صفحات الرأي

مأساة قوم الروهينجا… وبؤس «الهانتنغتونية السهلة»/ وسام سعادة

 

 

لم يبق قلم عربي واحد في عقد التسعينيات إلا وكتب مطالعة تفنيدية، بل دحضية، لما ساقه صاموئيل هانتنغتون في «صدام الحضارات»، وفي أحيان كثيرة، بل في معظم الأحيان، من دون الحاجة للاطلاع على كتابه. بيد أن ما حصل من يومها، وزاد مع الوقت، هو اقتران هذا الاستسهال ـ والإسهال، في الرد على هانتنغتون، مع الاكثار من بث «الهانتنغتونية السهلة»، تلك التي تنفي صدام الحضارات من الباب وتستعيده من النوافذ، باتهام «الحضارات الأخرى»، ضمنا أو جهارا، بأنها «تصادمية حضاريا»، ولا صاحب للحضارة الإسلامية في هذا العالم إلا نفسها، أو لا صاحب لها على الإطلاق. هذا إن لم يجر الاندفاع للمقلب الآخر من هذا الدرك: بالاستعاضة عن نقد أوضاع مجتمعية ومعاشة فيها جانب من الملموسية، بالانصراف إلى «هجاء المستعصي»، واختزال كل كبيرة وصغيرة، بأننا «نحن سيئون».

لأجل هذا، أسوأ ما قد يبدر عند التعليق عربيا، على مأساة إنسانية، وعلى الاضطهاد القومي الإثني لقوم، كالروهينجا، في ميانمار، هو الانزلاق أما «لهانتنغتونية سهلة»، من نوع «تأصيل» الصراع بين المسلمين والبوذيين، أو اتخاذها مناسبة سجالية توظف المأساة للرد على من يتهم الإسلام بأنه دين عنيف، بإصدار حكم غوغائي مماثل على البوذية أيضا. وليس أقل سوءا هو العكس: جلد الذات باعتبار أن كل من ينتمي إلى الواقعة الإسلامية مذنب في مكان ما.

لا تلغي فداحة هذه المنزلقات، إنه فعلا، في عالم اليوم، معظم غير المسلمين لديهم صورة سلبية ما عن الإسلام والمسلمين، وأن تعليل ذلك بأنها مسؤولية المسلمين أولا، أو غيرهم أولا، يفتح السرداب على متاهة.

كما لا ينفي هذا، أنه بالفعل، ثمة إشكال حضاري بين الشرقين، الأسيوي الإسلامي، والأسيوي الدارمي. إشكال يمكن كتابة قصته من زمن الفتوحات الإسلامية في الهند، أو حصرها بزمن التقسيم البريطاني لجنوب اسيا، أو الاكتفاء بسرد متصل بتداعيات تدمير حركة طالبان لتماثيل بوذا في باميان. يبقى أن المتغير الذي يلحظ من جهة الحركة الإسلامية، هو التراجع عن الهم التقاربي الاسيوي، الذي كان يعني جمال الدين الافغاني، بالتداخل مع فكرة الجامعة الإسلامية. بخلاف تراث الإصلاح الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين، تعاني الاسلاموية المعاصرة من نزعة سلبية تجاه الحضارات الاسيوية الدارمية، وهذا يتناسب موضوعيا مع القوميات الدينية الانتي إسلامية في جنوب اسيا. لم تكن هي الحال حين انتصرت اليابان على روسيا في حرب 1905. يومها تشاركت كل نخب اسيا، من صن يات صين في الصين، حتى طاغور حتى قادة تركيا الفتاة ورموز ثورة المشروطة في إيران، حتى الشيخ محمد رشيد رضا في مصر، في الاحتفاء بالانتصار الياباني كنصر لجميع الشرقيين.. مع أن ما استوحاه الأتراك الشباب من هذا النصر هو لزوم سيطرة العسكر على السلطنة، في حين أن ما شغل بال رضا في مقالة له في مجلة «المنار» وقتها، هي إذا كان هذا النصر على الروس، أعداء الإسلام، سيدفع باليابان لاعتناق الديانة المحمدية.

يختلف الموقف تماما اليوم. عند التعليق على ما يرتكبه الجيش البورمي ضد الروهينجا يكاد يغيب تماما هذا البعج الاسيوي للوعي، الذي تميز به جيل رواد الإصلاح الإسلامي.

ميانمار أو بورما كانت جزءا من الهند البريطانية. منذ الاستقلال، واثنية الروهينغا تتعرض فيها لاضطهاد بشع، لكن أيضا لاضطهاد ونبذ مزدوجين: باكستان الشرقية (بنغلاديش لاحقا) تريد إبعادهم عنها، وبورما تعاملهم كبنغلادشيين هاجروا إليها، خصوصا غداة حرب استقلال بنغلاديش عن باكستان.

هناك مناخ قومي ديني مرتبط بالبوذية التيرافادية. خصوصا وأن التيرافادا تعطي مكانة مركزية لما تعتبره البوذا التاريخي، على حساب البوديساتفا (البوديساتفا هو شخص بلغ من اليقظة مبلغا يدخله فناء النيرفانا لكنه لا يدخله خدمة ليقظة الآخرين الذين يمكنهم الخلاص في حياة واحدة، وهكذا وبدلا من بوذا واحد «تاريخي»، غوتاما، في التيرافادا، هناك سلاسل متشعبة من البوديساتفات).

التراث التيرافادي نما في ممالك تعتبر كل منها أنها الحافظة لآثار، تعاليم وذخائر بوذا تاريخي، وأنها جاهدت وتجاهد للحفاظ على هذه الآثار من أعداء يتربصون بها، هذا بخلاف التراث الماهاياني الذي كان يمكنه أن ينضوي في عقد الولاء لدولة لا تخضع له (الصين) أو تمزجه بالكونفوشية (فيتنام) أو في ممالك جبلية غير خائفة على آثار بوذا تاريخي مركزي كون بوذيتها هي فضاء روحي يعج بعشرات البوديساتفا الخفيفي الحمل تاريخيا (التيبت).

أكثرية بوذيي عصرنا ماهايانا، في مقابل الثلث تيرافادا.

في حالة التيرافادا التي تشكل سيلان وبوذيي بورما (ميانمار) وسيام (تايلند) وكمبوديا، يتخذ هذا المنحى القومي الديني، وجها مناوئا: للأقلية الهندوسية، التاميل، بالدرجة الأولى، بالنسبة إلى سيلان (سري لانكا). وفي بورما، ضد الروهينغا. في الحالتين، النزعة القومية الدينية تطور نظرة إلى كل بلد كوطن مقدس، وإلى السانغا، الرهبان، كحراس للوطن.

عندما يكون هناك نزاع أو اضطهاد إثني ديني مختلط كثيرا ما يسعى الناس وراء اختزاله أما إلى إثني وأما إلى ديني. في حين أنه هذا وذاك. في رانغون وسواها من مدن وأقاليم بورما هناك مسلمون من غير الروهينجا، لا يتعرضون لما يتعرض له الروهينجا. هذا لا يعني أن اضطهاد الروهينجا إثني فقط، بل هو إثني ديني بالتشابك، لأن الإسلام معطى تكويني أساسي للهوية الروهينغية، يرتبط بمخيلة تاريخية – اسطورية محلية، عن سلطنة اراكان الإسلامية… من دون أن يكون كل مسلم روهينغي بطبيعة الحال.

الروهينجا أقلية على مستوى ولاية راخين، تتكثف وجودا في المنطقة المحاذية لبنغلادش. الصراع المزمن هو أساسا بين الراخينيين والروهينغيين، أي بين أكثرية وأقلية على مستوى الولاية… هذا في حين يجعله بعض العرب اليوم صدام حضارات بين كل البوذية وكل الإسلام.

في هذا الصراع، الطرف، الولاية، له القرار أكثر بكثير من المركز المتصدع للوحدة البورمية. الراخين هم الذين حركوا منذ الثمانينيات طلب الاعتراف بمجموعة اثنية واحدة على مستوى ولايتهم، وهم بالمناسبة غير محبوبين لدى الأقوام البورمية الأخرى، إذ ينظر إليهم هم أيضا كشبه بنغاليين..

أما الروهينجا، فمشكلتهم بدأت يوم تفاءلوا بأن الهند البريطانية ستقسم على أساس ديني. طالبوا مؤسس دولة أرض الأطهار «باك ستان»، محمد علي جناح بالانضمام لباكستان (التي كانت بقسمين غربي وشرقي، بنغلادش) آنذاك. رفض جناح. لماذا؟ لأن قادة الروهينجا طالبوا باقتطاع كل ولاية راخين ذات الأكثرية البوذية وضمها لباكستان، على اعتبار أنها كانت في ما مضى، سلطنة اراكان الإسلامية، وقت كان الحكم إسلاميا في كل البنغال أيضا. بعدها خفض قادة الروهينجا مطالبتهم، لتقسيم الولاية، وضم شمالها إلى باكستان. بعدها تراجع طلبهم، لأنه في الحرب الأهلية بين الباكستانين، لجأ عدد كبير من الباكستانيين الشرقيين (البنغاليين) إلى الهند وبورما. لم يعد الانضمام لبنغلادش مغريا.

لجوء اعداد كبيرة من البنغاليين في مطلع السبعينيات في ولايتهم، أثار مخاوف الراخين، الذين يلمسون في الوقت نفسه مآل الأقليتين البوذية والهندوسية في بنغلادش. ارتبطت المخاوف مع سياسة هوية متشددة وعدوانية لتحالف الرهبان والعسكر، ومحاولة توليد سوبريماسيزم بورمي على طريقة السوبرماسيزم (التفوقية الاكثروية) السينهالي في سري لانكا (وهذا صعب في بورما المتشظية اثنيا، بخلاف وجود أكثرية اثنية ساحقة سينهالية في سريلانكا، وبورما كثيرا ما كانت نخبتها الحاكمة هندوسية وليس بوذية في العصر الوسيط، بخلاف الطابع المركزي للملكية الكاندية البوذية في سيلان). السوبريماسيزم البورمي مشروع غير منجز. الاستخفاف بالحاجة إلى بعد أسيوي للوعي، عند مقاربة مشكلات السوبريماسيزم القومي الديني في الهند أو سري لانكا أو بورما، هو عنصر تراجعي عن أهم مكتسبات حقبة الإصلاح الإسلامي نهاية القرن التاسع عشر: الترابط بين التضامنية الإسلامية وبين التضامنية الاسيوية.

بالتوازي، المسار الذي تسلكه الحركات القومية الدينية جنوب آسيا يفرز نوعا حادا، بل عدوانيا، من الإسلاموفوبيا المعاصرة، ليس فقط لاضطهاد المسلمين، وانما للتعكيز على هذا الاضطهاد، والانفعالية التي يجرها، من أجل إعادة رد الهندوس أو البوذيين إلى بيت طاعة الأصوليات، وزيادة تآكل الديموقراطية (الهند) أو تقويض مطالعها (ميانمار).

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى