صفحات سوريةهيفاء بيطار

مؤتمر للأخلاق


هيفاء بيطار

أذهتلني هذا الصباح رسالة وصلتني بالانترنيت، رسالة صادقة مُقتضبة من موقع معروف ومحترم يمكنني إيجازها بسطرين: «يجب أن تضعوا في جيوب أطفالكم ما يعرف بهم، اسم الأب والأم، ورقم هاتف، ثم اسم أكثر المقربين من الطفل، وعنوانه ورقم هاتفه، وهذا مهم جداً في حال النزوح.

من أين يتفتق الرعب من هذه الكلمات البسيطة، من كلمات طفل وأم وأب وأقارب… قرأت تلك الرسالة كما لو أنني أسير في حقل ألغام… من الذي بقي من وطن ينزح أطفاله، ما معنى نزوح الأطفال سوى غياب المستقبل…

الحياة في الموت، هذا هو الواقع في سوريا. لن أصف الوحشية المقرفة والمروعة التي يرزح تحتها الشعب السوري منذ أكثر من عام ونصف العام، فلن أستطيع منافسة الفضائيات… لكني أجد نفسي مضطرة لطرح سؤال يتفجر من أعماق ضميري، وصور الأطفال تحف برأسي كهالة من نار (وليس نور): ما هي الأخلاق التي نعلمها لهؤلاء الأطفال؟ كيف نجرؤ بعد ما حصل من جرائم مروعة أن نعظ أطفالنا ونعلمهم الأخلاق، كيف سنشرح لهم ماذا تعني المحبة والتسامح، والآخر، والسلام، والطمأنينة. ألا يجب أن نعيد النظر في مناهجهم المدرسية؟ هل يصح بعد الآن أن يقف طفل وينشد قصيدة

«سقف بيتي حديد/ ركن بيتي حجر/ فاعصفي يا رياح/ وانتحب يا مطر…».

سيبصق هذا الطفل في وجوهنا وهو يقول «طار سقف بيتي، وركن بيتي قصفه صاروخ، ولم يعد هناك من مطر سوى الرصاص، ولم تعد سوى ريح تطيرني من غرفتي وقريتي ومدينتي، وتذروني إلى خيمة أو مدرسة ما أو حديقة ما»…

أليس ما نعيشه هو حالة مزرية من انهيار الأخلاق في العالم كله! من يجرؤ في هذا الجحيم من القتل والدمار، على أن يتنطح ويقول سأعلم الأخلاق لأطفالي…

منذ أيام كنتُ مناوبة في المشفى الوطني في اللاذقية، وطُلبت لاستشارة عينية في قسم العناية المشددة، وجدتُ نفسي أمام طفلة في الثامنة من عمرها، وقد ضمد رأسها بضماد كبير، كانت تجلس هادئة كما لو أنها مخدرة في سرير، وحرارة الغرفة لا تطاق إذ لا يوجد مكيّف، قالت لي أمها بصوت مشبع بالألم اليائس: «كانت جالسة على الشرفة تقرأ قصة، لم تشعر إلا وشظية اخترقت رأسها، من أين أتت هذه الشظية، العلم عند الله».

أمسكتُ اليد البضة للطفلة فأغمضت عينيها، رجوتها أن تفتح عينيها لأفحصهما، لكنها رفضت، حاولت أمها أن ترغمها، لكني قلتُ لها دعيها.

الطفلة أغمضت عينيها كي لا ترانا، كي لا ترى عالم الكبار الذين ما عادت تثق بهم وتحترمهم، لأنهم لم يحموها من شظايا الحقد.

وبحكم عملي كطبيبة أعرف أن آلاف الأطفال صاروا يتناولون الأدوية المهدئة تحت إشراف أطباء، لأن أرواحهم البريئة المحبة للحياة صعقت من هول وحشية الكبار.

إن حل الأزمة السورية ليس سياسياً، ولن يكون بدعوة الأطراف المتناحرة إلى الحوار، بل هو حل أخلاقي.

هؤلاء القادة الملمعون، الأنيقون، الذين يجلسون حول طاولات المفاوضات وأمامهم زجاجات المياه المعدنية المعقمة، والذين تبدو راحة النوم العميق للضمير على وجوههم، عليهم أن يكفوا عن الكلام… وعن الجعجعة الفارغة، بينما كل منهم عارف في أعماقه أن المطلوب هو المزيد والمزيد من دماء السوريين.

حبذا لو يصل صوتي وصوت الملايين من السوريين إلى هؤلاء، لنقترح عليهم عقد مؤتمر واحد فقط، ولتكن مدته نصف ساعة، حول مفهوم الأخلاق… مؤتمر مستعدون نحن السوريين- جميعاً أن نقدم وثائق لإنجاحه، صور آلاف آلاف الأطفال السوريين المقتولين والمذبوحين والمهجرين، والذين من الضروري أن نضع في جيوبهم قصاصة ورق تثبت هوية الطفل في حال نزوحه.

أنا شخصياً مستعدة لأن أقتحم فضاء مؤتمراتهم التي تفوح برائحة الجريمة، ومعي الطفلة نفسها.

هيفاء بيطار

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى