صفحات الرأي

مئويّة رولان بارث… مات الـمؤلف، عاش النص

 

 

انتخاب وترجمة رشيد وحتي

ليس ثمة أهون من وضع مختصرٍ لسيرة رولان بارث (1915 ـــ 1980)، على الـمستوى الشخصي: الـميلاد في 12.11.1915، الوفاة في 1980 من آثار حادثة سير: صدمه بشاحنة نقل صغيرة وهو ذاهبٌ إلى «الكوليج دو فرانس»؛ وبين التاريخين مسار أكاديمي وكتابي حافل بابتكار مفاهيم وقراءة نصية تراوحت بين البنيوي والـماركسي والإيقوني إلى الأسطوري.

لذلك فضّلنا في هذا الـملف أن يقدم بارث نفسه بنفسه من خلال مجتزءات من كتابه «رولان بارث بقلمه» (1975)، تترجم عربياً للمرة الأولى. ميزة هذا النص أنه يقدم سيرة ذهنية للكاتب، ولكن بضمير الغائب، وفق خيار أسلوبي نصّ عليه الـمؤلف منذ عتبة الكتاب، مكرساً مفهومه حول «موت الـمؤلف»: «ينبغي اعتبار هذا كما لو قالته شخصيّةٌ روائيّةٌ». يتمفصل الكتاب في شكل فقرات صغيرة معنونة يبدو فيها بارث جسداً يفكر أكثر من كونه حضوراً بيولوجياً/اجتماعياً. باقي النصوص مجتزأة من مؤلفاته الأخرى في محاولة لتقديم باقي الـمفاهيم التي تشكل آلية اشتغال الـممارسة النقدية البارثية، مع الإشارة إلى أن نشاط الـمؤلف كان دوماً يتميز بازدواجية النقد والإبداع، حتّى أمكن القول إنّ عبارته التالية تنطبق على كل مؤلفاته: «كلّ نصٍّ ينطلق كروايةٍ، كلّ نصٍّ طيف روايةٍ». لنقرأ بارث، إذا، نتفاً من نقد الرواية، نتفًا من رواية النقد.

— الـمترجم —

 

  1. صوب الكتابة

 

الأشجار أبجديّاتٌ، كما كان يقول الإغريق. من بين كلّ الأشجار-الحروف، النّخلة أجملها. من الكتابة، بغزارتها وفرادتها كرشق سعفها، يتملّك مفعولها الأهمّ: أسّ القوس.

 

  1. معاصرٌ لم؟

 

ماركس: «وكما أنّ الشّعوب القديمة عاشت ما قبل تاريخها في الخيال، ففي الأسطوريّات عشنا، نحن الألمان، ما بعد تاريخنا في الفلسفة فكرًا. نحن معاصرون فلسفيّون للحاضر.» بنفس الطّريقة، لست إلّا المعاصر الخياليّ لحاضري: معاصرٌ للغاته، طوباويّاته، أنساقه [أي: متخيّلاته]؛ باختصارٍ، معاصرٌ لميثولوجياه أو فلسفته، لا لتاريخه، الّذي لا أقيم إلّا في انعكاسه الرّاقص: الخارق.

 

  1. النّزوع نحو التّشطير

 

نزوعٌ نحو التّشطير: النّتف، المنمنمات، الأطواق، التّدقيقات اللّامعة [كمفعول الحشيشة وفق أقوال بودلير]، مناظر الحقول، النّوافذ، الهايكو، ضربة الفرشاة، الكتابة، الشّذرة، الفوتوغراف، خشبة المسرح على الطّريقة الإيطاليّة؛ باختصارٍ، انتقائيًّا، كلّ ما يتمفصل لدى عالم الدّلالات أو كلّ عدّة الفيتيشيّ. لقد رسّم هذا النّزوع تقدّميًّا: فنّ المقولات الصّاعدة يشتغل عبر التّأطيرات [برشت، ديدرو، أيزنشتاين].

 

  1. فوريي أم فلوبير

 

من الأهم، تاريخياً: فوريي أم فلوبير. ليس ثمّة، في أعمال فوريي، إن شئنا القول، أيّ أثرٍ مباشرٍ للتّاريخ، الّذي كان مضطربًا برغم ذلك، معاصرًا له. أمّا فلوبير، فقد حكى طوال روايةٍ أحداث 1848. هذا لا يمنع فوريي من أن يكون أهمّ من فلوبير: فقد عبّر مباشرةً عن رغبة التّاريخ، ولهذا بالذّات يعتبر، في الوقت نفسه، مؤرّخًا وحديثًا: مؤرّخ رغبةٍ.

 

  1. دائرة الشّذرات

 

الكتابة شذريًّا: الشّذرات إذن أحجارٌ على محيط الدّائرة: أتمدّد دائريًّا: كلّ عالمي الصّغير فتاتٌ؛ وماذا في المركز؟

نصّه الأوّل أو تقريبًا كذلك [1942] كان في هيأة شذراتٍ؛ وهو خيارٌ مبرّرٌ على طريقة أندري جيد «لأنّ التّنافر أفضل من نظامٍ يشوّه». مذّاك، في الحقيقة، لم يتخلّ عن ممارسة الكتابة الوجيزة: لويحات أسطوريّاتٌ وإمبراطوريّة العلامات، مقالات وتقديمات دراساتٌ نقديّةٌ، الوحدات التّحليليّة في س/ز، الفقرات المعنونة في ميشلي، شذرات ساد II ولذّة النّصّ.

 

  1. الشّذرة كوهمٍ

 

أعيش في وهم الظّنّ أنّي، عندما أشظّي خطابي، أكفّ عن إنتاج خطابٍ متخيّلٍ حول ذاتي؛ أحدّ من مخاطر التّعالي؛ لكن بما أنّ الشّذرة [الهايكو، الحكميّات، الخاطرة، نتفة يوميّاتٍ] نوعٌ بلاغيٌّ نهائيًّا، وبما أنّ البلاغة هي هاته الطّبقة من اللّغة الّتي تنوهب أحسن من غيرها للتّأويل، فبظنّي أنّني أنتثر، لا أقوم إلّا بالعودة لمهد الخيال بحكمةٍ.

 

  1. الجملة

 

الجملة مدانةٌ باعتبارها موضوعًا أيديولوجيًّا ومنتوجةً كمتعةٍ [فهي جوهرٌ مختزلٌ للشّذرة]. بوسعنا، إذن، إمّا أن نتّهم الذّات بالتّناقض، أو تستخلص من هذا التّناقض دهشةً، بالأحرى صحوةً نقديّةً: وماذا — على سبيل مفسدةٍ ثانيةٍ — لو كانت ثمّة متعةٌ أيديولوجيّة؟

 

  1. الأداة الثّاقبة

 

برنامج حركةٍ طليعيّةٍ: «انحرف العالم، بكلّ تأكيدٍ، عن مساره، وحدها حركاتٌ عنفيّةٌ تستطيع لمّ كلٍّ شيءٍ من جديدٍ. لكن، من بين الأدوات الّتي تخدم هذا الغرض، قد يكون ثمّة واحدٌ صغيرٌ، هشٌّ، يعلن أنّه يستعمل بخفّةٍ». [برشت، اقتناء النّحاس.]

 

  1. الرّضا

 

كلّ الشّعر والموسيقى [الرّومانسيّين] يتجلّيان في هذه البغية: أحبّك! لكنّ الجواب المبتهج، إن جاء من خلال معجزةٍ، كيف سيكون؟ — هاينريش هاينه: أنا أغرق، أهوي، أبكي بمرارةٍ.

[كلمة الحبّ تشتغل: كحدادٍ].

 

  1. أبو نواسٍ والاستعارة

 

ليست الرّغبة ذات موضوعٍ. عندما تنظر إحدى القيان لأبي نواسٍ، فهو يقرأ في عينيها لا الرّغبة في الدّنانير، لكن الرّغبة فحسب — ليتأثّر لذلك. فلتكن هذه أمثولةً لكلّ علمٍ يدرس تغيّر الحال: ما همّت الحاسّة الهائمة، ما همّ حدّا المسير: وحده يهمّ — ويؤسّس الاستعارة — الهيام بذاته.

 

  1. اللّون

 

يراد للرّأي السّائد حول الحياة الجنسيّة أن تكون دومًا عدوانيّةً. وبالتّالي، فإنّ فكرة حياةٍ جنسيّةٍ سعيدةٍ، رقيقةٍ، حسّيّةٍ، بهيجةٍ، لا وجود لها في أيّة كتابةٍ. أين لنا، إذن، أن تقرأها؟ في الفنّ التّشكيليّ، أو أدقّ: في اللّون. لو كنت فنّانًا تشكيليًّا، لرسمت ألوانًا فحسب: يبدو لي هذا الحقل متحرّرًا بالتّساوي من القانون [لا محاكاة، لا تماثل] ومن الطّبيعة [أو لا تجد كلّ ألوان الطّبيعة مصدرها في الفنّانين التّشكيليّين؟].

 

  1. قردٌ وسط القردة

 

أكوسطا، نبيلٌ برتغاليٌّ من أصولٍ يهوديّةٍ، منفيٌّ إلى أمستردام؛ ينتسب للكنيس؛ ثمّ ينتقده؛ فيطوله حرم الحاخامات؛ كان عليه، منطقيًّا، إذن، أن ينفصل عن القربان العبرانيّ، لكنّه بلغ خلاصةً مغايرةً: « لماذا عليّ أن أبقى بعنادٍ منفصلًا عنه طوال حياتي وبهذا القدر من الضّيق، أنا المتواجد في بلدٍ غريبٍ لا أفقه شيئًا من لغته؟ أليس أحسن أن أكون قردًا بين القردة» [پيير بايل، قاموسٌ تاريخيٌّ ونقديٌّ].

عندما لا يكون رهن إشارتك ولو لسانٌ واحدٌ معروفٌ، عليك بإلحاحٍ أن تقرّر انتهاب لغةٍ — كما كانت تنتهب فيما مضى كسرة خبزٍ. [كلّ الّذين يوجدون خارج السّلطة — وما أكثر جحافلهم — مرغمون على انتهاب لغةٍ.]

 

  1. كتابة الجسد

 

لا الإهاب، لا العضلات، لا العظام، لا العصب، ولكن ما تبقّى: الهوّ الخشن، اللّيفيّ، الزّغبيّ الملمس، المنكوت النّسيج، لباس البهلوان الفضفاض.

 

  1. الوحدات السّيرذاتيّة [biographèmes]

 

إن توجّب، عبر جدليّةٍ مخاتلةٍ، أن يكون في النّصّ — مخرّب كلّ ذاتٍ — ذاتٌ ينبغي الوقوع في حبّها، فإنّها ذاتٌ مبعثرةٌ، فيما يشبه قليلًا الرّماد الّذي تذرّيه الرّياح بعد الموت [إزاء موضوعتي حقّ الرّماد والمسلّة التّذكاريّة، باعتبارهما جسمين قويّين، مغلقين، معلمين للقدر، يمكننا وضع شظايا الذّكرى، التّآكل الّذي لا يترك من الحياة الماضية إلّا بضعة ثنياتٍ]: لو كنت كاتبًا وميّتًا، كم سأحبّ أن تختزل حياتي، بعناية كاتب سيرةٍ ودودٍ ومرحٍ، في بضع أذواقٍ، بضع نزوعاتٍ، لنقل بعض «وحداتٍ سيرذاتيّةٍ»، الّتي سيكون لفرادتها وحركيّتها أن تسافر خارج كلّ قدرٍ وأن تأتي لتلامس، على طريقة ذرّات أبيقور، جسدًا مستقبليًّا ما، منذورًا لنفس البعثرة؛ حياةٌ مثقوبةٌ، في مجملها، مثلما أدرك پروست كيف يكتب حياته في مؤلّفاته.

 

  1. فاشيّة اللّسان

 

اللّسان، كمنجزٍ لكل لغةٍ، ليس بالرّجعيّ ولا بالتّقدّميّ؛ إنّه بكلّ بساطةٍ: فاشيٌّ؛ لأنّ الفاشيّة لا تتجلّى في منعنا من القول، بل في إكراهنا عليه.

ما إن ينطق بلسانٍ، حتّى خلال أعمق حميميّات الذّات، حتّى يصير في خدمة سلطةٍ ما.

 

  1. أن تتنسّك

 

التّنسّك: سواءٌ لأنّها تشعر بالذّنب تجاه المحبوب، أو لأنّها تريد إثارته بتمثّلك لشقائك، فإنّ الذّات العاشقة تشرع في سلوكٍ متنسّكٍ يتوخّى عقابًا ذاتيًّا [أسلوب العيش، الملبس، إلخ.].

أ. بم أنّني مذنبٌ لهذا، لذاك [لي، أعطي لنفسي، ألف سببٍ لأكون كذلك]، سأعاقب نفسي، أعطب جسدي: أقصّ شعري بحيث يصير قصيرًا جدًّا، أحجب نظرتي خلف نظّاراتٍ سوداء [على طريقة ولوج دير الرّاهبات]، أتعاطى لدراسة علمٍ جدّيٍّ ومجرّدٍ. سأستيقظ باكرًا لأشتغل في أطراف اللّيل، مثل راهبٍ. سأكون في غاية الجلد، حزينًا شيئًا ما، في كلمةٍ واحدةٍ: وقورًا،كما يجدر بشخصٍ فعل به الوجد فعلته. سأعلن هستيريًّا عن حدادي [حدادٍ أفترضه]، في ملبسي، في قصّة شعري، في انضباط عاداتي. سيكون الأمر عزلةً هادئةً؛ بالكاد هذا النّزر القليل من العزلة الضّروريّ لحسن اشتغال شفقةٍ متكتّمةٍ.

ب. التّنسّك [الإقبال على التّنسّك] يخاطب الآخر: استدر، انظر إليّ، شاهد ما تفعله بي. إنّه ابتزازٌ: أنا أبرز أمام الآخر صورة غيابي الخاصّ، مثلما ستحدث، إن لم يذعن [لم؟].

 

  1. ما الكتابة؟

 

كلّ شكلٍ قيمةٌ أيضًا؛ لذلك فإنّ لما بين اللّسان والأسلوب، مكانًا لواقعٍ شكليٍّ آخر: الكتابة. في كلّ شكلٍ أدبيٍّ، كيفما كان، ثمّة اختيّارٌ عامٌّ لنغمٍ، لطابعٍ إن شئنا القول، وهنا بالضّبط يتفرّد الكاتب بجلاءٍ، إذ هنا يلتزم. اللّسان والأسلوب معطيان سابقان لكلّ إشكاليّة اللّغة، فاللّسان والأسلوب نتاجٌ طبيعيٌّ للزّمان وللشّخص البايولوجيّ؛ لكنّ الهويّة الشّكليّة للكاتب تتحدّد حقًّا خارج تأسيس معايير النّحو وثوابت الأسلوب [..]اللّسان والأسلوب قوّتان عمياوان: الكتابة فعل تضامنٍ تاريخيٍّ. اللّسان والأسلوب موضوعان؛ الكتابة وظيفةٌ.

 

  1. لذّة النّصّ

 

على النّصّ الّذي تكتبه أن يعطيني الدّليل على أنّه يرغب فيّ. لهذا الدّليل وجودٌ: إنّه الكتابة. تتمثّل الكتابة في هذا: علم المتع اللّغويّة، كاماسوتراها [لهذا العلم سندٌ وحيدٌ: الكتابة ذاتها].

 

  1. أيروتيكيّة البين بين

 

أليست أكثر المناطق أيروتيكيّةً في الجسد هي تلك حيث ينفرج الملبس؟ في الفسق [وهو طبع اللّذّة النّصّيّة] ليست ثمّة «مناطق تهتاج أيروتيكيًّا» [العبارة في أصلها مًزعجةٌ]؛ ففي التّقطّع، كما يقول التّحليل النّفسيّ بذلك، تتحقّق الأيروتيكا: تقطّع الإهاب اللّألاء بين قطعتي ملبسٍ [البنطال والصّداريّ]، بين الحوافّ [الفستان المفتوح، القفّاز والكمّ]؛ فهاته اللّألأة هي ما يفتنني، أو أكثر: الإخراج المشهديّ لبروزٍ-اختفاءٍ.

 

  1. كتّابٌ وكتبةٌ

 

يقوم الكتّاب بوظيفةٍ، في حين أنّ الكتبة يزاولون نشاطًا [..] ليس لأنّ الكتّاب جوهرٌ خالصٌ: إنّهم يفعلون، لكنّ فعلهم محايثٌ لموضوعها، تمارس مفارقةً على أداتها بعينها: اللّغة؛ الكاتب هو من يشتغل على كلامه [حتّى ولو كان ملهمًا] وينهمك وظيفيًّا في هذا الشّغل. نشاط الكتبة يحوي نوعين من المعايير: معايير تقنيّةً [تخصّ النّظم، النّوع، الكتابة] ومعايير حرفيّةً [تخصّ العناء، الجلد، التّصويب، الكمال].

 

  1. عابراتٌ

 

سوق مرّاكش: ورودٌ قرويّةٌ في أكوام النّعناع.

*

مزارعٌ هرمٌ بجلّابيّةٍ [بلون الخرق العميق] يحمل في هيأة حمّالةٍ على الكتف جديلةً ضخمةً من حبّات البصل الكبيرة ذات اللّون الورديّ النّحاس.

*

نزل نادل الخمّارة، في إحدى الـمحطّات، ليقطف زهرة إبرة الرّاعي الحمراء، وضعها في كأس ماءٍ، بين عصّارة البنّ والخزنة القذرة حيث أهمل فناجين ومحرماتٍ متّسخةً.

 

  1. الهايكو وانتهاك المعنى

 

للهايكو تلك الخاصّيّة الإيهاميّة بعض الشّيء، وهي أنّنا نتخيّل دوماً قدرتنا على صناعة بعضها بأنفسنا وبكلّ سهولةٍ. نقول في دخيلتنا: وهل ثمّة ما هو أسهل منالًا من كتابةٍ عفويّةٍ كهذا [لبوسون]: «إنّه المساء، الخريف، أفكّر فقط في والديّ». الهايكو مثيرٌ للرّغبات: فكم من القرّاء الغربيّين لم يحلموا بالتّنزّه في الحياة، متناولين كرّاسةً في اليد، مدوّنين هنا وهناك بعض «الانطباعات»، والّتي قد تضمن وجازتها كمالها، والّتي قد تقرّ بساطتها عمقها [بمقتضى أسطورةٍ مزدوجةٍ؛ لها شقٌّ كلاسيكيٌّ، يجعل من الاقتضاب دليلًا على القيمة الفنّيّة؛ وشقٌّ رومانتيكيٌّ، يعطي قسطاً من الصّدق للارتجال]. مع كونه جليًّا، لا يسعى الهايكو لقول شيءٍ، وبهذا الشّرط المزدوج يبدو موهوباً للمعنى، بطريقةٍ جاهزةٍ بصورةٍ خاصّةٍ، بطريقةٍ خدومةٍ، على شاكلة مضيفٍ مهذّبٍ يسمح لنا بالإقامة لديه على الرّحب والسّعة؛ متصرّفين حسب أهوائنا، وقيمنا ورموزنا؛ «غياب» الهايكو [مثلما نتحدّث عن روحٍ خياليّةٍ أو عن ملّاكٍ على سفرٍ] يستدعي الإغواء، الانتهاك، في كلمةٍ، الاشتهاء الأكبر، اشتهاء المعنى. هذا المعنى الثّمين، الحيويّ، المرغوب فيه كالنّصيب [حظًّا ومالًا]، يبدو أنّ الهايكو – مخلّصاً من الإكراهات العروضيّة [في التّرجمات الّتي نتوفّر عليها] – يمنحنا إيّاه بوفرةٍ، رخيصاً وتحت الطّلب؛ كأنّ الرّمز، والاستعارة والعبرة في الهايكو لا تكلّف تقريباً شيئاً: بالكاد بعض كلماتٍ، صورةٌ، شعورٌ – ثمّة حيث تتطلّب آدابنا الغربيّة، في الأحوال العاديّة، قصيدةً، إسهاباً أو [في الأجناس الأدبيّة القصيرة] فكرةً منمّقةً، باختصارٍ صنعةً بلاغيّةً طويلةً. بالتّالي، يبدو أنّ الهايكو يمنح الغرب حقوقاً تمنعها عنه آدابه، وتسهيلاتٍ تساومه عليها. الهايكو يقول إنّ لنا حقًّا في أن نكون تافهين، موجزين، عاديّين؛ احصروا ما ترونه، ما تحسّون به في أفقٍ دقيقٍ من الكلمات، وستكونون مثيرين للاهتمام؛ لكم الحقّ في أن تستندوا بأنفسكم [وانطلاقاً من أنفسكم] لوجاهتكم الخاصّة بكم؛ ساعتها، وكيفما كانت جملتكم، فإنّها ستنطق بالعبرة، ستحرّر الرّمز، ستكونون عميقين؛ بتكاليف أقلّ، ستكون كتابتكم ممتلئةً.

 

مصادر النصوص:

 

1-13: رولان بارث بقلمه، 1975

14: ساد، فوريي، لويولا، 1971

15: درسٌ [افتتاحيٌّ]، 1977

16: شذراتٌ من خطابٍ عاشقٍ، 1977

17: درجة الصّفر في الكتابة، 1953

18-19: لذّة النّصّ، 1973

20: دراساتٌ نقديّةٌ، 1964

21: عابراتٌ، 1987

22: إمبراطوريّة العلامات، 1970

23: هسيس اللّغة، 1984

كلمات

في عزلته ومرضه… شيّد “إمبراطورية العلامات”/ جمال جبران

لو كانت العربة التي ضربت جسده قد أخطأت هدفها ليلة، لكان رولان بارت (1915 ـــ 1980) قد أكمل هذه السنة عامه المئة في الحياة. لقد استثمر الروائي الفرنسي لوران بيني (1972) تلك الحادثة ولعب عليها على نحو جيد لتخرج روايته «الوظيفة السابعة للغة» (دار غراسيه)، وفي مساحة أخرى من الغلاف، كُتبت عبارة «من قتل رولان بارت؟» (الأخبار 22/10/2015).

بعيداً عن الأفكار المجنونة الساخرة المكتوبة في قالب متين ولافت في شكل تناوله لنهاية صاحب «لذة النّص»، مُستنداً إلى واقعة حادث السيّارة التي ضربته لتُنهي حياته في 26 آذار (مارس) 1980، واعتبار الأمر جريمة قتل متعمّد لعالم السيميولوجيا الأشهر، يبقى الوقوف أولاً عند نقطة هامّة تتمثل في الطريقة الاستثنائية التي اختارها لوران بيني للاحتفاء بمئوية بارت عن طريق «رواية» استطاعت منذ صدورها اعتلاء لوائح الكتب الأكثر مبيعاً. هكذا استعاد الناس على نحو ما سيرة هذا العالِم الأبرز في «إمبراطورية العلامات». وثانياً، هناك فكرة أخرى في «الوظيفة السابعة للغة» تعتمد على أن بارت كان على وشك الإعلان عن اكتشاف يتمثل في نبرة لغوية ذات قدرة غير عادية على إقناع الآخرين بفعل أيّ شيء. بذلك، يحضر أهل السياسة هنا بوصفهم المستفيد الأكبر من اكتشاف كهذا يحملهم في رحلة الصعود إلى السلطة. ولنا أن نترك الافتراض الذي طرحته الرواية لنعود إلى أرض الواقع، متلمّسين صلب الاشتغالات اللغوية اللامعة التي كرّس بارت حياته من أجلها، مُهتماً بتقديم كتابة/ قراءة خاصة للنّص مختلفة تماماً عن القوالب المُتعارف عليها، ومُبتعداً بشكل نهائي عن القواعد التقليدية التي تحكمه.

لقد قام بارت في هذا السياق بطرح اقتراحات واسعة تخص أهمّية قراءة النّص أو الصورة على نحو ينقذهما من حالة الجمود والثبات التي أحاطت بهما في تعارض مع حتمية التغيّرات التي يفرضها الزمن ولا بد من الانصياع لقواعده، فـ«ما تنسخه الصورة إلى ما لا نهاية هو لم يحدث إلا مرة واحدة» («الغرفة المضيئة»، 1980) بمعنى أنّ حالة الثبات التي تحدث للصورة بعد التقاطها، لا تمنع من فعل قراءات عديدة لانهائية لها وكذلك النّص الأدبي.

قد تتطابق حالة عدم الثبات هنا مع حالة تنوع الأشكال الكتابية التي طرقها بارت لتصل أشكالاً لم يبلغها سواه خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو يتنقل بين النقد الأدبي ونقد الصورة الفوتوغرافية وعلم اللغة والسيميولوجيا والسيرة الذاتية. هذه الأخيرة يمكن ملاحظتها وقد أتت على نحو غير مألوف في زمنها، وصاحبها يقوم بوضع النّص على احتمال القراءة في سياق لا يفترض انتماء ذلك النّص لصاحبه والمكتوب اسمه على غلافه. يظهر «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975) مثالاً هنا وهو يحرص على وضع ملاحظة في مقدمته تؤكد أنّ على القارئ افتراض ما يقرأه منطوقاً عبر شخصية روائية ما تتكفل بحمل دور البطولة فيه. إنه سعي لمنع التطابق الذي يسري عادة حال قراءة «سير ذاتية»، وافتراض تطابق السارد والشخصية وكاتب النّص والعمل ومحاولة وضع حالة فصل يمكن من خلالها إخفاء كاتب السيرة ليبقى النّص وحده في مواجهة القارئ.

اتخذ صاحب «أساطير» (1957) مبدأ الوقوف ضد القراءة الثابتة ومحاولة وضع النّص في مساحة بعيدة تجرّده من سلطة المعنى الواحد أو من تلك السلطة الاستبدادية التي يمتلكها وصارت فرضاً أكاديمياً. لعل القراءة المُختلفة التي قدّمها بارت مُستخدماً تحليلاً نفسياً بنيوياً في «حول راسين» (1965) تثبت ذلك، وقد أعقبتها ردود قاسية من أصحاب السلطة الأكاديمية، جعلته يختار لاحقاً الخروج من عزلته التي كان يشتغل بداخلها والانضمام إلى جماعة «تيل كِل» التي كان من بينها فيليب سولرز. وقد اعتمدت هذه الجماعة فكرة المُغامرة أو المجازفة في تبني صيغ نقدية غير مألوفة للنّص والتعامل مع فعل الكتابة بوصفه متعةً تنطلق من الذات وليس من قواعد ثابتة لا يجوز المساس بها. سيكون النص هنا مطروحاً على هيئة مُغايرة حين الكتابة عنه، متجاوزاً الأسس الثابتة التي كان محكوماً بها قبلاً بمعنى التركيز على ما يقصده النّص قبل الاهتمام بماهية النّص نفسه. وكان بارت نفسه قد سبق هذه الجماعة بوقت طويل حين أنتج «الكتابة في درجة الصفر» (1953)، مُشيراً إلى أهمّية أن يذهب الأدب إلى شيء مختلف عن محتواه، وأن يبتعد عن كونه «قدراً مفروضاً» من خلال امتلاكه سلطة ثانية غير التي حُصر بداخلها، وأن يكون بالتالي قادراً على الإبهار، ولن يكون ذلك إلا بتحوّل الكتابة النهائي إلى «الغياب داخل هذه الكتابات المحايدة التي ندعوها: الكتابة في درجة الصفر».

وفي كل ما أنجزه بارت أو في مُعظمه، كان واضحاً ارتكازه على المحور الذاتي وجعل النّص تالياً في حالة مفتوحة من دون تحديد هوية الـ«أنا» المتحدثة خلاله. وقد كان هذا انعكاساً لحالة العزلة التي عاشها باكراً في صورة اليُتم المُبكر من جهة الأب. كما سيصاب لاحقاً بمرض السل الذي سيزيد من قسوة عزلته. هكذا، انشغل بالقراءة ولا شيء غيرها كأنّ «الحياة تتكون من تلك اللحظات الصغيرة من الشعور بالوحدة».

لن تكون حالة الموسوعية التي ستظهر في نتاجه لاحقاً إلا محصلة لكل ذلك. إضافة إلى كل هذا، هناك نظرة القلق والحذر من كل المُحيطين به. قد تكمن إيجابية هذه العادات التي اكتسبها في طريقة رؤيته وتحليله للأشياء التي تطرّق إليها كتابةً. كما ستبدو حالة القلق ظاهرة في طريقة الاشتغال نفسها التي تشير إلى حالة مختلفة من الكتابة تأتي على هيئة مقالات يتم تجميعها على نحو ما لتصبح كتباً. كأن حياته هنا عبارة عن «مقاطع» أو «شذرات» من هنا وهناك، متنقلاً بين مواضيع شتى ومحاولاً تعويض الوقت الذي مضى من عمره في المرض والعزلة.

هكذا يظهر بارت وهو ينطلق من ذاته ظاهرياً ليصنع كتابة مكونة من علامات عدة ومن عناصر الأشياء التي تحيط به ويتقاطع الناس معها بشكل يومي، بدءاً من إعلانات التلفزيون والموضة والأزياء والسلع الاستهلاكية وقوائم الطعام، وليس انتهاءً بالحزن الشخصي الذي يخصّه. إنه هنا يقتنص ذلك العنصر الخاص والشخصي ليجعله مفتوحاً على عموميته. في مبدأ أو طريقة تحليل الصورة مثلاً، نراه ينطلق من لحظة استذكار بسيطة عندما كان طفلاً، وقد رأى صورة الأخ الأصغر لنابليون، فقال في نفسه «إني أرى العيون التي رأت الإمبراطور» لتتكون بعدها حالة التشبث بالصورة ومحاولات نقدها كتابة وتحليلها من زوايا نظر مختلفة غير مألوفة. وكل هذا إنما أتى ــ وفق اعترافه ـــ في تقديم «الغرفة المُضيئة» وطريقته في تأمل الصورة، رافضاً تلك «الشروح الاجتماعية» الجاهزة لماهيّة الصورة، ما أوقعه في «حالة من عدم الراحة» التي خبرها بشكل يومي، فصار ذاتاً حائرة «بين لغتين: لغة تعبيرية وأخرى نقدية».

هكذا يبدو كأن حالة القلق المُسيطرة عليه دفعته للانتقال من دائرة نقدية إلى أخرى مُقيماً في «البنيوية» لفترة ما، قبل الانتقال إلى ما بعدها وحتى الوصول إلى نقطة النقد المفتوح على أشكال مختلفة في آن واحد، بحيث يصعب تصنيف كتابته أو تأطيرها على نحو محدد. قد يبدو هذا واضحاً على نحو جلي في عملية اختياره للعناوين التي كان يختار الكتابة حولها، ما يستحيل وضعها في خانة محددة مثل «إمبراطورية العلامات» (1970) الذي أتى إثر رحلة سفر إلى اليابان. الكتاب الذي يبدو في شكله الأولي كخواطر رحلة عابرة، هو في حقيقة الأمر اقتراح لقراءة هذا البلد على عكس الصورة التي تم تعميمها عنه.

على هذه الحالة، ظهرت حياة صاحب «شذرات من خطاب عاشق» (1977) الذي يكُمل عامه المئة هذه السنة، لكن وفاته لم تكن في 1980، بل في اليوم الذي رحلت فيه أمه في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1977، وفق ما ذهب إليه فيليب سولرز، أحد أقرب أصدقائه، إذ أكّد أن تلك الوفاة كانت «تحوّلاً حاسماً» في حياته. لكنّ القارئ لن يكتشف حقيقة العلاقة التي كانت تربط صاحب «الغرفة المضيئة» بأمه إلا بعد أن تنشر «دار سوي» كتاب «يوميات الحداد» (2009)، وكان بارت قد سجّل فيه ـــ ابتداء من اليوم التالي للوفاة ـــ يوميّات كان يكتبها على قطع ورقية صغيرة وسجّل في إحداها مُعترفاً «اليوم هو يوم وفاتي الحقيقية».

كلمات

العدد ٢٧٤١ السبت ١٤ تشرين الثاني ٢٠١٥

(ملحق كلمات) العدد ٢٧٤١ السبت ١٤ تشرين الثاني ٢٠١٥

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى