صفحات الرأي

مئوية الحرب الكبرى ونظامها ونظامنا القديم/ وسام سعادة

 

بعد زوال يوغوسلافيا وانتهاء الحروب التي أنتجت أو نتجت من هذا الزوال، لم يعد هناك سوى مشرقنا العربي كإقليم رازح تحت تداعيات الحرب العالمية الأولى التي انفجرت قبل مئة عام، دون أن يفلح في الفكاك عن هذه التداعيات لا باتجاه إحياء رابطة امبراطورية من زمن مضى، ولا باتجاه ارساء كيانات وطنية متصالحة مع نفسها في المقام الأول. احياء ذكرى الحرب الكبرى يأخذ حيّزاً نوعياً من العناية البحثية والنقاشات المثارة على امتداد القارة الأوروبية، خصوصاً بعد ما أثاره كتاب المؤرخ الاوسترالي كريستوفر كلارك عن «السائرين المغمضين» في طريقهم نحو الحرب، الجامع بين متانة السرد والتسخير الواسع لأرشيفات متباينة وبين تصميم يكاد يكون مسبقاً لتبرئة الامبراطوريتين الالمانية والنمساوية المجرية من المسؤولية في اشعال فتيل الحريق الأوروبي، في مقابل تحميل المسؤولية للغلو القومي وثقافة الاغتيال السياسي عند الصرب. ويأتي ذلك في وقت تواجه فيه النمسا لأول مرة بهذا الوضوح بمسؤوليتها عن جرائم حرب مروّعة في القسم الأوكراني من امبراطوريتها (غاليسيا الشرقية) وفي صربيا، في مقابل من يطلق العنان لنوستالجيا الفسيفساء الاثنية المتعددة في ظل آل هابسبورغ، والفجوة التي تركها زوال الامبراطورية.

أما أطروحة سين ماكميكين عن التخطيط الروسي ودوره في التسبب بالحرب، وقراءته لها كحرب وراثة الامبراطورية العثمانية في المقام الأول فلا يزال ينقسم أهل البحث والتأريخ حولها، في حين يفرض فلاديمير بوتين محدّدات السردية الرسمية الجديدة الجامعة بين ما تعلّمه من الكسندر سولجنتسين وبين ما يحتاجه من وصل لقياصرة آل رومانوف بعظمة جوزف ستالين، بحيث ترسي هذه السردية على الزعم بأن روسيا كانت في طريقها لجني ما جناه المنتصرون الآخرون على المانيا في نهايات الحرب، لولا خيانة البلاشفة الذين فرطوا بالأرض والمجد الامبراطوريين من اجل الوصول الى السلطة، الى ان عوّض جوزف ستالين لوحده، دون البلاشفة الخونة الآخرين، بقيادته الاتحاد السوفياتي الى النصر على المانيا الهتلرية. وانه لمدعاة تأمل ما يقوله في هذا المجال وزير الثقافة الروسي فلاديمير مدينسكي من ان الروس اليوم يجمعون على نظرتهم هذه للحرب العالمية الاولى، فيما هم ينقسمون حول الحرب العالمية الثانية!

واذا كان لكل من هذه المحاور وغيرها فضاء علمي أكاديمي وآخر مسيّس وايديولوجيّ وتوظيفي اختزالي محتدم، مرتبط بالذاكرة وبالحاضر وبالمستقبل في آن، فان المشرق العربي الذي دخل بنتيجة خسارة السلطنة وحلفائها للحرب في دور «ما بعد عثماني» لم ينجح بعد في تجاوز هذا الدور لا في ظلّ الاستعمار ولا في ظل الاستقلال الوطني ولا في ظلّ الانهيار الكبير الذي نعيشه سواء في العراق أو في بلاد الشام. الحرب العالمية الأولى لا تزال هنا ولا نزال نعيشها «أهلية بمحلية»، كحروب أهلية، ما دمنا نرزح في قيد المعادلة نفسها: المكابرة. المكابرة على ان هزيمة السلطنة كانت هزيمة حضارية للترك كما للعرب، المكابرة على ان المشترك العثماني يستمر بأشكال أخرى رغم الافتراق في التعاطي بين الترك والعرب مع هذا الارث، بقيام الدولة الأمة التركية، وبعدم توفر ما يلزم موضوعياً أو ارادياً لقيامها في المشرق العربي وبشكل أساسي بسبب السيطرة الاستعمارية عليه، وبسبب صراعاتنا بعد انقضاء هذه السيطرة لاستيحاء آلياتها ضد بعضنا البعض.

مئة عام على عملية اغتيال الدوق فرنسوا فردينان ولي عهد النمسا في سراييفو على يد مجموعة «البوسنة الجديدة» التي كانت تحلم بدولة متعددة اثنياً لسلاف البلقان، لكن الموجّهة من مجموعة «اليد السوداء» المرتبطة بالمخابرات الصربية والتي كانت تسعى لقيام صربيا الكبرى الصافية اثنياً. مئة عام على انطلاق مسلسل الأحداث الذي سيدفع بعد ذلك بمدة وجيزة الى دخول بلادنا العثمانية في الحرب الى جانب المانيا والنمسا. لم نخرج من أشباح هذه الحرب في بلادنا العثمانية بعد، وبالذات في المشرق العربي، كون أي من كيانات المشرق بعد زوال السلطنة لم تفلح في أن تتخذ لها قواماً وطنياً قابلاً للعيش والاستدامة. ورغم ذلك يكاد احياء ذكرى الحرب لا يعني احداً في هذا المشرق، هذه الحرب التي هي في جانب اساسي منها حرب الاوروبيين فيما بينهم، لكنها في جانب لا يقل اساسية، واستنادا الى ابحاث سين ماكميكين، حرب وراثة السلطنة العثمانية.

وفي زحمة الاشكالات المتجددة حول الحرب الكبرى وأسبابها، يبقى لما طرحه المؤرخ الاميركي ارنو مايير قبل اكثر من ثلاثين عاماً بهاءه التأريخي والنظري: ففي كتابه عن «استمرار النظام القديم في اوروبا – من 1848 الى الحرب الكبرى» يربط مايير بين الحربين العالميتين في وحدة «حرب الثلاثين عاماً الجديدة». وهو اذا يعود للعقود السابقة على هذا الحريق، يدرس كيف استعاد النظام القديم في اوروبا، والمتشكل من الطبقات الاريستوقراطية والضباط من اصول نبيلة، و المستند الى الملكيات الاقطاعية الكبيرة والى الكنيسة، دوره وقوته في اوروبا، ذلك ان الثورات الفرنسية لم تتمكن منه، بل انه تمكّن منها، وصولاً الى الدفع باتجاه الحرب، هذه الحرب الكبرى التي سوف تكون، والتي تلتها، مقبرة للنظام القديم.

نظرية مايير لها تبعات فريدة: فبهذا الشكل لا تعود الحرب الكبرى هي التعبير عن تعاظم غير مدروس للرأسمالية الصناعية، ولا بسبب التزاحم على تطبيق فكرة التقدم. بالعكس تماماً، هي تعبّر بالنسبة الى مايير عن انحطاط وسقوط النظام القديم وخارطة العائلات الاريستوقراطية «المتزمتة» و»المعسكرة» على امتداد القارة، التي كانت تبحث عن مشروعيتها باسم قيم الاستمرارية، والاستقرار، والتطور الهادئ والمحافظ بدلاً من الايديولوجيات التقدمية.

بالنسبة الى ارنو مايير يمثل الارشيدوق فرنسوا فردينان الذي اغتاله غابرييلو برنسيب ورفاقه في البوسنة يوم 28 يونيو/حزيران 1914 أسوأ ما في هذا النظام القديم، حيث تجتمع شرائط معاداة التحرر القومي للشعوب ومعاداة الديموقراطية ومعاداة الاشتراكية ومعاداة الرأسمالية ومعاداة السامية ومعاداة السلافية، كما انه كان يرمز في حال وراثته لعرش ال هابسبورغ لصعود العسكريتاريا. بهذا المعنى سيكون اغتيال الارشيدوق مفجراً لثورة وثورة مضادة في آن: الحرب الكبرى التي هرولت اوروبا القديمة لها بكل حماسة، والتي قوّضت النظام القديم فيها، ولو ان ارنو مايير يتوسع في نظريته ليقول بأن بقايا النظام القديم سرعان ما شكّلت غطاء «الثورة المحافظة» التي سمح بنمو الفاشية والنازية بعد الحرب.

هذه القراءة «الثورية» للحرب العالمية الأولى تعطينا كعرب في هذا المشرق، أفقاً للتفكير بشيء أساسي: كل «نظام قديم» له ديناميات تجدّد ومكابرة حيوية لا تخطر على بال، وليست مجرد «حشرجة» و«فلولية»، وهذا التجدد لقوى النظام القديم هو في الوقت نفسه نمط انسحابها العميق من الوجود، ليس من دون حرائق هائلة.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى