صبحي حديديصفحات سورية

مآلات حزب البعث: لم يعد العربي سيّد القدر/ صبحي حديدي

 

استحقّ الشاعر السوري الراحل سليمان العيسى صفة «شاعر البعث»، إنْ لم يكن بسبب انتمائه التنظيمي الفعلي إلى «حزب البعث العربي الاشتراكي»، وقصائده البعثية العديدة؛ فعلى الأقلّ لأنه كان مؤلف النشيد الرسمي للحزب. وفي أحد مقاطع هذه القصيدة، يقرأ المرء التالي: «نحن فلاح وعامل/ وشباب لا يلين/ نحن جندي مقاتل/ نحن صوت الكادحين/ من جذور الأرض جئنا/ من صميم الألم/ بالضحايا ما بخلنا/ بالعطاء الأكرم». ولا يحتاج المرء إلى أيّ جهد، في قراءة صفحات تاريخ المشرق العربي الحديث والمعاصر، لكي يستنتج الحصيلة الكارثية، والاستبدادية والدموية والفاشية، لذلك «العطاء الأكرم»؛ في سوريا كما في العراق، وفي لبنان والأردن واليمن والسودان وتونس، أو حيثما تواجد فرع لهذا الحزب. في الشعر، دائماً، كان البعثي السوري نجم الدين صالح قد امتدح حافظ الأسد هكذا: «يا حافظاً للبقايا من أصالتنا/ لولا فعلتَ لكان العرب ما وُجدوا». رفيقه العراقي شفيق الكمالي، قال التالي في تأليه صدّام حسين: «تبارك وجهك القدسي فينا/ كوجه الله ينضح بالجلال».

أمّا في الفكر، إذا جاز استخدام هذه المفردة، فإنّ زكي الأرسوزي، أحد الآباء الروحيين المؤسسين للحزب، وابن أنطاكيا، بلدة الشاعر العيسى، اجترح هذا القول العرمرمي: «العربي سيّد القدر». سوري آخر هو ميشيل عفلق، أبرز الأسماء في لائحة المؤسسين، عاد من دراسته في جامعة السوربون، فرنسا، بمزيج عجيب زاوج فيه بين فلسفتَيْ فيخته ونيتشه معاً: من الأوّل ميتافيزيقا الأمّة الألمانية، ومن الثاني فلسفة القوّة التي سيسقطها على شخصية البعثي السوبرمان! بدأ هذا الحزب، إذاً، في سياق من سفاح عجيب بين الفلسفات والطبقات والشعارات؛ ثمّ انتقل، وهو في السلطة، إلى سفاح لا يقلّ عجباً بين الأحكام العرفية والفاشية والشمولية و»اشتراكية» النهب، والطائفية، والجمهورية الوراثية، والوطن/ المزرعة!

وفي الموسوعة البريطانية، مادّة «حزب البعث»، نقرأ ما يلي: «حزب سياسي عربي يدعو إلى قيام أمّة عربية اشتراكية واحدة. للحزب فروع في العديد من بلدان الشرق الأوسط، وهو حاكم في سوريا والعراق. تأسس الحزب سنة 1943 في دمشق على يد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وأقرّ دستوره سنة 1947، واندمج مع الحزب العربي الاشتراكي لتشكيل حزب البعث العربي الاشتراكي». الطبعات اللاحقة من الموسوعة سوف تضطرّ إلى إدخال تعديلات جذرية على هذا التعريف، إذْ لم يعد الحزب حاكماً في العراق، وحُلّ بعد الغزو الأمريكي للبلد. وفي سوريا فقدت مفردة «اشتراكية» كلّ مدلولاتها في عقيدة الحزب الراهنة، و»الجيش العقائدي» انتهى إلى تكوينات ميليشياتية ومناطقية وطائفية، لا تقاتل إلا الشعب السوري وترتعد فرائصها أمام القاذفات الإسرائيلية. واختراع «الديمقراطية الشعبية» صار جمهورية وراثية، والقطاع العام صار مزرعة عند أمثال رامي مخلوف، و»الرفيق البعثي» صار شبيحاً، أو مخبراً، أو «منحبكجياً» في أخفّ الوظائف!

ومن مجازر حماه 1982 في سوريا، إلى جرائم الحرب في حلبجة العراقية والغوطة السورية (بين جرائم الحرب الكيميائية الأفظع ضدّ المدنيين في تاريخ البشرية)؛ ومن احتلال لبنان، وضرب المخيمات الفلسطينية، والتفرّج على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، إلى اجتياح الكويت وصناعة واحدة من أغبى كوارث العرب في التاريخ الحديث (حيث انضمّ جيش البعث السوري إلى قتال تحت الراية الأمريكية، ضدّ جيش البعث العراقي)؛ ومن وأد انتفاضات العراقيين في الجنوب والشمال، عرباً وكرداً، إلى محاولة وأد انتفاضة الشعب السوري الراهنة باستخدام كلّ الأسلحة، دون استثناء تسليم البلد إلى روسيا وإيران و»حزب الله» والميليشيات المذهبية والجهادية على اختلاف عقائدها وأجنداتها… في ذلك كله ثمة منطق صارم يربط البدايات بالمآلات، التي سوف تفضي إلى النهايات.

وفي أحدث هذه المآلات ما نقلته صحيفة «الأخبار» اللبنانية، الموالية للنظام السوري، من أنّ القيادة القطرية لحزب البعث أصدرت مؤخراً «قراراً حلت بموجبه وبشكل نهائي القيادة القومية للحزب»؛ وجاء ذلك «نتيجة عاملين أساسيين، الأول ضعف نشاط القيادة القومية وغيابها عن ساحة العمل الحزبي لعقود طويلة، والثاني تنفيذ مضمون قانون تأسيس الأحزاب السياسية الذي يحظر على الأحزاب المؤسّسة في سوريا افتتاح فروع خارجية لها»، كما قالت الصحيفة. ولعلّ فضيلة هذا الإجراء، حتى إذا لم تدر في خلد القيادة القطرية، تكمن في تطبيق مبدأ أخلاقي يقول بأنّ إكرام الميت دفنه: هذه القيادة القومية تحولت إلى جثة هامدة منذ رحيل حافظ الأسد، آخر أمين عامّ قومي في الجناح السوري لحزب البعث؛ وكانت، قبلئذ، قد دخلت في طور احتضار منهجي بطيء، منذ اختتام أعمال مؤتمرها القومي الثالث عشر، صيف 1980.

طريف، إلى ذلك، أنّ الهيئة الأدنى (القطرية) هي التي تلجأ إلى حلّ الهيئة الأعلى (القومية)؛ خاصة إذا استعاد المرء ما تقوله أدبيات الحزب عن المؤتمر القومي (والأخطاء اللغوية في الأصل البعثي): «هو أعلى سلطة في الحزب، ويمثل تنظيمات الحزب القومية في الأقطار العربية كافة، ويتكون من أعضاء القيادة القومية الأصلاء والاحتياط، وأعضاء القيادات القطرية وممثلي الأقطار المتممين المنتخبين من بين أعضاء المؤتمرات القطرية وممثلي المنظمات القومية، إضافة لأعضاء المحكمة الحزبية». هذا في الجانب التنظيمي، الذي يتوازى مع دور المؤتمر في صناعة «فكر» الحزب: «تقوم المؤتمرات القومية بإغناء عقيدة الحزب وفكره، حيث ترسم المناهج والسياسات وتتخذ القرارات والتوصيات المتعلقة في المجالات الثقافية والتنظيمية والسياسية والاقتصادية إضافة لتطوير القاعدة التنظيمية للحزب بما يتناسب مع كل مرحلة»!

لا حاجة، هكذا، إلى المساجلة حول مقدار الانحطاط الذي هبط إليه هذا الحزب، ليس بدلالة ما آلت إليه قيادته القومية هذه، وبالتالي اندثار شعاره القومي الشهير: «أمّة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة»، فحسب؛ بل بدلالة الموقع الراهن لقيادته القطرية ذاتها، والسيرورة الثابتة التي أدّت إلى ابتذالها وتفكيكها واهترائها، على يد الأسد الأب منذ فجر ما يُسمّى «الحركة التصحيحة». ففي أيّام «المجموعة القومية»، أي ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأمين الحافظ؛ كما في أيّام «المجموعة القطرية»، أي صلاح جديد وحافظ الأسد ويوسف زعين وإبراهيم ماخوس؛ ـساد اليقين بأن التنسيب الواسع للأعضاء الجدد سوف يؤذي جسم الحزب، ويتسبب في تمييع خطه السياسي وتركيبه الطبقي. ولهذا كان التركيز شديداً على ما عُرف آنذاك بـ»المنبت الطبقي» للمرشح، وجرى تفضيل أبناء الطبقات الكادحة على أبناء الأغنياء من الإقطاعيين والبرجوازيين.

تصحيح الأسد الأب تمثّل في فتح باب الحزب على مصراعيه أمام المنتسبين الجدد أيّاً كان منبتهم الطبقي، بل وجعل الانتساب إلى الحزب أمراً لا غنى عنه من أجل ضمان القبول في المعاهد والجامعات، وضمان الحصول على الوظيفة. وكان الغرض المضمر هو بالضبط ما سعى «القوميون» و»القطريون» إلى تفاديه: تضييع الخطّ السياسي، وتمييع التركيب الطبقي. وبالفعل، لم يمضِ وقت طويل حتى انقلب الحزب إلى مؤسسة انتهازية نفعية خاضعة للأجهزة الأمنية، وسرعان ما انخرط أعضاؤه في تعامل مباشر أو غير مباشر مع مختلف فروع الاستخبارات، وأخذوا يعتبرون كتابة التقارير الأمنية واجباً تنظيمياً، فدانوا بالطاعة إلى رئيس فرع المخابرات أكثر بكثير من طاعتهم لأمين فرع الحزب.

وليس عجيباً، في المحصلة الراهنة، أنّ الدراما التي صالحت فيخته مع نيتشه في سنوات التأسيس؛ تخلي اليوم مكانها لتقاسم وظيفي بين ولاية الفقيه علي خامنئي، ومافيا القيصر فلاديمير بوتين، وبينهما، أيضاً… «عصائب الحقّ»!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى