صفحات الرأيناصر الرباط

مأزق المعرفة العربية المهاجرة/ ناصر الرباط

 

 

كنت مؤخراً أحضر مؤتمراً عن تاريخ العمارة في باريس. وكان المتحدثون من جنسيات أوروبية مختلفة من الباحثين الصغار السن في بداية حياتهم الأكاديمية، يتحدثون عن مواضيع نظرية ومنهجية عامة ومهمة ومبتكرة. وكانوا يبلورون نظرياتهم ومناهجهم من خلال أمثلة من التاريخ الأوروبي حصراً، وإن كانت رؤيتهم لنظرياتهم ومناهجهم تلك عالمية وعامة.أي أن هؤلاء الباحثين الجدد، مثل أجيال سبقتهم من الباحثين الغربيين الذين وضعوا الأسس التنظيرية والفلسفية والمنهجية للمعرفة الإنسانية الحديثة في القرون الثلاثة السابقة، لم يجدوا غضاضة في تطبيق التاريخ الخاص الأوروبي على النظري العام والعالمي. فهكذا نُظّر لصعود أفكار التنوير وانفصال المعرفة الفلسفية عن العلم اللاهوتي والثورة العلمية وتاليتها التكنولوجية، وصعود مبادئ حقوق الإنسان ومعاهدات جنيف وتحرر المرأة والثورة الجنسية والثورة المعرفية الرقمية المعاصرة وغيرها من الخطوات المعرفية الجبارة التي خطتها الإنسانية في القرون القليلة الماضية. فهي منتجات أوروبية بامتياز ونابعة من ظروف وتاريخ أوروبا منذ العصور الوسيطة إلى عصر الهيمنة العالمية، ولكن مدى تأثيرها عالمي، ومدى هيمنتها على الفكر عالمي أيضاً. أي أن المعرفة العالمية اليوم أوروبية الجذور والمنبع واللغة والسياق والمدى والسيطرة.

لذلك نجد أن المفكرين الأوروبيين، والأميركيين والاستراليين أيضاً، يتعاملون معها كتراث وطني ولا يجدون ضرورة في تأطير معرفتهم ضمن موقع نسبي من التاريخ كأن يقولوا منهج أو نظرية الفن الحديث الأوروبي أو الفلسفة الحديثة الأوروبية أو حقوق الإنسان الحديثة الأوروبية إلا إذا كانوا فعلاً يتحدثون عن هذا الإطار المحدد.المفكر الأوروبي، بمعنى آخر، ينطلق من المحلية إلى العالمية بفكره من دون الحاجة إلى وضعه داخل إطار تاريخي أو وطني أو لغوي محدَّد ومحدِّد في الآن نفسه. وهذا طبعاً دليل قوة.

ماهكذا طبعاً حال المفكر العربي، وغيره من مفكري العالم الأسمر اليوم الذين يحاولون البحث في تاريخهم المعرفي ومجالاته وسياقاته ومناهجه ووصلها بالحاضر المعرفي المعولم. فهم في شكل عام مقيدون بنسبية سياقات فكرهم التاريخية والجغرافية والثقافية، وأحياناً الوطنية أيضاً، وبعلاقتها الملتبسة بالفكر الغربي الحداثي والمعاصر. وحال المفكر العربي المهاجر أو المغترب الذي يتعاطى الفكر الإنساني في الهجرة أشد مرارة من حال المفكر العربي المقيم، ولو أن الأخير مُضَيق عليه بطريقة أشد في المصادر والموارد والانتشار، وفي شكل خاص في حرية التفكير والتعبير. فما يكسبه الباحث أو الفنان أو الأديب العربي المهاجر من سهولة الاطلاع وحرية التفكير والتعبير يخسره من خلال التأطير المنهجي المفروض عليه في المجالات المعرفية أو الأدبية أو الفنية التي يعمل ضمنها. وإنتاجه المعرفي والإبداعي لا يمكّنه عموماً من الولوج إلى المحيط العالمي الأوسع إلا فيما ندر. وهو يبقى محصوراً في إطار نسبيته وخصوصيته مما يمكن ملاحظته من خلال توصيفه دائماً بنسبته إلى ثقافته، أي أن يقال مثلاً فلسفة عربية أو إسلامية أو علم عربي أو فن عربي أو إسلامي، كما يقال فن أوروبي حديث أو فلسفة أوروبية، مما يمكن أن يبدو للمراقب أحياناً صحيحاً بل عادلاً ولو أنه في الحقيقة مجحف وتمييزي بل عنصري أحياناً، إذ إنه يحد من إمكانية تفاعل المعرفة العربية الجديدة مع ما يسمى بالمعرفة العالمية بسبب خصوصيتها التاريخية والنظرية والمنهجية المفترضة واختلاف سياقاتها إلى درجة التمايز والتنابذ أحياناً.

أو هكذا على الأقل ما يرشح من تضافر جهود متشددي المحافظين من الطرفين، الغربي والعربي-الإسلامي، في حصر الفكر العربي المعاصر بالمحلية والخصوصية الثقافية. فالمحافظون الغربيون، من داخل وخارج عالم المعرفة، يفضلون الإبقاء على نقاء الصورة في تسلسل معرفتهم المعاصرة من جذور غربية حصراً ونفي أي مكون «شرقي» عنها في مختلف مراحل تاريخها المتمادي منذ الإغريق الأوائل وحتى اليوم وفي إبعاد المنتج المعرفي العربي المعاصر عن مجالهم المنهجي والتنظيري الحالي بدعوى تمايزه واختلافه وعدم ملاءمته السياق الغربي المعاصر.

والمحافظون العرب المسلمون، أيضاً من داخل وخارج عالم المعرفة، يقاربون الموضوع من الاتجاه المعاكس تماماً ولكن نتيجة مقاربتهم هي نفسها نتيجة المقاربة الغربية المحافظة. فهم يصرون على خصوصية وتمايز المعرفة العربية الإسلامية وتباينها مع الفكر الغربي الذي تخلى عن أصوله وجذوره الدينية وشطح في مجالات العلمانية والتحرر من كل كابح ومقيد كما يرون، وهو بالتالي بعيد كل البعد عن معرفتهم المتجذرة بالتقليدي والأصولي والمحافظ الذي يشكك في كل تجديد.

هنا مأزق المعرفة العربية الإنسانية المعاصرة والمهاجرة التي تصدر عن البحث في التاريخ والحاضر العربي والإسلامي والتي تحاول الانعتاق عن التراث المحافظ والمتشدد العربي الإسلامي والتراث الاستشراقي الغربي في آن واحد. فهي مُتجاهَلة، أو على أقل تقدير مشكوك في قيمتها من قبل الطرفين اللذين تحاول محاورتهما أو مجادلتهما: أولئك الذين يشاركونها أصولها وهمومها ومجالاتها البحثية العربية-الإسلامية لكنهم يتمسكون بتراثهم المنهجي والنظري التقليدي من جهة، وأولئك الذين تشاركهم مداها ومناهجها وأدواتها البحثية وتراثها الحداثي الغربي، الذي ما زال يعاني من آثار النظرة الاستعمارية وتراكم وجهات النظر الاستشراقية من جهة أخرى. وهنا مأزق المفكرين والباحثين العرب المهاجرين اليوم: فهم أحياناً كثيرة يعتبرون في مراكز عملهم وبحثهم في الغرب «مخبرين محليين»، على حد تعبير إدوارد سعيد، تنحصر مهمتهم في شرح ما استغلق من تفكير وعادات وآراء وكتابات ثقافتهم من دون المساهمة المباشرة في إغناء المعرفة والفكر الإنساني العام خارج إطار ثقافتهم وامتداداتها التاريخية. وهم بالنسبة للمحيط العربي الذي منه خرجوا ومنه استقوا بداية تعلمهم واهتماماتهم الإنسانية، والذي تدهور باتجاه محافظة انغلاقية متشددة في الآونة الأخيرة، يُعتبرون خارجين عن السياق العام يتعاطون بأدوات بحث ومناهج مشكوك فيها بسبب مصدرها الغربي وتراثها الاستعماري والعلماني. وهم عندما يُستدعون من قبل أحد من الطرفين لسماع آرائهم وتمحيص نظرياتهم، يكون سبب الاستدعاء أيديولوجياً أو سياسياً أو دعائياً وليس معرفياً. وتبقى مساهماتهم في إغناء المعرفة ككل على الغالب والأعم بعيدة عن مجالات النقاش المعرفي المؤثرة في بلاد نشأتهم العربية وبلاد معرفتهم الغربية في آن واحد، إلا في ما ندر. ويبقى الجمهور المحتاج لرؤى جديدة ومعرفة نقدية جديدة الخاسر الأول من هذا الوضع.

* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى