كتب ألكترونية

مؤلفات فيرناندو بيسوا

 

 

فيرناندو بيسوا… حارس لشبونة

مضى الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا في شوارع لشبونة يحاور أسماءه، هو الذي لم تعرفه القبيلة باسم واحد. كان متنكراً في الأسماء كلها مثل هارب من العدالة أو شأن مطلوب للجندية.

في كتابه “اللاطمأنينة” نعثر على هذا التشظي الإنساني الكبير، لقد كان يريد أن يتحول دون شك إلى سوبرمان. في شعره غير قليل من النتشويّة المرّة، وكأنه كان مقبلاً على تهييء نفسه للانتحار، لكنه خذل الجميع، ومضى في اتجاه نهب ملذات الحياة، في حانات لشبونة، وأحياناً بين مقابرها، أليست الحياة بين الأموات أكبر درس يمكن أن يتلقاه الأحياء وهم يهرعون نحو المجهول بعقول حافية وأرواح مشرنقة، كأن سيلاً رماها من علٍ، كما قال الشاعر الجاهلي الأمير امرؤ القيس.

ظل بيسوا يعيش في لشبونة، ملازماً لها، بل ومخلصاً لأحياء وأماكن بعينها في ذلك الزمن، فهو حين كان مراهقاً، كان قد هلّ القرن العشرون، بكل ما يحمله من حروب وآلام، ومن رغبة البشرية في إحداث تلك القفزة السحرية إلى الأمام.

ليست الحرب جديدة على بلده البرتغال، ولا الانقلابات العسكرية، فهو من ناحية أساسية وريث تلك المغامرة البحرية التي خاضها الإسبان والبرتغاليون معاً، كما يجري في دمائه ذاك اللهب المتحمس نحو المستعمرات.. إفريقيا كانت الوجهة، وعلى المحيط الأطلسي، هناك في الجهة المقابلة من “الأطلسي” يقبع الساحل المغربي، حيث خرج الإمبراطور البرتغالي مهزوماً رغم مدافع البارود التي سلّطها على الأهالي.

من ناحية جوهرية، يمكن اعتبار بيسوا، ابن الإرث الاستعماري، فحتى عندما أرادت بلده البرتغال أن تدير ظهرها إلى ماضيها الأسود في المستعمرات البعيدة، لم يكن هذا الشاعر الذي أحيط بالكثير من الأسطرة، قادراً على الحسم مع مستقبله الشعري وانتمائه السياسي والاجتماعي. لقد بقي أسيراً لوعيه الشقي “البورجوازي” دون أن ينتج حركة مناصرة للبشر في تحررهم إلى الأمام.

ومن هنا يمكن فهم، بعض ملامح شخصيته، ولماذا بقي هكذا ضائعاً مثل سفينة بدون ربان في ليلة عاصفة في عمق المحيط.

من الناحية الشعرية، نتفهم عبقريته كواحد من أهم الشعراء في القرن العشرين، فحياته المرّة والصعبة، والتي تميزت بخاصية فقدان الأب والأخ في سنّ مبكرة، وزواج الأم وترمّلها مرة ثانية، لا يمكن أن تمرّ دون أن يحدث تلك الجراح العميقة في الروح.

لا يجب أن ننسى أن فرناندو بيسوا ابن العسكري رفيع الرتبة، عاش حياة رغدة في بداية مشواره، قضى جزءاً منها في جنوب إفريقيا، ثم عاد إلى لشبونة رفقة أمه الأرملة ليستقر للعيش حتى موته. وبين هذا وذاك، حياة أدبية صاخبة، وانفتاح مطلق على التجارب العالمية آنذاك، بما فيها الحركة السوريالية، وانخراط في مجال النشر، عبر إصدار مجلة أدبية، وإتقان للغات البرتغالية والإنكليزية والفرنسية.

وبكل تأكيد، إنه لم يكن مجرّد سكير عربيد وكفى!

العربي الجديد

 

هذه الملف يحتوي المؤلفات التالية

 

الباب وقصص أخرى

راعي القطيع والقصائد الأخرى .. ألبرطو كاييرو

أناشيد .. ريكاردو رييس

قصائد .. ألبارو دي كامبوس

كتاب اللاطمأنينة

 

كل مؤلفات فرناندو بيسوا في رابط واحد

 

اسم فرناندو بيسوا الثاني صنع الكثير؛ هو الذي يعني بالبرتغالية “شخص”. مشهور بتقسيم نفسه إلى حشد من الذوات الأدبية البديلة التي أطلق عليها «الشخصيات المستعارة» بدلاً من “الأسماء المستعارة”، وهبها سيراً ذاتية، ووجهات نظر دينية وسياسية، وأساليب كتابة متنوعة – زعم بيسوا أنه -وسط كل هذا العالم المولد ذاتياً- فهو الشخص الأقل واقعية بين الجميع. «لقد قسمت كل إنسانيتي وسط الكتاب المتنوعين الذين أخدمهم كمُنَفِّذ أدبي». هكذا يشرح بيسوا في إحدى الفقرات عن تكوين وتقييم أصدقائه الكتاب الخياليين. ثم يشرح أكثر في الفقرة نفسها: «أنا أوجد كنوع من الوسيط إلى نفسي، ولكني الأقل واقعية من الآخرين، الأقل جوهرية، الأقل شخصية، وأتأثر بسهولة بهم جميعاً». نقص أي يقين عمن هو -بغض النظر عن كونه نفسه- يمثل القضية الرئيسية في شعر بيسوا، وهو يستخدم الشخصيات المستعارة للتأكيد على انفصاله الذاتي الساخر. في قطعة نثرية موقعة باسم آلفارو دي كامبوس – المهندس البحري الداندي والأكثر إثارة بين الشخصيات المستعارة – نقرأ التالي: «فرناندو بيسوا، ولنتكلم بدقة، غير موجود».
اسم بيسوا الثاني – في ضوء الشكوك الذاتية الوجودية – يقدره الفرنسيون بشكل خاص، طالما أن كلمة “personne” لا تعني فقط “شخص” ولكن أيضاً، كما في جملة “Je Suis Personne” تعني”لا أحد”. على أي حال فـ بيسوا كان -بشكل محدد جداً أو غير محدد جداً- شخصاً ما. وهذا الاسم الثاني الذي عنى “شخص” ليس هامشياً بالتأكيد بالنسبة إلى تعلقه ذي الهوس الأحادي بشخصيته، تعددها واستدامتها، خلال عمله الأدبي الكامل. أعني أن بيسوا الذي ربما وربما لا يؤمن بالله ولكنه يؤمن كثيراً بالقدر وبرموزه وإشاراته، كان عليه أن يكون على وزن اسمه، لقد كان اسمه مُحَدِّداً له.
أما الشيء المُحَدِّد أكثر فهو الوضع الثقافي والأسري الذي نما فيه بيسوا كشخص وكفنان. فمع هوسه الكامل بحياته الداخلية، كان واعياً تماماً بكون الأحداث الخارجية التي تُشَكِّل وتُحَدِّد ما نحن عليه داخلياً. في قطعة نثرية معنونة بـ “البيئة” موقعة باسم كامبوس ومنشورة عام 1927 لاحظ: «المكان يكون على ما هو عليه بسبب موضعه. حيثما نكون هو ما نحن عليه». ولكن بينما أدرك الدور المُحَدِّد للبيئة، فـ بيسوا مع ذلك لم يكن حتمياً صارماً. في النسخة الطويلة من القطعة المذكورة كتب: «الرجل الذي قفز من فوق الجدار كان لديه جدار ليقفز من فوقه». الجدار -بكونه شرطاً ضرورياً- كان بهذا المعنى مُحَدِداً، ولكنه ليس مُجبَراً، طالما استطاع الرجل أن يختار إن كان عليه أن يقفز أم لا.
عبقرية بيسوا الخاصة يمكن شرحها جزئياً على الأقل ببيئتين شكلتاه – لشبونة، حيث قضى السنوات السبع الأولى من حياته وكل حياته الناضجة، ودربان، بجنوب أفريقيا، حيث عاش طوال أعوامه المُشَكِّلة عاطفياً وفكرياً، من سن السابعة وحتى السابعة عشر. شخصية بيسوا الأساسية تشكلت بلا شك قبل أن ينتقل مع أمه من لشبونة إلى دربان، ولكن الناتج الأدبي كان نتيجة واضحة لهذا اللقاء أو الصراع بين هاتين البيئتين ولغتيهما المختلفتين، وثقافتيهما المختلفتين. كأن الثقافة الإنجليزية –ودربان في هذا الوقت كانت ذات تقليد إنجليزي مكتمل أكثر من إنجلترا نفسها– هي الجدار الذي قفز فوقه بيسوا الشاب المتحول، بينما ظل أبداً برتغالياً بشكل كبير.

ولد فرناندو آنتونيو نوجويرا بيسوا في 13 يونيو عام 1888، يوم عيد القديس آنتوني، ويوم الإجازة الرسمية في لشبونة، حيث تُنَظَّم الاحتفالات الحاشدة على شرف القديس وشرف المدينة نفسها. عيد القديس آنتوني هو عيد لشبونة، ولا يوجد عيد ميلاد يمكن أن يكون أكثر ملائمة لـ بيسوا، الذي كان كاتب مدينته الأساسي؛ حتى يمكنني أن أجادل أنه كذلك أكثر من كون كافكا كاتب براغ، أو كون جويس كاتب دبلن؛ فعلى الرغم من أن كافكا قضى حياته كلها في براغ، فالمدينة غير محسوسة كثيراً في كتاباته، باستثناء اليوميات. جويس في المقابل كتب بهوس عن مسقط رأسه، ولكن من ذاكرته، هو الذي قضى فيها وقتاً قليلاً جداً في سنوات نضجه. بيسوا لم يترك لشبونة سوى نادراً كناضج، وكتب عن المدينة بشكل مباشر (خاصة في “كتاب اللاطمأنينة”) ومن خلال الذاكرة المتخيلة، خلال صوت آلفارو دي كامبوس المتحرر، الذي كتب في زياراته المتكررة إلى بريطانيا (التي من المفترض أنه كان يعيش فيها) قصيدتي “زيارة لشبونة من جديد” (1923) و”زيارة لشبونة من جديد” (1926)، المشبعتين بالنوستالجيا، وهما من أقوى قصائده.
كل من أبوي بيسوا أنمى تطوره الثقافي. كانت الأسرة تعيش في مواجهة دار الأوبرا بلشبونة، وربما حضر بيسوا كطفل صغير عرضاً أو اثنين مع أبيه؛ الناقد المولع بالموسيقى إلى جانب كونه موظفاً حكومياً. أُم بيسوا -وهي من جزر الآزور- كانت متعلمة بشكل جيد وعلمت ابنها ليقرأ ويكتب في سن صغيرة جداً. ولكن في النهاية فسنوات بيسوا المبكرة في لشبونة تميزت أيضاً بالفقدان والانفصال؛ توفى أبوه من السل في الشهر الذي تلي عيد ميلاده الخامس وبعد ستة أشهر توفى أخوه الرضيع، بين الوفاتين انتقلت الأسرة إلى مجاورات أصغر. في العام التالي قابلت أم بيسوا زوجها الثاني؛ الضابط البحري الذي ترك لشبونة بعد عدة أشهر لحصوله على وظيفة في موزمبيق، وبعد ذلك أصبح القنصل البرتغالي في دربان؛ عاصمة مستعمرة ناتال الإنجليزية بجنوب أفريقيا.

منظر أمه التي تنتقل إلى أفريقيا لتعيش مع زوجها المستقبلي بالنسبة لـ بيسوا الذي ربما ظل مع أقاربه دفعه لكتابة قصيدته الأولى، في يوليو عام 1895:

«إلى أمي العزيزة

أنا هنا في البرتغال
في الأراضي التي ولدت فيها.
ومع كثرة حبي لها
فأنا أحبك أكثر».

الرباعية التي تُقتَبَس عادة كتعبير على إخلاص بيسوا البنوي، تدل أيضاً على عاطفته غير العادية لموطنه –”غير عادية” طالما أن ذا السبعة أعوام الذي تنحصر معظم علاقاته الشخصية غالباً مع عائلته المباشرة لا يمكن أن تتوقع منه كثيراً بأن تكون لديه فكرة واضحة عما هو الوطن، وأكثر من ذلك أن يكون مرتبطاً به. بيسوا خلال حياته وعلى الرغم من أنه سينتقد البرتغاليين لكونهم منتمين للمقاطعات وأفسدوا القادة السياسيين والنظام السياسي البرتغالي، كان وفياً بحدة لمسقط رأسه.
في فبراير عام 1896، وصل بيسوا وأمه التي تزوجت ورقياً من زوجها الثاني من شهرين إلى دربان، حيث التحق الصبي بمدرسة ابتدائية تديرها راهبات أيرلنديات وفرنسيات. بعد ثلاثة أعوام التحق بمدرسة دربان العليا، حيث تلقى تعليماً متطلباً ومن الدرجة الأولى. بيسوا رغم كونه أجنبياً، بدا طالبا متميزاً، وعندما التحق باختبار القبول في جامعة رأس الرجاء الصالح، عام 1903، فاز بجائزة الملكة فكتوريا لأفضل مقال بالإنجليزية – كان هناك 899 متقدماً.
تجربة بيسوا الأفريقية كانت تجربة كتابية في الأساس. وعلى الرغم من أن زملاءه في الفصل أحبوه كثيراً إلا أنه لم يشارك في الرياضة أو يكوِّن الكثير من الصداقات، ولا يبدو أن مدينة دربان ولا الريف المحيط بها قد تركا أثراً كبيراً عليه. من ضمن مئات القطع الأدبية التي كتبها خلال حياته الناضجة، لم يشر إلى أفريقيا بوضوح أبداً حتى عام وفاته، عندما كتب قصيدة “Un Soir à Lima”، التي تستدعي أمه وهي تلعب على البيانو في المنزل في دربان، مستمعاً إليها وهو بجانب النافذة، بينما يحدق بالخارج في المساحة الأفريقية الشاسعة التي يضيئها القمر. ما أحاط بيسوا، رغم كونه يعيش في أفريقيا، كان غالباً الأدب الإنجليزي: شكسبير وميلتون والشعراء الرومانتيكيين – شيلي، بايرون، كيتس، وردزوورث – وديكنز وكارليل في النثر. وهو أيضاً أعجب بـ بو.
قريباً جداً أصبح بيسوا يكتب بالإنجليزية. ما “حفظه” للأدب البرتغالي كانت رحلة إلى البرتغال استمرت لسنة وشملت الأسرة –بيسوا، أمه وزوج أمه، وبعض الأطفال الذين ولدوا للزوجين الجديدين– في عام 1901-1902. هناك كتب بيسوا قصائده المعروفة الأولى بالبرتغالية (إلى جانب الرباعية المذكورة الموجهة إلى أمه)، واحدة منها نشرت في جريدة “لشبونة” عام 1902. في كل من لشبونة وجزيرة تيرسيرا -حيث اتجهت الأسرة لزيارة خالة بيسوا، الشاب الصغير، الذي وجد أمامه فجأة الكثير من الوقت بدون واجبات مدرسية ليعمل عليها- بدأ بيسوا في صناعة جرائد مفصلة مشابهة للواقعية تضم أخباراً ونكاتاً وتعليقات وقصائد منسوبة لصحفيين خياليين، وصنع للعديد منهم سيرا ذاتية تخصهم.
عندما عاد إلى دربان، ابتكر بيسوا في سن الخامسة عشر أو السادسة عشر شخصية تشارلز روبرت آنون -أول أنا بديلة- ليوقع به كمية كبيرة من الكتابات الإبداعية التي تضم القصائد والقصص القصيرة والمقالات. وسريعاً ما انضمت لهذه الشخصية المستعارة الثانوية الشخصية الأكثر خصباً آلكسندر سيرش، سواء كان ذلك بينما بيسوا في دربان أو بعد فترة قصيرة من عودته النهائية إلى لشبونة في خريف 1905. سيرش -الذي كتب أيضاً بالإنجليزية- كان من المفترض أن يكون قد ولد في لشبونة في اليوم نفسه مثل بيسوا، وهو عبر مثله مثل آنون عن الاهتمامات العقلية والقلاقل الوجودية لشاب على عتبة التحوّل إلى ناقد. ومن المؤكد أن بيسوا ظل إلى الأبد على هذه العتبة. بدلاً من أن ينزل إلى شؤون الحياة العملية، استمر في مصارعة المشكلات النظرية والأسئلة الكبرى: وجود الله، معنى الحياة ومعنى الموت، الخير في مواجهة الشر، الواقع في مواجهة المظهر. فكرة (أليست مجرد فكرة؟) الحب، حدود الوعي، وهكذا، كل ذلك كان مغذياً ثرياً لأشعاره، يتقدم في عالم الأفكار أكثر منه الأفعال الواقعية.
في ديسمبر عام 1904، مر بيسوا باختبار الآداب المتوسط وتلقى الدرجة الأعلى في ناتال، تلك التي كانت ستهبه منحة حكومية ليدرس في أكسفورد أو كامبريدج، ولكن كانت هناك عقبة: المتقدمون كان عليهم أن يقضوا السنوات الأربع السابقة في مدرسة ناتال. وبسبب رحلة لشبونة في 1901-1902 لم يعد بيسوا مؤهلاً. وبدلاً من الذهاب إلى إنجلترا، عاد ذو السبعة عشر عاماً الأكبر من سنه إلى لشبونة، حيث درس الأدب في الكلية لحوالي سنتين قبل أن يرفت. لم يحصل على درجات أكاديمية؛ لم يلتحق بامتحانات السنة الأولى بسبب المرض، والسنة الثانية بسبب إضراب الطلبة. أثناء وجوده في الكلية وبعدها كان يقضي ساعات طويلة في المكتبة الوطنية يدرس الفلسفتين اليونانية والألمانية، والأديان العالمية، وعلم النفس، والفكر التطوري (الثقافي والاجتماعين أكثر من البيولوجي). كان يقرأ الكثير من الأدب الغربي، خاصة بالفرنسية (هوجو، بودلير، فلوبير ورولينا، من ضمن الآخرين)، والإنجليزية والبرتغالية، وقراءاته بهذه اللغة الأخيرة ملأت فراغاً حقيقياً في تعليمه الجنوب أفريقي.

كتب بشكل مستمر: الشعر والنثر وفي الفلسفة وعلم الاجتماع والنقد الأدبي. خلال السنوات الأولى في محيط موطنه كتب أحياناً بالبرتغالية، ولكن كتب أكثر بالفرنسية (الشخصية المستعارة الفرنسية الوحيدة لدى بيسوا كانت جان سول التي ظهرت عام 1907)، ولكن معظم ما كتبه كان بالإنجليزية. طموح بيسوا -حتى بعدما عاد إلى لشبونة- كان أن يصبح شاعراً عظيماً بالإنجليزية، واستمر في كتابة قصائد بهذه اللغة حتى قبل أسبوع واحد من وفاته. في عام 1917، قدم مجموعة بحجم كتاب من الشعر -“العازف المجنون”- إلى ناشر في لندن رفضها فوراً، ولكن واحدة من قصائد الكتاب ظهرت بعد ثلاثة أعوام في المجلة ذات السمعة الحسنة “آثينايوم”. في عام 1918 نشر بيسوا لنفسه كتابين صغيرين من الأشعار الإنجليزية، مع إثنين آخرين في عام 1922، وتلقت تلك مديحاً حذراً من الصحافة البريطانية. عن كتابه “35 سونيتة” (1918)، أشارت ملاحظة بملحق التايمز الأدبي: «قدرة السيد بيسوا في الإنجليزية أقل قيمة من معرفته بالإنجليزية الإليزابيثية… السونيتات… ستهم الكثيرين بسبب شكسبيريتها المتطرفة شكسبيرياً، والخدع التودورية المتعلقة بالتكرار والتضمين والتناقضات بالإضافة إلى أهمية ما تقوله». جريدة “جلاسجو هيرالد” كانت مجاملة أيضاً، ولكنها أشارت: «سوء محدد في الخطاب، بسبب تقليد حِيَل شكسبير».
إنجليزية بيسوا كانت إنجليزية الكتب التي يقرأها، وهذا تضمن الروائيين المعاصرين، مثل ه. ج. ويلز، سير آرثر كونان دويل وو. و. جاكوبز، ولكنه افتقد الطبيعة الفجة للسان الأم. إنجليزيته، رغم أنها كانت بارعة بالمعنى الأدبي للكلمة، كانت إنجليزية تخصه -أكثر أدبية و قديمة إلى حد ما، وعادة فتنوعها رسمي بالنسبة للغة. الشعر الذي كتبه كان ممتعاً بسبب الأفكار والمشاعر التي يتضمنها، مثلما كان كذلك بسبب الاستخدام المهاري للتقنيات، ولكن مثله مثل البيانو الذي يعزف خارج النغمة، أو الكاميرا غير المركزة، فإنجليزية بيسوا كانت تحتوي تشويهاً طفيفاً أفسد التأثير الكلي.
اللغة الإنجليزية زودت بيسوا بدخل متواضع ولكن مُعتَمَد عليه، هو الذي كان يأكل عيشه بترجمة وكتابات خطابات بالفرنسية والإنجليزية للشركات الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية التي تعمل بالخارج. هو أيضاً حاول أن يقوم بعمل بمفرده، أساساً كوكيل لشركات المناجم البرتغالية التي تبحث عن استثمار أو رأسمال من بريطانيا أو أي مكان آخر، ولكن لا يبدو أنه استطاع أن يحصل على أي صفقة مربحة.
على أي حال فالإنجليزية ساعدت بيسوا بأفضل شكل في النثر الذي كتبه بالبرتغالية. إن كان الأدب الأنجلو أمريكي أثر فيما كتبه بيسوا، فاللغة الإنجليزية نفسها أثرت في كيفية كتابته. الإنجليزية تميل أكثر من اللغات الرومانسية لتكرار الكلمات –من أجل الوضوح، من أجل الاستقامة البنائية، والتأثير البلاغي– وبيسوا تبع هذا الاستخدام في البرتغالية (في “كتاب اللاطمأنينة” على سبيل المثال). وبينما تُوَظِّف سونيتات بيسوا الإنجليزية نحواً معقداً مستمداً من النماذج الإليزابيثية، فالإنجليزية الحديثة ألهمت التعبير المباشر الذي يصف الشعر المنسوب إلى آلبرتو كاييرو وآلفارو دي كامبوس.
بعد موجة الإبداع الشعرية الأولى لـ بيسوا بالبرتغالية، مع حوالي دستة قصائد متبقية تعود إلى سنتيه الثالثة عشر والرابعة عشر، لم يعد لكتابة الشعر بلغته الأم (باستثناء نماذج شاذة هنا أو هناك) حتى اقترب من عمر العشرين، بعد ثلاثة أعوام من العودة إلى لشبونة. مع عام 1911 ربما كان يكتب أشعاراً بالبرتغالية بقدر الأشعار الإنجليزية، في العام التالي نشر، في مجلة مؤسسة بأوبرتو، مقالين طويلين عن وضع الشعر البرتغالي الحديث من المنظورين الاجتماعي والنفسي. ثم عاد بيسوا لنفسه. عام 1913 نشر قطعته الأولى من النثر الإبداعي؛ فقرة من “كتاب اللاطمانينة”، الذي سيعمل عليه لبقية حياته، وفي عام 1914 نشر بالبرتغالية أشعاره الأولى كناضج. وهذا هو العام الذي ولد فيه أعظم شعراء البرتغال في القرن العشرين: آلبرتو كاييرو، آلفارو دي كامبوس، ريكاردو ريس، وفرناندو بيسوا نفسه.
ألبرتو كاييرو، الذي انبثق من روح بيسوا في نهاية شتاء عام 1914، عاش في الريف، بدون أي تعليم رسمي، وقال إنه يريد رؤية الأشياء على ما هي عليه، بدون أية فلسفة:

«الذي يهم هو أن تعرف كيف ترى،
أن تعرف كيف ترى بدون التفكير،
أن تعرف كيف ترى بدون الرؤية،
وألا تفكر أثناء الرؤية،
وألا ترى أثناء التفكير».

زعم كاييرو أنه «شاعر الطبيعة الوحيد»، ولكن رؤيته عن الطبيعة كانت مثالية، وتقديره لها كان مجرداً، وشعره كان غالباً فلسفة خالصة. أن تتكلم عن رؤية الأشياء بشكل مباشر فهو مساو بألا تراها بشكل مباشر فيما بعد. كاييرو كان لحظة النيرفانا الشعرية، استحالة ملفوفة بأبيات روحانية ذات جمال نادر وكريستالي. دعاه بيسوا بالأستاذ وقال –بعد عشرين عاماً– إن آلبرتو كاييرو “ظهر” بداخله في 8 مارس عام 1914، هذا “اليوم المنتصر” في حياته، الذي كتب فيه مرة واحدة «في نوع من “النشوة” من ثلاثين إلى خمس وأربعين قصيدة كونت ديوان “راعي القطيع”؛ عمل كاييرو (وبيسوا) الشعري الأكثر جلالاً. عرفنا من المسودات أن هذه القصة ليست صحيحة تماماً، ولكنه كتب ما يقرب من ثلاثين قصيدة في خلال أسبوعين من مارس في هذا العام، والقصائد اللاحقة التي كتبت باسم كاييرو نادراً ما وصلت للوضوح الذهبي البادي في هذا الفيض المبدئي.
“وُلِد” في 16 أبريل عام 1889، كان كاييرو بأشكال عدة إشارة إلى صديق بيسوا الأقرب الكاتب ماريو سا كارنيرو (1890-1916). كاييرو [Caeiro] هو كارنيرو [Carneiro] (الكلمة البرتغالية من “خروف”) بدون الـ “Carne” أو “اللحم”، وآلبرتو كاييرو حسب مهنته كان راعياً مثالياً «أنا لم أرع أبداً الخراف، ولكن يبدو الأمر وكأنني فعلت ذلك» كما يشرح في بداية “راعي القطيع”. كان برجه -بشكل تلقائي بما يكفي- هو الحمل. انتحر سا كارنيرو عام 1916، قبل عدة أسابيع من عيد ميلاده السادس والعشرين، وآلبرتو كاييرو -وفقاً لـ “سيرته الذاتية”- مات شاباً أيضاً، في عمر السادسة والعشرين، من جراء السل، كتب بيسوا عن كلاهما: «هؤلاء الذين يحبهم الله يموتون شباباً».
لم يُفهم كاييرو فقط كـ “شاعر الطبيعة”، ولكن أيضاً كحداثي متعدد الآراء، وقد كتب قصائد “تقاطعية” مستلهمة من التكعيبية وخَطَّط لسلسلة من “الأناشيد المستقبلية”. ولكن القصائد التقاطعية في النهاية نسبت إلى بيسوا نفسه، والطموحات المستقبلية انتقلت إلى ألفارو دي كامبوس، الذي أوجِد في بداية يونيو عام 1914، كمنبثق من آلبرتو كاييرو. العلاقة العضوية بين الاثنين انعكست في اسميهما المتشابهين، وليس الأمر كذلك فحسب فـ “دي كامبوس” تعني “من الحقول”: جاء آلفارو من الحقول حيث وجَه آلبرتو مخيلته أو قطيعه المجازي.

ولد كامبوس وفقا للسيناريو في آلجارف[1]عام 1890، درس الهندسة البحرية في جلاسجو، ارتحل إلى الشرق، وعاش بضعة أعوام في إنجلترا حيث كان يطارد الشباب والفتيات، ثم عاد أخيراً إلى البرتغال، واستقر في لشبونة. قصائد كامبوس المبكرة -كـ “النشيد المنتصر”- احتفت بالآلات والعصر الحديث بحيوية راسخة وصاخبة. قصائده المتأخرة كانت أقصر وكئيبة في نغمتها، ولكن قناعة كامبوس الأساسية استمرت:

«أن تشعر بكل الأشياء بكل الطرق،
أن تعيش كل الأشياء من كل الجهات،
أن تكون الشيء نفسه بكل الطرق الممكنة في الوقت نفسه،
أن تدرك في نفسك كل الإنسانية في كل لحظاتها،
في لحظة مبعثرة، مبالغة، كاملة، منفصلة واحدة».

آلفارو دي كامبوس كان أكثر الشخصيات المستعارة شعبية، عبر عن آرائه في الشئون السياسية والأدبية في المقالات والحوارات المنشورة (ظاهرياً بمساعدة بيسوا) في مجلات لشبونة. كان مولعاً بمعارضة آراء خالقه، الذي انتقده لأنه ذو ذهن عقلاني جداً، مع «هوس بتصديق الأشياء الممكن إثباتها»، كان يستمتع أيضاً بالتدخل في حياة بيسوا الاجتماعية. كان يحل محل فرناندو في المواعيد مما يسبب الانزعاج والضيق لهؤلاء الذين لا يتسلون بمثل هذا العبث.

ريكاردو ريس، الثالث في ثالوث شخصيات بيسوا المستعارة مكتملة النضوج، ظهر أيضا في يونيو عام 1914، ربما بعد عدة أيام من آلفارو دي كامبوس. طبيب ومهتم بالكلاسيكيات، دعاه بيسوا بـ «هوراس اليوناني وهو يكتب بالبرتغالية»، ألف ريس أناشيد موزونة غير مقفاة عن تفاهة الحياة والحاجة لقبول قدرنا:

«طالما لا نفعل شيئاً له قيمة،
في هذا العالم المرتبك سواء بقي أو فني،
وحتى ما هو مفيد لنا نخسره،
سريعاً جداً، في حيواتنا،
إذن دعنا نفضل لذة اللحظة
على الاهتمام العبثي بالمستقبل…»

ولد ريكاردو ريس، وفقاً لخالقه، عام 1887 في أوبرتو، التي أصبحت نقطة تمركز القوى الملكية المتبقية بعد تأسيس الجمهورية البرتغالية، عام 1910. عام 1919 استولى الملكيون على أوبرتو ولكنهم هزموا سريعاً، عند هذه النقطة هرب ريس –المتعاطف مع الملكية (اسمه الثاني يعني “ملوك”)- إلى البرازيل، حيث يفترض أنه عاش لبقية حياته، على الرغم من أن هناك أوراقاً –ضمن آلاف الأوراق التي تركها بيسوا بعد وفاته– تحتوي على عنوان د. ريس في بيرو.

كل الشخصيات المستعارة الثلاث كانت تعبيرات عن “الشعورية”، وهي واحدة من الاتجاهات الأدبية (كالتقاطعية المذكورة) التي ابتكرها بيسوا، واعتنقها أصدقاؤه الكتاب الحداثيين. في فقرة موقعة باسم توماس كروس –الناقد والمترجم الإنجليزي المتخيل الذي خلق بعد عام أو اثنين بعد كاييرو وريس وكامبوس– ميز بيسوا بدقة بين الشعراء الثلاث وأنواع الشعورية التي مثلوها: «كاييرو له مبدأ واحد: يجب أن يتم الشعور بالأشياء على ما هي عليه. ريكاردو ريس لديه نوع آخر من المبدأ: الأشياء ينبغي الشعور بها، ليس فقط على ما هي عليه، ولكن أن تضعها أيضاً تحت قانون أو معيار له مثال كلاسيكي محدد. أما عند آلفارو دي كامبوس فالأشياء يجب أن يتم الشعور بها ببساطة».
عام 1914 كان نقطة تحول في شعر “الاسم الحقيقي” الذي وَقَّع بنفسه فرناندو بيسوا، ولكنه لم يكن الشخص نفسه، أو بيسوا بلحمه ودمه، المعروف أنه يعيش مع خالته آنيكا. آلفارو دي كامبوس قال إنه قابل بيسوا الاسم الحقيقي بعدما قابل كاييرو عام 1914 وسمعه يتلو “راعي القطيع” مختبراً “صدمة روحية” أدت إلى ظهور أكثر أعماله أصالة حتى الآن.
فيما وراء كل التخييل الذاتي الذي أدى في الحقيقة إلى تحول أو ذروة عميقة في فن بيسوا الأدبي، كان كاييرو وكامبوس وريس هم النتيجة الأكثر ظهوراً لهذا التحويل، لأنهم قدموا شيئاً جديداً تماماً، ولكن فكرة الشخصية المستعارة نفسها لم تكن جديدة؛ فبجانب الشخصيات المستعارة المذكورة التي كتبت بالإنجليزية والفرنسية، فقد ابتكر بيسوا في شبابه العديد من الصحفيين البرتغاليين–د. بنكراسيو، وجودنسيو نابوس– كتبوا خارج صفحات الجرائد التي بدأ “عملهم” فيها، السيد نابوس ظل “نشطاً” حتى عام 1913 على الأقل، وفيسينت جويديس، أول شخصية مستعارة تكتب البرتغالية بكثافة تم ابتكاره بالفعل عام 1908. الشخصية المستعارة في الحقيقة، تعود إلى طفولة بيسوا، الذي كتب في عامه السادس خطابات لنفسه موقعة باسم شخص يدعى شوفالييه دو با.
وصف بيسوا مشروعه الفني كـ «دراما مقسمة إلى أشخاص بدلاً من فصول». بكلمات أخرى هو خلق مجموعة من الشخصيات ولكن بدون مسرحية ليمثلوا فيها، ما لعبوه بشكل مؤكد هو الحياة التي اختار خالقهم الخجول المنطوي ألا يعيشها في العالم الفيزيقي. يشرح في فقرة من “كتاب اللاطمأنينة”: «أنا خلقت العديد من الشخصيات بداخلي». «كل حلم من أحلامي، في اللحظة التي أحلم بها فيه، يتجسد فوراً في شخص آخر، الذي يكون بالتالي الشخص الذي يحلم، وليس أنا. من أجل أن أُخلَق فقد دمّرت نفسي… أنا خشبة مسرح خالية حيث يمثل العديد من الممثلين مسرحيات عديدة».
لا عجب إذن أن بيسوا -الذي اعتبر نفسه «كاتباً مسرحياً أساساً»- قد أعجب بـ شكسبير وميلتون (الذي يعتبر عمله “الفردوس المفقود” عملياً دراما شعرية) على حساب كل الكتاب الآخرين. نشر بيسوا مسرحية قصيرة روحانية تدعى “البحار” [O Marinheiro] وصنفها على أنها “دراما استاتيكية” وترك مجموعة من المسرحيات غير المكتملة بالبرتغالية والإنجليزية، ولكنها مسرحيات “استاتيكية” فحسب، حيث لا يُتوقع حدث، ولكنها مسرحيات مثيرة للاهتمام. مثله مثل روبرت براونينج -الشاعر الذي قرأه وقدّره كثيراً- فـ بيسوا استخدم غرائزه الدرامية بشكل أفضل في شعره. ولكنه تجاوز الشاعر الإنجليزي، لأن شخصياته الدرامية تعدت كونها ذوات شعرية؛ لقد جعلهم شعراء شبه مستقلين.
كل هذا يصبح أكثر إثارة للدهشة عندما نحفر بشكل أعمق في نسق الشخصيات المستعارة الذي تَضَمَّن مُنَجِّماً، مُكَرَّساً، فيلسوفاً، عدة مترجمين، كتاب يوميات، نبيلاً أقدم على الانتحار، فتاة حدباء تموت من السل. إلا أنني لم أشرح بعد (إن كان بإمكاني الشرح) ما أدى لانفجار 1914 الذي حول بيسوا إلى كاتب عظيم. لقد ذكرت المدى الواسع من الأدب والتعلم الذي امتصه الكاتب قيد التحقق كطالب بالمدرسة وكشاب، وأثناء وبعد التحاقه القصير بالجامعة، وعلينا أن نضيف إلى هذه المكونات الرمزيين الفرنسيين (مالارميه، فيرلين، رامبو وميترلينك البلجيكي الذي يكتب بالفرنسية)، الذي قرأهم فيما بين عامي 1909 و1912. في هذا الوقت أيضاً اتجه بيسوا نحو الشعر البرتغالي، من تعبيراته المبكرة في أغاني التروبادورات[2] في القرن الثالث عشر (بعضها تمت ترجمته إلى الإنجليزية) إلى الأعمال المعاصرة لـ تيشيرا دي باسكاس (](1877-19523] وشعراء “حركة سودوسيستا” الآخرين، الذين أعلنوا عن النوستالجيا الوطنية كقيمة روحية وطاقة خلاقة. ولكن في النهاية ما أجج الخليط المعقد للتحصيلات الأدبية واللغوية، واستثار نوعاً من رد الفعل الخيميائي كان والت ويتمان؛ يمكن الجدل أنه المؤثر الأعظم على شعر بيسوا، وبشكل أعمق على بيسوا كفنان.
ولكن الأمر ليس كما افترض العديد من النقاد، أن بيسوا كان “ابناً” للشاعر الأمريكي. تأثير ويتمان مميز وواضح في شعر آلبرتو كاييرو وآلفارو دي كامبوس ولكن كلا من الشخصيتين المستعارتين ليستا فقط مستلتين منه، لأنهما لم يكن يمكن أن يوجدا بدون المدخلات العديدة الأخرى من خلفية بيسوا الأدبية الثرية. وعلى الرغم من ذلك يبدو أن ويتمان توظف كمدخل لينفتح مشروع بيسوا وقوة شخصيته. قصيدة “أغنية لنفسي”[4]هي أغنية للعالم كله –يتم الشعور وتجسيد العالم بداخل الذات– وكانت هذه الجرأة وهذه الجسارة هي التي استثارت بيسوا وعالم شخصياته المستعارة، التي كان من الممكن ألا تكون رغم ذلك سوى ظاهرة سيكولوجية مثيرة للفضول وتدريب أسلوبي، بدون نتيجة أدبية واقعية. أشار بيسوا لهذا القَدَر في المقال المكون من جزئين «ملاحظات من أجل استطيقا لا أرسطية» المُوَقَّع باسم ألفارو دي كامبوس والمنشور عام 1925؛ يدافع المهندس البحري في المقال عن استطيقا مبنية على القوة الداخلية الشخصية –قوة الشخصية– أكثر من الجمال الخارجي والآني، فن مبن على المشاعر أكثر من الذكاء. ينتهي المقال بالتأكيد الشديد على أنه «حتى الآن… هناك فقط ثلاثة تعبيرات حية فقط عن الفن غير الأرسطي. الأول هو القصائد الرائعة لـ والت ويتمان؛ الثاني القصائد الأكثر روعة لأستاذي كاييرو؛ الثالث هو النشيدين –”النشيد المنتصر” و”النشيد البحري”– اللذين نشرتهما بمجلة “أورفيو”».
“أورفيو” كانت جريدة أدبية أنشأها بيسوا وصديقه ماريو دي سا كارنيرو وكتاب مهمون آخرون عام 1915. قدمت بظهورها القصير –لم ينشر منها سوى عددين– الحداثة إلى البرتغال. العديد من أعضاء المجموعة كانوا على اتصال مع التكعيبيين والمستقبليين في باريس، بينما تابع بيسوا -من خلال قراءاته- التيارات الأدبية الحديثة في بريطانيا وأسبانيا وفرنسا وأماكن أخرى (على سبيل المثال حصل على نسخ من جريدة “بلاست” الجريدة الدوامية[5]التي نشر فيها عزرا باوند قصائد عام (1914). أثارت “أورفيو” ردود فعل غاضبة وساخرة في الصحافة والوسط الثقافي، ولكن عبقرية عمل بيسوا تم التعارف عليها بشكل كبير.
عام 1917 نشر بيسوا -باسم ألفارو دي كامبوس- بياناً مثيراً في العدد الوحيد من جريدة “برتغال فوتوريستا”، التي صادرها البوليس من على أرفف بائعي الجرائد؛ دعمت البرتغال الحلفاء في الحرب، وبينما لم يكن مانيفستو بيسوا -كامبوس العنيف مؤيداً للألمان، فقد حمل انتقادات للبريطانيين والفرنسيين وقادة الحلفاء بالقدر نفسه الذي انتقد فيه فيلهلم الثاني وبسمارك. وبعد انتقاد الزمن المعاصر بسبب «عدم قدرته على خلق أي شي عظيم». دعا مانيفستو كامبوس إلى «إلغاء دوجما الشخصية» وأكد على أن «لا ينبغي على الفنان أن تكون لديه شخصية واحدة فحسب طالما أن “الفنان الأعظم” سيكون الشخص الذي لا يُفرِط في تحديد نفسه والذي يكتب معظم الأنواع الأدبية بأكبر قدر من التناقضات والتعارضات». بكلمات أخرى فالفنان الأعظم ستكون لديه شخصيات متعددة، (“خمسة عشر أو عشرين” هكذا يشرح المانيفستو) كـ فرناندو بيسوا.
هذه لم تكن المرة الأولى التي يتنبأ فيها بيسوا أو يعلن عن عظمته الفنية؛ في مقالات عن الشعر البرتغالي نشرها عام 1912، تصور البزوغ المتضمن لـ “شاعر عظيم” سيتجاوز لويش دي كامويش[6]؛ المعروف عالمياً كشاعر البرتغال الأول. من الواضح أن بيسوا كان يعد المسرح بشكل مسبق من أجل دخوله الكبير (أو دخولاته، لوجود عدة شخصيات مستعارة). ولكن العظمة الشخصية، في شكل اللا أخلاقية الأدبية، كانت فقط جزءا من حلمه. في ملحق لهذه المقالات -كتلك التي نشرت عام 1912- تنبأ بيسوا أيضاً بالفجر في البرتغال، بـ “نهضة جديدة” ستنتشر من حدود البلد حتى بقية أوروبا، كما كانت النهضة الإيطالية من عدة قرون مضت.
سيصوغ بيسوا فيما بعد رؤيته عن النهضة البرتغالية بداخل نسق “الإمبراطورية الخامسة”، بفهم جديد للنبوءة القديمة، من الإصحاح الثاني من سفر دانيال. تفسير النبي لحلم نبوخذ نصر[7]، ملك بابل، يتم فهمه تقليدياً على أنه تاريخ الإمبراطوريات العسكرية العظيمة في العالم الغربي –البابلية، الفارسية، اليونانية، الرومانية، في حين أن الخامسة تفهم عادة على أنها الإمبراطورية البريطانية. تبنى بيسوا وجهة نظر “روحية” أو ثقافية، فقد فهم الإمبراطوريات الخمس على أنها اليونان وروما والغرب المسيحي وأوروبا ما بعد النهضة، ثم –على المدى القريب– البرتغال. الفكرة هي أن البرتغال، عن طريق لغتها وثقافتها، وبشكل أخص بسبب أدبها، ستسيطر على بقية أوروبا؛ “إمبريالية الشعراء” كما توضح واحدة من الفقرات التي كتبها بيسوا عن الموضوع.
قومية بيسوا كانت بناءة كما كانت انفعالية. لم تكن لديه أوهام عن التراجع النسبي للبرتغال في مواجهة بقية أوروبا، حتى يكون هدفه هو اللحاق بها. هو اتخذ الثقافتين البريطانية والفرنسية كنماذج ليحاكيها، على الأقل في جوانب بعينها، واتخذ العالم المتحدث بالإنجليزية كأفضل مخرج للترويج للثقافة البرتغالية بالخارج. وهو بالفعل خطط عام 1900 لينشر -في دار نشر صغيرة أنشئت بالميراث الصغير الذي تركته له جدته لأبيه- قائمة طويلة من الأعمال البرتغالية الكلاسيكية والمعاصرة التي ترجمت إلى الإنجليزية إلى جانب مجموعة من الكلاسيكيات الأجنبية؛ تتضمن أعمال شكسبير الكاملة بالبرتغالية. “إمبريزا آيبيس” كما دعيت الدار، كان من المفترض أيضاً أن تنشر مجلات، ومقالات سياسية، وأعمالاً علمية، وأخيراً وليس آخراً عدة أعمال لـ بيسوا وشخصياته المستعارة، بالإنجليزية والبرتغالية.
كانت طموحات بيسوا الأدبية الشخصية -كما تصورها- مرتبطة تماماً باهتمامه ليجعل البرتغال أكثر كوزموبوليتانية وليروج لثقافته بالخارج. كانت كتاباته تستهدف تعليم البرتغاليين -سواء بشكل مباشر أو عن طريق ضرب الأمثلة- وجعلهم أكثر أوروبية. وبسبب أن كتاباته أصيلة ومميزة جداً (بيسوا لم يكن أبداً متواضعاً) فهي ستقنع الأجانب بقيمة وحذق الأدب البرتغالي المعاصر. بيسوا بترويجه لأعماله شعر أنه يروج للبرتغال. هذا التفكير ربما كان مُبَرَراً من منظور المواهب الأدبية المعتبرة، ولكن مهاراته الإدارية كانت محدودة، والصعوبات الاقتصادية أجبرت “إمبريزا آيبيس” على إغلاق أبوابها فوراً.
عام 1919 ملأ بيسوا مذكرة بخطط غزيرة عن شركة أكبر حجماً –دعيت مؤقتا بكوزموبوليس أو أوليسيبو– ستكون مهمتها إثراء التبادل الثقافي والتجاري بين بريطانيا والبرتغال؛ مجموعة شركات بمكاتب في لشبونة ولندن، تقدم معلومات لرجال الأعمال والمسافرين، وخدمات ترجمة وترجمة فورية، ونصائح قانونية، وخبراء في الإعلان والعلاقات العامة، ومساعدات بحثية وتحريرية، ومستضيفة للعديد من الخدمات الأخرى. فرع لشبونة سيتضمن أيضاً شركة ملحقة تروج للسلع البرتغالية، وتشجع على مصانع جديدة، ومدرسة تقدم دورات في التدريب المهني والإثراء الثقافي، ودار نشر لن تنشر للكتاب المعاصرين فحسب ولكن الكلاسيكيات الأدبية في نسخ رخيصة، إلى جانب مجلات، وأدلة مهنية، وكتب إرشادية.
ما ظهر من كل هذه الخطط عام 1921 كان وكالة تجارية صغيرة ودار نشر تدعى “أوليسيبو”، التي لم تفعل الكثير بخلاف نشر نصف دستة كتب، تضمنت كتابين صغيرين لأشعار بيسوا بالإنجليزية، وإعادة طبع لمجموعة شعرية لـ آنتونيو بوتو المثلي الجنسي المعلن لمثليته، وكتيب للمثلي الأكثر صراحة راوول ليل وهو “Sodoma Divinizada” (سدوم المُرَبَبة) الذي قام عنوانه بالتأثير المتوقع. أقام الطلاب الكاثوليك المحافظون حملة ضد “الأدب السدومي” فحُظِر الكتابان، وهاجمهم بيسوا بدوره، عن طريق منشورات نشرها بنفسه سخرت من أخلاقية الطلبة المدعين ودافع بحدة عن كاتبه. هذا الحادث كشف جانباً آخر من برنامج بيسوا لخلخلة المجتمع البرتغالي وتعليمه ومن الممكن أن ينطبق ذلك على الحضارة الأوروبية في المجمل، طالما أدى كتاب ككتاب راوول ليل لاهتياج عام في أنحاء القارة. وعلى الرغم من أن بيسوا كان يميل إلى أن يكون محافظاً في السياسة، إلا أن دفاعه عن حق الفرد في التعبير الحر –حتى في الأمور الجنسية– كان متقدماً كثيراً عن عصره.
في عام 1924 أنشأ بيسوا جريدة “آثينا”، التي أظهرت -بأعدادها الخمسة، وبطريقة يضرب بها المثل- كيف ارتبط ترويجه لذاته باهتمامه بالارتقاء بالثقافة البرتغالية. المجلة -بداية من عنوانها وشكلها المصور الأنيق- كانت تعبيراً مثالياً للنهضة الجديدة التي يستبقها بيسوا قبل 12 عاماً، وفاترينة عرض للشاعر العظيم –فرناندو بيسوا– الذي يفترض أن يكون رأس حربة الإحياء الثقافي البرتغالي. كانت منشوراً فريداً –تضمنت إنتاجات ثقافية، مقالات وقعها بيسوا أو آلفارو دي كامبوس، وترجمات لـ بيسوا لمدونات من “الأنطولوجيا اليونانية”، أشعار لـ إدجار آلان بو، وجزء من مقال والتر بيتر عن دافنشي– وتم تقديم ريكاردو ريس وآلبرتو كاييرو لأول مرة إلى العامة، مع مختارات كبيرة من أشعارهما.
الإحياء اليوناني الجديد الذي قُصِد من هاتين الشخصيتين المستعارتين أن يستبقاها –ريس بالمناخ التراثي والإشارات الغزيرة إلى الآلهة في أناشيده، وكاييرو بـ “الموضوعية المطلقة” لرؤيته الواضحة المباشرة– تدعمت بـ “الوثنية الجديدة”؛ النسق الفلسفي والديني المغروس في شعره والمُفَصَّل في النصوص التنظيرية الموقعة باسم ريس وآنتونيو مورا؛ الشخصية المستعارة التي مثلت “التابع الفلسفي” لـ كاييرو.
أن تتساءل إن كان بيسوا قد آمن بالآلهة الوثنية الذي تنبأ ودافع عن عودتها من أجل البرتغال مشابه لأن تتساءل إن كان قد “آمن” بالشخصيات المستعارة التي جسدت (خاصة كاييرو) أو تبنت (ريس ومورا) القضية الوثنية الجديدة. هؤلاء الأشخاص وهذه القضية كانا جزءا من الحزمة نفسها، أو بالأحرى من البعثرة نفسها، طالما أن ما لم يؤمن به بيسوا هو الوحدة. «الطبيعة هي أجزاء بدون كل» كان -وفقاً لـ بيسوا- بيت كاييرو الأعظم والأكثر صدقاً (من القصيدة السابعة والأربعين لـ “راعي القطيع”) وفي إحدى الأناشيد قال ريس «كما أن كل نافورة يتوسطها إله، أليس الأجدى أن يكون لكل إنسان الإله الخاص به؟» ظاهرة الشخصيات المستعارة تعكس قناعة بيسوا بأنه حتى على مستوى الذات لا توجد وحدة، وإن دافع عن استعادة الوثنية بآلهتها التي لا تعد، فهذا لأنه رفض رؤية الوحدة المطلقة المتعلقة بالعالم الآخر التي تتبناها المسيحية والأديان الموحدة الأخرى. هذا لا يعني القول إنه لم يرغب في الوحدة. في تلك الشخصيات المستعارة فذات بيسوا المجزأة، للمفارقة، حاولت أن تبني عالماً صغيراً ولكنه كامل من الأجزاء المتشاركة التي تشكل كلاً متماسكاً. وكل إبداعاته الأدبية كانت محاولات للوصول إلى الوحدة، لحظة الكمال، في وسط فوضى الوجود العامة.
ربما بسبب هذا الوعي الملح بهذه الفوضى، فـ بيسوا رغم توجهه في الشك من كل شيء، آمن أو أراد أن يؤمن بالبعد الروحي. موقفه الديني بدا معبراً عنه جيداً في الأبيات الافتتاحية لقصيدة لـ ألفارو دي كامبوس، الذي مالت أعماله الأخيرة للحديث مباشرة عن قلب صانعه:

«أنا لا أعرف إن كانت النجوم تحكم العالم،
إو إن كان بإمكان التاروت أو أوراق اللعب
أن تكشف أي شيء،
أنا لا أعرف إن كان هز الزهر
يمكنه أن يقود لأي نتيجة.
ولكنني أيضاً لا أعرف
إن كان من الممكن الوصول لأي شيء
عن طريق العيش كما يعيش معظم الناس”.
5 يناير 1935

على الرغم من أنه لم يعرف -إن كان يعرف شيئاً- ما وراء أو خلف ما نحن عليه أو ما نراه، فـ بيسوا لم يكن مهتماً بوضوح بـ «العيش بالطريقة التي يعيشها معظم الناس». قضى حياته بأكملها باحثاً عن الحقيقة، عندما لم يبتكرها، وهذا البحث قاده إلى درع كامل من المباديء السرية والممارسات السحرية. ولأنه كان يهتم بالنجوم فقد كان يُنَجِّم بشكل غزير، وقد قرأ طوالع المئات من أصدقائه وأفراد أسرته والرموز التاريخية والثقافية ولنفسه. وبشكل أبرز فقد قرأ عشرات الكتب وكَتَب مئات الصفحات عن الباطنية، والتقاليد النسكية كالكابالا وجماعة الصليب الوردي والماسونيين الأحرار والثيوسوفية والخيمياء وعلم الأرقام والسحر والروحانية.
الاهتمام بالسحر اختلط بميل بيسوا الوطني لصناعة ما يطلق عليه “الوطنية الباطنية” المعبر عنها في نسق الإمبراطورية الخامسة وخُلِّدَت في كتاب “الرسالة” Mensagem، وهو نوع من إعادة الكتابة السرية لكتاب كامويش “اللوزياد”. كتاب الشعر البرتغالي الوحيد الذي نشر في حياة بيسوا، عام 1934، “Mensagam”، لم يكن فحسب تدريباً على الحنين إلى أيام البرتغال المجيدة أثناء عصر الاستكشاف؛ فتلك الأيام ستكون مستقبل البرتغال إلى جانب كونها مصيرها الماضي، والمستقبل هو الآن، وفقا للبيت الأخير في الكتاب: «لقد حلت الساعة».
عندما نجمع الصورة كلها –الشخصيات المستعارة والنهضة الجديدة والشاعر العظيم والإمبراطورية الخامسة والوطنية الباطنية والوثنية الجديدة مع الأستاذ كاييرو كرمز لها– نصل إلى الرؤية الشاذة المطلقة: البرتغال كمركز الإمبراطورية الثقافية التي خطط لها بيسوا وهي تشع على كل أوروبا؛ حيث الوثنية الجديدة تحل محل الكاثوليكية، وآلبرتو كاييرو يحل محل يسوع كنوع جديد ومختلف من المسيا، وربما يجلس آلفارو دي كامبوس (الذي حلم دوماً بأن يكون قيصر) على عرش الإمبراطور. بالتأكيد فـ بيسوا لم يؤمن بهذه الرؤية بأي شكل حرفي، ولكنه آمن بها شعرياً ومجازياً، وراهن بحياته واسمه الشعري عليها. بالنسبة له وبداخله -في عالمه المكون من الشخصيات المستعارة- فقد وُجِدَت النهضة الجديدة، والإمبراطورية الخامسة، والوثنية الجديدة. ووفقاً لهذا التاريخ الأدبي لبرتغال القرن العشرين، فالشاعر العظيم (العظيم بقدر –إن لم يتجاوز– كامويش) ولد في الحقيقة عام 1888.
جوهر مثال بيسوا الوطني، ووسائل إدراكه، يتم التعبير عنه في فقرة من “كتاب اللاطمأنينة” نشرت في إحدى المجلات عام 1931:

«ليست لدي مشاعر اجتماعية أو سياسية، إلا أنه بطريقة ما فأنا وطني بشكل كبير. وطني هو اللغة البرتغالية. لن يزعجني على الإطلاق إن غُزِيَت البرتغال أو احتلت، طالما ظللت أنا في سلام. ولكنني أكره بشكل كبير -بالكراهية الوحيدة التي أشعر بها- ليس هؤلاء الذين يكتبون برتغالية سيئة…، ولكن الصفحة المكتوبة سيئاً ذاتها…»

“كتاب اللاطمأنينة” منسوب إلى برناردو سواريس؛ المحاسب الذي اعتبره بيسوا «نصف شخصية مستعارة»، شخصيته مشابهة وإن لم تكن مطابقة لشخصيته. بيسوا -الذي يكتب باسمه- لم يكن ليقول أبداً أنه لا يملك مشاعر سياسية؛ ولكن بالنسبة له كما بالنسبة لـ سواريس، فالصفحة المكتوبة جيداً كانت شغفه، والصفحة المكتوبة جيداً بالبرتغالية كانت وطنه، وقوميته. بيسوا في الحقيقة كان مرتبطاً بشكل مباشر بالمجتمع وبالسياسة في أيامه، ولكن كان يتخذ مواقفه عن طريق الكلمة المكتوبة تلك التي تضمنت في العام الأخيرة من حياته -1935- هجوماً مباشراً على نظام سالازار[8]، عندما مرر قانوناً يحظر المجتمعات السرية كالماسونيين الأحرار.
أما عن حياة بيسوا الشخصية؟ علاقاته الأسرية؟ قصص حبه؟ فقد حافظ بيسوا على روابط قوية بأقاربه، هو الذي عاش وهو شاب مع عدة خالات (عندما لم يكن يعيش في الغرف المستأجرة)، ومع أمه وأخته غير الشقيقة بعدما عادا من جنوب أفريقيا عام 1920، هذا الذي تلي وفاة زوج أم بيسوا. وقد كان بيسوا وفياً لأصدقائه، وهم غالباً ذوو توجهات أدبية، هؤلاء الذين كان يقابلهم بانتظام في مقاهي لشبونة. ولكن بيسوا ظل متحفظاً تماماً تجاه أصدقائه وعائلته. كان محاوراً جيداً، سريع البديهة، وكريماً بطريقته، ولكن حياته ومشاعره الداخلية انتقلت إلى كتاباته. كانت لديه علاقة رومانسية قوية واحدة، والتي كانت إلى حد كبير مسألة كتابة أيضاً: مجموعة من خطابات الحب المتبادلة عام 1920 ثم عام 1929. لعب بيسوا، خاصة في المرحلة الثانية من العلاقة، لعبة أدبية سامية بطريقة ما، موقعاً أحد خطاباته باسم آلفارو دي كامبوس، بينما زعم في الخطابات الأخرى أنه سيجن. قالت الحبيبة أوفيليا كيروس عندما أصبحت أكبر أن بيسوا الذي قابلته في المكتب الذي كانا يعملان فيه سوياً صرح بحبه لأول مرة حاملاً شمعة في يده ومستعيراً كلمات من “هاملت”: «عزيزتي أوفيليا، أنا ضعيف في الأرقام؛ ليس لديّ المهارة لأعد الأنّات: ولكنني أحبك كثيراً، كثيراً جداً، ثقي بذلك». هل كان اسمها هو ما حث بيسوا المفرط في الأدب والمتلاعب دوماً ليغازلها من الأصل.
عندما كان صبياً صغيراً، كان الأدب هو ملعب بيسوا، وهو لم يتركه أبداً. ومثله مثل الكثير من الفنانين، وأكثر منهم، فقد رفض فرناندو بيسوا أن يكبر. ظل يعيش في عالم التخيل. أو هل يمكن أن نسميه عالم التأدب؟ الإيمان، الإيمان الخالص كان يضجر بيسوا. هو استخدم مخيلته الخصبة ليصنع أشياء غزيرة التعبير – قصائده الرائعة، نثره الحاذق، ووطنه الممتلئ بالشخصيات المستعارة؛ الذي كان عمله الشعري الأعظم.

المؤلف: ريتشارد زينيث (1956) كاتب ومترجم أمريكي-برتغالي ومترجم بيسوا الأبرز للغة الإنجليزية

الهوامش:
[1] Algarve بجنوب البرتغال.
[2] Troubadour مغنون وعازفون انتشروا في البرتغال وأسبانيا في العصر الوسيط.
[3] Teixeira de Pascoaes شاعر برتغالي
[4] Song to myself إحدى قصائد ديوان “أوراق العشب” لوالت ويتمان.
[5] Vorticism الحركة الحداثية التي ظهرت في القرن العشرين وكان أحد أقطابها الشاعر الأمريكي عزرا باوند.
[6] Luís de Camões (1524-1580) الشاعر الشهير بأنه الأعظم في تاريخ البرتغال؛ عمله الأبرز هو “اللوزياد” الذي يعارض أعمال الشاعر اليوناني هوميروس.
[7] الإمبراطورية الخامسة أو المملكة الخامسة هي مملكة ذكرها دانيال في تفسير لحلم نبوخذ نصر، وهي تتلو أربع ممالك من ذهب وحديد ونحاس تتجاوز وتنتصر على كل الممالك السابقة وتثبت للأبد، استخدم بيسوا هذه الفكرة للتعبير عن فكرته عن الإمبراطورية البرتغالية.
[8] António de Oliveira Salazar (1889-1970) رئيس الوزراء البرتغالي في الفترة من 1932 إلى 1968.

المرجع: مولد أمة؛ مقدمة ترجمة ريتشارد زينيث للأعمال المختارة لفرناندو بيسوا؛ كتاب “أكبر قليلاً من العالم بأسره”– 2006

صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت

كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى