موعد مع تدفق اللاجئين السوريين وتزاحمهم على استئجارها لإيواء عائلاتهم، فلم يبقَ في البلدة إلاّ ما ندر من بيوتها خالية، فيما تكدّس اللاجئون حتى في كاراجات السيارات والمحال التجارية الخالية التي استأجروها، مع تزايد موجات اللجوء منذ مطالع الخريف، من دون أن تقام مخيمات للإيواء، كما في عرسال والبقاع الأوسط. المقتدرون بعض الشيء من اللاجئين، توزعوا على بعض البلدات والقرى، منها حاصبيا، حيث تنزل مئة عائلة سورية في بيوت مستأجرة. وقد لا تخلو قرية وبلدة في قضاء حاصبيا من عدد من العائلات اللاجئة، إلاّ في ما ندر. أما من لم يجد من اللاجئين غرفة للإيجار في شبعا، فلجأ إلى المساجد المتكاثرة في أنحائها منذ العام 2000، والمشيّدة بأموال جمعيات دينية، بعضها سلفي، وعلى صلة وثيقة بجمعيات مماثلة في بلدان الخليج العربية التي تكاثر فيها المهاجرون الشبعاويون الذين تديّنوا هناك تديّناً سلفياً. في أحدث مسجد شُيّد كحصن ضخم من أربع طبقات على تلة صخرية قبالة البلدة، في إدارة جمعية سلفية، نُصبت في قاعتين واسعتين خيم وشوادر لإيواء ما لا يقل عن 50 عائلة سورية تتكفل بعض إعالتهم الجمعية السلفية، فضلاً عما تقدمه الوكالة الدولية لغوث اللاجئين من مبالغ مالية للعائلات المسجلة في سجلاتها (40 ألف ليرة لبنانية للعائلة، لتدفع عنها غائلة الجوع). للدلالة على حال اللاجئين الذين يزيد عددهم في شبعا على 4 آلاف نسمة (أي أكثر من عدد سكانها المقيمين)، نذكر أن شوارعها تخلو من سيارة سورية واحدة. هذا يعني أن اللاجئين وصلوا إلى البلدة عراة إلاّ من الثياب التي يرتدونها هاربين نحو الجبل خلفهم، بعدما دمّر قصف الطيران والمدافع بيوتهم في القرى. ثم نقلوا الجرحى والأطفال والنساء على ظهور دوابهم التي كانوا يستعملونها لنقل محاصيلهم الزراعية.

الحق أن ثلثي النازحين النازلين في شبعا، هم من قرية بيت جن على سفح المقلب السوري من جبل الشيخ، وهي أقرب إلى شبعا (7 ساعات سيراً على الأقدام) من سواها من القرى السورية. الجيش اللبناني استحدث في أعالي شبعا، على طريق توافد اللاجئين، حاجزاً عسكرياً يسجل أسماءهم، قبل أن يأذن للعاملين في الصليب الأحمر بتسلمهم ومساعدتهم للوصول إلى البلدة، فيما تنقل وحدة الإسعافات الأولية في المنظمة الصحية الجرحى إلى مستشفيات البقاع، عبر راشيا الوادي.

لكن نزوح أهالي بيت جن إلى شبعا تعرَّض مرةً لمكمن نصبته لهم في الجبل مجموعة مسلحة من أبناء قرية حضر السورية الدرزية المجاورة، فقتلت عدداً من النازحين، على ما روى كثر من أهالي شبعا. دوافع المسلحين إلى نصب المكمن، خلافات وثارات بين القريتين السوريتين، السنّية (بيت جن) والدرزية (حضر)، على خلفية موقف كلٍّ منهما من الثورة السورية ومن نظام الأسد. هذا ما دفع مسلحين من بيت جن إلى مرافقة أفواج اللاجئين من أهالي قريتهم في رحلات النزوح، لحمايتهم من المكامن وتأمين وصولهم إلى الحدود السورية – اللبنانية على قمة الجبل، فحصل، لمرة ثانية، اشتباك بين مسلّحي القريتين في الجبل داخل الأراضي السورية، قُتل فيه عدد من مسلّحي حضر الدروز. على خلفية هذه الحوادث – معطوفة على حملات تحريض ضد الثورة السورية وجماعاتها، يقوم بها مقدمون من الدروز اللبنانيين في رحلاتهم إلى القرى الدرزية السورية، ولا سيما في السويداء – انتقلت النعرات إلى القرى اللبنانية المختلطة طائفياً في قضاء حاصبيا، حيث للمقدمين الدروز الموالين لنظام الأسد محازبون ومؤيدون أرادوا الإنتقام لقتلى حضر، فتصدّوا في قريتهم اللبنانية لسيارة تابعة للصليب الأحمر تنقل جرحى سوريين إلى مستشفى في البقاع، بعد وصولهم على البغال من بيت جن إلى شبعا. ووفقاً لرواية أحد أعضاء بلدية حاصبيا، أدت هذه الحادثة إلى تنادي وجهاء من القرى اللبنانية المختلطة طائفياً (سنّة ومسيحيين ودروزاً)، فعقدوا اجتماعاً في بلدية مرج الزهور، واتفقوا على شجب الحادثة وعدم تكرارها وتعريض المنطقة إلى نعرات وحوادث مماثلة.

حين غادرنا شبعا كانت طبقة رقيقة من الثلج قد بدأت تظهر على الطرق وعلى الجبل الأجرد. وهذا ما يثلج صدور أصحاب القلوب السوداء المليئة بالحقد على شعب سوريا، لأنه ثار على نظام طغمة أمنية عائلية دموية ورَّث عرّابُها الأمني المؤسس لابنه استعمار سوريا، فظن الإبن أن استعماره هذا أبدي، وفقاً لوصية أبيه.

إنها تثلج، والثلج يتراكم على جبل الشيخ، فليهنأ أصحاب القلوب الحاقدة: لقد توقف وصول اللاجئين والجرحى والأطفال السوريين إلى شبعا المهملة المنسية منذ توقف الردح الهذياني المردّد: مزارع شبعا، مزارع شبعا، واستُبدل بردحٍ عن “حكومة فيلتمان”، ثم عن “الإرهاب التكفيري”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى