بكر صدقيصفحات مميزةعلي العائدياسين الحاج صالح

مابعد تل أبيض –مقالات وتحليلات-

تل أبيض وما بعدها…/ ياسين الحاج صالح

ليسا طرفين، عرباً وكرداً، هما من يتنازعان السيطرة على المناطق الشمالية في محافظة الرقة، المحاذية للحدود السورية التركية. خلافاً لما توحيه سجالات دائرة عربية كردية، ثمة بالأحرى ثلاثة أطراف، بل أربعة، بل خمسة. الطرف الثالث ذو التأثير الحاسم في سير الأمور في المنطقة هو الأميركيون. وهذا ليس فقط عبر ضربات جوية مركزة استهدفت بصورة متكررة في الأسابيع الأخيرة مقار لـ «داعش» في تل أبيض والمناطق المجاورة، ولكن خصوصاً ما يرجح حدوثه من تفاهمات سياسية غير معلومة بين الأميركيين والقوات الكردية المهاجمة على الأرض. لا يحتاج إلى نباهة خاصة تقدير أن هناك تنسيقاً بين المهاجمين بسلاح الطيران والمهاجمين على الأرض. مقابل ماذا؟ أي ثمن؟ أية وعود من الطرف القائد الأميركي للطرف الكردي؟ ليس معلوماً. لكن، يمكن أن يكون بينها خلق تواصل أرضي بين كانتوني عين العرب – كوباني والجزيرة، مناطق الكثافة الكردية في أقصى الشمال الشرقي السوري. هذا كلام يتواتر يومياً في أقوال وتعليقات ناشطين كرد، وليس تخميناً ذاتياً. وهو مضمن على كل حال في تصور «روجافا»، أي «كردستان الغربية». معلوم أن مناطق الأكثرية الكردية غرب حلب (عفرين) وشرقها (عين العرب – كوباني) ثم في محافظة الحسكة شرقاً مفصولة عن بعضها بمناطق أكثرية عربية. تصور روجافا يشرع لإنشاء كوريدور مفتوح بين هذه المناطق ويوجبه.

وتوحي وقائع متواترة على الأرض بأن الأمور تسير في هذا الاتجاه فعلاً. لا يلزم أن يكون هناك تهجير نسقي لسكان عرب من قراهم وبلداتهم (وقع شيء من ذلك في غير قرية، ونهبت أملاك وأهين سكان)، لكن فرض سيطرة عسكرية وسياسية على الأرض والتحكم بتحركات السكان يتجاوب مع هذا الطموح.

لكن، هل يضمن الأميركيون فعلاً مشروعاً كهذا، سيقتضي من كل بلد تطهيراً عرقياً ضد عرب المنطقة، يشرّع نفسه منذ الآن بتاريخ الحكم البعثي واضطهاده للكرد؟ هذا ليس مؤكداً. إذ قلما كان الأميركيون معنيين جدياً بضمان وعود قطعوها في ظروف خاصة لأية جماعة. حين تقع مذابح صغيرة أو كبيرة، وفرصُ وقوعها تزداد اليوم، قد يكتفي الأميركيون بالتبرؤ ونفض اليد: إنهم محليون يقتلون محليين! منهج الأميركيين في المنطقة منذ عقود هو منهج «إدارة الأزمات»، وهو منهج يغفل تماماً قضايا العدالة وحقوق السكان، وكان دوماً منبع أزمات أكبر من التي صمم لإدراتها.

الطرف الرابع المحتمل هو تركيا. اليوم تبدو السلطات التركية مرتبكة حيال الوضع الناشئ أخيراً على حدود البلد الجنوبية، وهذا بفعل الانتخابات الأخيرة التي قصّرت يد حكومة حزب العدالة والتنمية في حرية التصرف، وربما تؤول إلى خروجه من الحكم. تركيا لم تفعل شيئاً لضرب «داعش» أو النيل منها في المناطق الأقرب إلى حدودها، بل كان «الدواعش» يعالجون جرحاهم في مستشفيات جنوب البلد على نحو لا يمكن ألّا يكون معلوماً لسلطات أنقرة. والأصل المرجح لهذا المسلك الضال إلى أبعد حد أن تركيا تنظر إلى مناطق الحدود في منطقة الجزيرة السورية من زاوية إضعاف القوى الكردية، تماماً مثلما تنظر قوى معارضة تركية إلى الشأن السوري من منظور معارضتها لحكومة العدالة والتنمية.

كانت حكومة أردوعان صدرت إلى سورية المنهج التركي القديم في التعامل مع كرد تركيا، الحرب والإخضاع، فحرضت ودعمت مجموعات من مقاتلي «الجيش الحر» العرب ضد الكرد في 2012. وأسوأ ما في هذا المنهج السيئ أنه لم يعد معتمداً في تركيا نفسها، وأن سورية عوملت بالتالي كبيئة أدنى، كدار للحرب لا للسياسة. ويبدو اليوم أنه أياً تكن الحكومة التركية التي قد تتشكل في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة، فإن تركيا إما ستفاقم الأزمة الكبيرة، الدموية احتمالاً، التي تتجمع عناصرها في منطقة الجزيرة السورية، أو في أحسن حال، لن تكون مؤثرة فيها.

«حزب الشعوب الديموقراطي» الذي يعرض في تركيا وجهاً تركياً يعرض في سورية وجهاً كردياً. في حديثه إلى قناة حزب الله التلفزيونية حيّا صلاح الدين دميرطاش، زعيم الحزب، مقاومة «شعبنا» في «كوباني وروجا والمحمودية»، ولم يقل كلمة واحدة عن بشار الأسد وعن الاحتلال الإيراني، ولم يجد ما يقوله لمليوني سوري لاجئين في تركيا. وبينما سياسة الحزب في تركيا متمركزة اجتماعياً، تبدو حيال سورية متمركزة إثنياً. هنا أيضا يجري تصدير سياسة قديمة إلى سورية، سياسة الهوية، وليس السياسة الاجتماعية التحررية، وهو ما يضمر نظرة تمييزية وكولونيالية إلى البلد الجار. والأصل في التصدير هنا أيضاً أن تفكير الجماعة، والمعارضة التركية ككل، حيال سورية، متمحور حول معارضة سياسة الحزب الحاكم.

سورية نفسها غير مرئية. ويجد الجماعة أنفسهم اليوم لا يعرفون شيئاً تقريباً عن البلد الجار (طلبوا ممن يعرفون إعداد ورقة مختصرة تتضمن أساسيات الواقع السوري)، فيستبطنون المنظور الطبيعي لمن لا يعرف: منطق الهويات وسياستها. يفاقم ذلك أيضاً أن غير قليل من مقاتلي «وحدات حماية الشعب» وقادتها هم من كرد تركيا. هذا ظاهر لزوار عين العرب – كوباني، وأكده فهيم طاشتكين في مقالة له نشرت أخيراً في راديكال التركية (نشرت «الحياة» ترجمة عربية لها يوم 17 حزيران – يونيو الجاري)، تقول أن 500 كردي تركي قتلوا في سورية في القتال ضد داعش؟ لا بد من أن عدد المقاتلين الكلي أكبر بأضعاف كي يكون عدد الضحايا 500.

أما من طرف خامس؟ أين «داعش» نفسه؟ ليس مفاجئاً في تصوري الانهيار السهل لسلطة «داعش» في تل أبيض أو أي مكان. المنظمة الإرهابية قوية فقط في مواجهة سكان عزل أو مجموعات مقاتلة فوضوية وضعيفة التماسك، أكثر مما هي ضعيفة السلاح. ونقطة ضعف «داعش» أنه بلا سند شعبي، ولذلك بالذات يحكم بالإرهاب المشهدي وبغرس الرعب في النفوس. لم يكد «داعش» يخوض معركة حقيقية واحدة. قوات الجيش العراقي انهزمت أمامه من دون حرب، والنظام السوري أخلى تدمر له من دون حرب. والحل البسيط في مواجهة «داعش» هو قوى منظمة، حسنة التسلح، ولها سند شعبي على الأرض، الأمر الذي لا يستطيع النظام الأسدي ولا شبيهه العراقي، ولا أي قصف أميركي من الجو تحقيقه.

لكن أليست مشكلة الأكثرية العربية في المنطقة أنها، بالأحرى، ليست طرفاً، وأن وقوعها تحت سيطرة «داعش» بعد وقت قصير من خروجها من سيطرة النظام، وقتل وتغييب وتهجير أبرز ناشطيها، حرمها من أن تكون طرفاً متماسكاً يمسك بزمام مصيره؟ هناك مقاتلون عرب ضد «داعش» طوال الوقت، يشاركون المجموعات الكردية القتال، لكنهم بلا سند، وعلاقتهم بالشريك الكردي تفتقر إلى الثقة.

يحوز الطرف الكردي في المقابل نقاط قوة مهمة. الأولى هي الدعم الأميركي. الثانية هي قضية القتال ضد «داعش»، القوة الإجرامية التي لا يتعاطف معها أحد. والثالثة هي «العقيدة العسكرية التي توحّد هذه القوات الكردية خلف هدف واحد وهو دحر داعش وتحرير المناطق التي يسيطر عليها في ما يسمى كوردستان العراق أو كوردستان سورية»، وفق جبار ياور، أمين عام قوات البيشمركة في العراق (النهار، 17 – 6 – 2015). هذه العقيدة العسكرية ذاتها تقوم على شعور قومي صاعد، غذاه الحرمان من دولة التمييز المديد ضد الكرد في أربعة بلدان.

أتحدّر شخصياً من هذه المنطقة التي لم يقع قط صراع عنيف بين سكانها. كانت منهوبة ومحتقرة من الحكم الأسدي، وكان ينظر إلى الأكثرية العربية بمنطق شبه استشراقي، وأجهزة النظام الأمنية تتعامل مع السكان كأعداء أجانب، وتشتبه من دون أساس بولائهم لنظام صدام في العراق. والمنطقة تبدو مقبلة على أوضاع أكثر كارثية مما عرفت منذ سيطرت عليها «داعش» قبل عام ونصف. يدفع الثمن السكان الأشد فقراً والأقل حماية، ينتقلون من سيطرة متحكمين إلى متحكمين إلى متحكمين.

وتشحن النفوس باستعدادت تبدو متوافقة مع التهجير والإبادة، لا مع الاعتراض عليها والوقوف في وجهها.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

معركة تل أبيض في سياق صراع الأجندات الخفي بين واشنطن وأنقرة/ بكر صدقي

غداة انتهاء الانتخابات النيابية في تركيا، انتقد الرئيس الأميركي باراك أوباما بوضوح السياسة التركية المتساهلة لوجستياً مع «داعش» بقوله «إن السلطات التركية لم تطور، بما يكفي، إجراءاتها بصدد منع مرور المقاتلين عبر حدودها للانضمام إلى قوات تنظيم الدولة في سوريا». كذلك تحدث تقرير وزارة الخارجية الأمريكية الخاص بمكافحة الإرهاب العالمي عن امتناع أنقرة عن القيام بواجباتها في الحرب على داعش.

الخلاف الأمريكي ـ التركي حول الأولويات في المسألة السورية بات معروفاً منذ قررت الإدارة الأمريكية انشاء تحالف دولي لمحاربة داعش، بعدما استولى التنظيم على الموصل وأعلن منها قيام دولة الخلافة، بقيادة أبي بكر البغدادي، في الثلاثين من شهر حزيران 2014. وإذا كان المعلن تركياً، بشأن سبب الخلاف، هو أولوية إسقاط نظام الأسد الكيماوي على محاربة داعش، فالمضمر هو الموضوع الكردي الذي طالما شكل هاجساً للدولة التركية بصرف النظر عن لون الحكومات المتعاقبة.

والحال أن هذه الحساسية متبادلة بين الأتراك والكرد، الأمر الذي شكل أحد أهم عوامل الشقاق بين الثورة السورية والمكون الكردي، البيئة الموالية منها للخط الأوجالاني بصورة خاصة. وهكذا كان حزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري للعمال الكردستاني) يتهم خصومه من الأحزاب السياسية الكردية، منذ السنة الأولى للثورة السورية، بـ»العمالة لأردوغان» بسبب مواقفهم الأقرب إلى المعارضة السورية منها إلى النظام.

وذلك بسبب احتضان تركيا الأردوغانية لجماعة الإخوان المسلمين السورية الذين شكلوا الثقل الأهم داخل أطر المعارضة. بالمقابل اتُّهِم الحزب الأوجالاني السوري بـ»العمالة للنظام» من قبل خصومه، والتيار الإسلامي بصورة خاصة، لمجرد أنه يمتلك أجندته الخاصة وليس على توافق مع «معارضة اسطنبول».

كانت النتيجة أن أحزاب «المجلس الوطني الكردي» الممثلة للتيار البارزاني – الطالباني داخل الحركة السياسية الكردية، انضمت إلى الائتلاف الوطني، وإن بعد كثير من التأخير، مقابل انضمام «الاتحاد الديمقراطي» إلى «هيئة التنسيق» الأقرب إلى الخط الروسي ـ الإيراني.

كان لاحتضان الحكومة التركية للمعارضة السورية تداعيات تجاوزت المستوى السياسي إلى العسكري، فساهمت أنقرة بنصيبها من أسلمة الثورة وصولاً إلى تقديم التسهيلات اللوجستية إلى مجموعات جهادية أبرزها أحرار الشام والنصرة. بل تذهب الاتهامات من جهات عدة، تركية معارضة وغربية، إلى اتهام الحكومة التركية بتقديم تسهيلات إلى تنظيم الدولة نفسه الذي نجح في خلق إجماع دولي على مكافحته. من هذا المنظور، لا يمكن اعتبار موقف أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، من تحرير تل أبيض، جديداً بسبب خصوصية هذه البلدة ذات الغالبية السكانية العربية. فالموقف نفسه رأيناه من أردوغان في حصار كوباني ذات الغالبية الكردية. أعني الاتهامات الموجهة من أنقرة، وصداها في المعارضة الإسلامية السورية، إلى قوات حماية الشعب التابعة لجماعة أوجالان في سوريا بممارسة «تطهير عرقي» بحق العرب والتركمان». بل إن أردوغان اتهم الولايات المتحدة صراحةً بالمساهمة في هذا التطهير، من خلال الضربات الجوية، و«إحلال pyd وpkk محل السكان العرب والتركمان. وهو «أمر لا يمكن القبول به» على حد تعبير رئيس الجمهورية التركية. فالموقف السلبي نفسه رأيناه إبان معركة كوباني حيث لم يكن من الممكن الحديث عن تطهير عرقي، فكان الموقف التركي، هناك أيضاً، منحازاً لداعش ضد القوات الكردية.

بالمقابل، لا يخفي الأمريكيون دعمهم الصريح للقوات الكردية الأوجالانية التي تشكل، من وجهة نظرهم، الحليف الأرضي الأنسب والأكثر فعالية في مكافحة داعش. من زاوية النظر هذه يبدو الموقف الأميركي أكثر اتساقاً من حيث أولوية مواجهة داعش في إطار المسألة السورية. أما اتساق موقف الحكومة التركية (من رأس العين إلى كوباني إلى تل أبيض) فهو يتمحور تماماً حول الموقف السلبي من الكرد، الأمر الذي لا يقتصر على المسألة السورية، بل يتجاوزها إلى الاستقطابات الداخلية في تركيا نفسها. فقد رأينا أن الخصم الرئيسي لأردوغان وحزبه في الحملة الانتخابية التركية كان حزب الشعوب الديموقراطي الذي يعتبر الممثل الرئيسي لكرد تركيا والواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني. وقد بذل أردوغان والعدالة والتنمية أقصى الجهود للحيلولة دون تجاوز الحزب الكردي حاجز العشرة في المئة الضروري لدخول البرلمان. وهو ما فشل فيه، كما فشل في تحطيم قوة حزب الاتحاد الديمقراطي بواسطة المجموعات الجهادية العاملة في شمال سوريا. بل أكثر من ذلك، نجح أردوغان، من خلال هذه السياسة الخاطئة، في دفع إدارة أوباما إلى تزويد «الاتحاد الديمقراطي» بالسلاح، إبان معركة كوباني، مع أنها تعتبره «مقرباً» من حزب العمال الكردستاني الموجود على اللوائح الأمريكية للمنظمات الإرهابية.

هل تملك تركيا خياراً آخر؟ نعم. في صيف العام 2013، استدعت أنقرة صالح مسلم على عجل، وتجاوب الرجل بسلاسة، فاجتمع بكبار القادة الأمنيين الأتراك. كان شرط صالح مسلم للتعاون الإيجابي مع تركيا في سوريا هو منع السلاح عن المجموعات الجهادية. لكن أنقرة لم تتجاوب. فكانت الرحلة التالية لمسلم، بعد أنقرة، إلى طهران حيث وجد الحضن الإيراني مفتوحاً لاستقباله! عرض صالح مسلم لعلاقات إيجابية مع تركيا ما زال قائماً، كما أكد في مناسبات عدة، وما زال يواجه برفض عنيد.

لا تحاول هذه المقالة تبرئة أوجالانيي سوريا من انتهاكات يرتكبونها بحق السكان العرب في تل أبيض وريفها، بذريعة علاقات مفترضة جمعتهم بتنظيم داعش أثناء احتلاله لتل أبيض. فحتى لو صح وجود علاقات مماثلة للبعض، ليس «الاتحاد الديمقراطي» أو قواته المسلحة هما الطرف المؤهل لمحاسبة من ارتكب جرائم بحق السكان تحت مظلة داعش. بل ينبغي أن يحاكم هؤلاء أمام جهات قضائية مستقلة. في حين أن الاتحاد الديمقراطي هو طرف في الصراع. ويزداد الأمر سوءاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار امكانية إطلاق تهمة «الداعشية» (على الطريقة المكارثية) بسهولة لأسباب كيدية أو عرقية بحتة.

هل يسعى «الاتحاد الديمقراطي» إلى تشكيل منطقة تحت سيطرته على طول الحدود مع تركيا؟ لم لا إذا تمكن من ذلك؟ وهو ما يناسب سياسة الحليف الأمريكي أيضاً لأنه من جهة يضعف داعش، ومن جهة أخرى يلوي ذراع أردوغان في سوريا. لكن الاتحاد الديمقراطي يدرك صعوبة هذا الأمر، وبخاصة غربي نهر الفرات باتجاه عفرين، لأن الأمر قد يكلفه إشعال صراع عرقي عربي ـ كردي لا قبل للحزب الأوجالاني بتحمل كلفته الباهظة. لذلك قد يفضل الحزب الزحف، مع حلفائه من كتائب الجيش الحر، باتجاه الرقة على التمدد باتجاه أعزاز.

٭ كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

سيناريوهان بعد تل أبيض/ إياد الجعفري

لا نستطيع حتى اللحظة الجزم بما حدث، أو ما يزال يحدث، في منطقة تل أبيض، شمال شرق سوريا. لكن ما يمكن الجزم به تماماً، أن تلك البقعة من سوريا أمام سيناريوهين، يصعب تصور ثالث لهما. ويبدو أن النخبة الكردية الفاعلة هناك، وحدها من ستقرر، أي السيناريوهين سيحدث. وهي وحدها من سيتحمل المسؤولية التاريخية حيال ذلك.

في السيناريو الأول

تراهن نخبة “الاتحاد الديمقراطي الكردي” على الوضع الداخلي التركي، وعلى الحاجة الأمريكية المُلحة لحليف برّي ضد “داعش”، وتستغل ذلك باتجاه الربط بين “كانتونات” إقليم كردي شبه مستقل، شمال شرق سوريا، عبر التطهير العرقي الممنهج للفواصل الديموغرافية العربية القائمة بين تلك “الكانتونات”.

وبالتالي، تمنع الميليشيات التابعة للديمقراطي الكردي، النازحين السوريين في تركيا من العودة إلى منطقة تل أبيض، بذرائع مختلفة، أبرزها، تورط بعض الأهالي بالعلاقة مع “داعش”. وخلق أجواء من الترهيب تجاه العرب والتُركمان في الداخل، تنقل رسالة لنظرائهم النازحين بأنهم لا يستطيعون العودة.

ومن ثم، ينقل “الديمقراطي الكردي” مجموعات سكانية كردية إلى منطقة تل أبيض، ويُوطنها مكان سكانها الأصليين من العرب والتُركمان، ويدّعي واقعاً ديموغرافياً مغايراً.

يراهن “الديمقراطي الكردي” في ذلك على صعود حزب الشعوب الديمقراطي في تركيا، والذي يحظى بقاعدة شعبية كردية كبيرة، إلى جانب الرهان على تمكن الأحزاب التركية المناوئة للعدالة والتنمية، من التعاون، وعزل الأخير عن السلطة.

يراهن “الديمقراطي الكردي” أيضاً على حاجة الأمريكيين لفصيل برّي قادر على التعاون مع حربهم الجوية ضد “داعش”، وتحقيق تقدم ميداني على الأرض.

ويراهن “الديمقراطي الكردي” أيضاً على صورته في الإعلام الغربي، كتنظيم علماني، قواته المحاربة مدرّبة جيداً، وهي الأقدر، في التراب السوري، على مواجهة “داعش”، بعيداً عن الفصائل التي تحيط بها شُبهات التطرف.

أما النتائج المتوقعة لهذا السيناريو، فستكون، تمدد الأكراد شمال شرق سوريا، وما يرافقه من تفاقم حالات التهجير العرقي للعرب والتُركمان، بصورة تستفز الشارع التركي الذي تغلب عليه المخاوف من أية نوايا كردية انفصالية، فيستغل حزب العدالة والتنمية ذلك، ويُحرج الحزبين الآخرين، حزب الشعب الجمهوري، والحركة القومية، اللذين يعجزان عن التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي، لخلفيته الكردية، ويؤدي ذلك إلى انتخابات مبكرة، تُفقد حزب الشعوب الكثير من مكاسبه. وهكذا يسترد العدالة والتنمية الأصوات التي خسرها، على وقع المخاوف الوجودية من الكيان الكردي المُرتقب، جنوب البلاد. ويستفرد بالسلطة مجدداً.

في هذه الأثناء، تتفاقم مشاعر العداء في الجانب العربي في سوريا، وتنفذ فصائل مسلحة سورية وعيدها بمواجهة “الاتحاد الديمقراطي الكردي”، بسبب عمليات التطهير العرقي. وتأتلف فصائل عديدة، بدعم غير معلن من الدولة التركية، لمواجهة الأكراد، وتضطر الولايات المتحدة الأمريكية إلى وقف مؤازرتها الجوية للأكراد، بعد أن تتحول وجهة المعركة، من مواجهة “كردية – داعشية”، إلى مواجهة “كردية – عربية”.

الحصيلة، استنزاف مرير للأكراد والعرب على حدٍ سواء، يُجهض آمال الأكراد السوريين بوضع أفضل في نهاية الصراع على التراب السوري.

في السيناريو الثاني

تسعى نخبة “الاتحاد الديمقراطي الكردي” لطمأنة تركيا، وشركائها من العرب في منطقة تل أبيض، عبر القيام بخطوات جادة، من قبيل الانسحاب من المدينة، فعلاً، لصالح إدارة مدنية محايدة، بعد إتاحة الفرصة كاملة لعودة الأهالي إلى المنطقة، وسط تعاون كامل من جانب الأكراد.

يتعاون “الاتحاد الديمقراطي الكردي” مع الائتلاف الوطني المعارض، المقرب من تركيا، في إدارة المناطق المحررة من “داعش”، وفي التأسيس لمعركة جديدة ضد “داعش” في مناطق أخرى، على قاعدة سوريا موحدة تراعي الخصوصية الكردية.

بناء على ما سبق، يتم تمتين أواصر التحالف بين الكرد والعرب في مواجهة “داعش” في الجزيرة السورية، مؤسسين نموذجاً للتحالف بين ألوان الطيف السوري، ضد الاستبداد والتطرف.

الحصيلة، يتحول الأكراد إلى عامل إيجابي في التأسيس لسوريا موحدة، تمثل مصالح كل أبنائها، ويضمنون بذلك وضعاً خاصاً داخل سوريا المستقبل، يُراعي خصوصيتهم الثقافية. وتضمن أبرز فصائلهم دوراً مهماً في إدارة البلاد كاملةً.

أي السيناريوهين سيحدث بعد تل أبيض؟…كلمة السرّ تبقى لدى نخبة “الأكراد” شمال شرق البلاد.

المدن

 

 

 

 

تركيا بين الحزام الآمن والحزام الكردي/ عبد القادر عبد اللي

أعاد تحرير تل أبيض من تنظيم “الدولة الإسلامية”، العلاقة الإشكالية بين المؤسسات الرسمية للجمهورية التركية وحزب “الاتحاد الديموقراطي الكردستاني” (PYD). وعلى الرغم من الخلافات بين الطرفين، فإن العلاقات بينهما لم تنقطع لا بشكل مباشر ولا غير مباشر. على الصعيد المباشر؛ هناك علاقة اتصال دائمة بين مستشارية المخابرات التركية القومية “MİT” وقيادة الحزب، وكما أن هناك علاقة سياسية مباشرة حيناً مع حكومة “العدالة والتنمية”. وعلاقة غير مباشرة أحياناً، عبر حزب “البارزاني”، الوسيط الذي يحمل الاسم نفسه في العراق.

وبحسب المعلن، فإن الخلافات بين حكومة “العدالة والتنمية” و”الإتحاد الديموقراطي” تكمن -من وجهة النظر التركية- في محاولة تفرّد الحزب الكردي بالسيطرة على الشمال السوري عموماً، والمناطق الكردية خصوصاً، وعدم السماح للتيارات السياسية الكردية الأخرى والعربية والتركمانية المتواجدة شمالي حلب، بالمشاركة في إدارة “الكنتونات” المؤسسة هناك. ومن وجهة نظر “الإتحاد الديموقراطي” فإن الحكومة التركية -التي مازالت تسيّر الأعمال- تدعم التنظيم الإرهابي “داعش”.

في الحقيقة، هذه الرؤية ذاتها هي باب الخلاف الأساسي بين الحكومة التركية والإدارة الأميركية. وإذا كانت الإدارة الأميركية لم تتهم بشكل رسمي إلى الآن، الحكومة التركية بالتعاون مع “داعش”، فقد صدرت تصريحات عن بعض المسؤولين الأميركيين تتهم الحكومة التركية بهذه العلاقة، ولكنها سرعان ما سُحبت، وكان أهمها تصريح نائب الرئيس الأميركي جو بايدن.

عندما طرحت الحكومة التركية في اجتماع جدة الشهير لتشكيل التحالف ضد “داعش” ضرورة تأسيس منطقة آمنة في الشمال السوري، ومحاربة “داعش” والنظام معاً، لم توافق الإدارة الأميركية على هذا الطرح، تحت ذريعة الأولويات، وأن الأسد لم يعد أولوية، ولكنه من باب تهدئة الحليف التركي القديم، مازالت حتى الآن تعتبره من “ضمن الخيارات المتاحة”.

ومن باب المواقف أيضاً، فكثير من المؤسسات الفكرية المؤثرة في الولايات المتحدة تُبرز أن التيارات الأقوى بين الأكراد هي الحليف الأكثر ثقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فيقول على سبيل المثال رئيس “مجلس العلاقات الدولية” ريتشارد هاس، وهذه مؤسسة فكرية تُعتبر من المؤسسات الموجهة لاستراتيجيات الولايات المتحدة، في حديث لجريدة “حريت” بتاريخ 11 تشرين ثاني/نوفمبر 2014: “إن الأكراد هم الشركاء الأكثر معقولية الآن على الساحة… ولم يبق تأثير لما يُسمى الجيش الحر”.

على ضوء هذا الموقف الأميركي الراعي، تُدرك تركيا أنها لا تستطيع أن تخطو أية خطوة تصعيدية تجاه الأكراد في سوريا. حتى إنها تعتبر تبرير الولايات المتحدة بقضية “الأولويات” وبأن “الأسد ليس أولوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة” غير مقنع، لأنه وفق هذا المنطق فإن طلبها بتنظيف الشمال من “داعش” بمشاركة قوات برية يتماشى مع هذه الأولويات، فما الذي يمنع؟ هل هو الحليف الجديد؟

هذا الوضع الشائك حدّد المطالب التركية من “الإتحاد الديموقراطي”، بإفساح المجال لمشاركة آخرين بالحرب معه ضد “داعش” كشرط أساسي لتقديم الدعم. وبالطبع أخذ هذا الأمر نقاشاً حاداً بين الطرفين منذ أيام عين العرب “كوباني” حين لم تسمح تركيا بالدعم اللوجستي والسلاح الثقيل إلا بيد القوات الكردية الصديقة للحكومة التركية، وهي “الاتحاد الديمقراطي الكردستاني” في العراق. وبالطبع دخلت بعض فصائل الجيش الحر للقتال إلى جانب “الإتحاد الديموقراطي”.

في الحقيقة، فأن الخطة التركية هذه لم تحقق هدفها، فقد أُهمل المشاركون الآخرون بذلك القتال. ثم أعيد السيناريو نفسه في تل أبيض. فعلى الرغم من اختلاف بنية تل أبيض السكانية تماماً عن عين العرب، إلا أنه حدثت عمليات تهجير تم الاعتراف بها على استحياء بعد رفض شديد.

هنا بدأ الكتاب المقربون من الحكومة التركية بطرح ما كان يطرحه الناشطون السوريون المناهضون لـ”داعش” منذ البداية. فقوافل هذا التنظيم العسكرية تسير رافعة أعلامها، وبشكل علني، وتسير في مناطق مكشوفة، لماذا يُسمح لها بدخول هذه المناطق ثم يعمل على تحريرها؟ أليس من السهل ضرب هذه القوافل وهي في حال الحركة؟ على الرغم من منطقية هذا السؤال، وتكرار الأمر ليس في عين العرب فقط، بل في تدمر أيضاً، فلم تُجب قوات التحالف عليه بأية إجابة منطقية. وبالطبع لا يخفى بأن طرح هذا السؤال يراد منه الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تستغل ورقة “داعش” من أجل إبراز شركائها الجدد.

من ناحية أخرى، يُطرح الفرق بين خريطة غرب كردستان، والكنتونات الكردية الثلاثة المعلنة حالياً والتي ليس بينها وحدة جغرافية، ليظهر بأن غرب كردستان ليست مجرد كنتونات منقطعة، بل تشمل منطقة سكانها عرب وأقلية تركمانية. بالطبع للأكراد تبريرهم بأن هذه المناطق عُرّبت، وتسمى في الأدبيات الكردية “الحزام العربي”.

يبدو أن حزام المنطقة الآمنة الذي تعول عليه الحكومة التركية لتخفيف أعباء اللجوء على الأقل، ودعم إنشاء إدارة تحت إشراف دولي، يصطدم بأكثر من حاجز. تبرر الصحف المعارضة في تركيا بأن “الولايات المتحدة لا تجرؤ على إنشاء منطقة آمنة خوفاً من قوة الأسد الضاربة”. طبعاً على الرغم من أن أصحاب هذا الرأي لا يعتبرون هذا الكلام مزاحاً، ويطرحه كتاب “يوصفون بالجدية” فإن هؤلاء أنفسهم لا يصدقون هذا التبرير. وإذا كان بعض المحليين المعتدلين يبرزون العامل الإسلامي المتطرف كمتراس أمام تشكيل هذه المنطقة، وهو أكثر منطقية، فلعل عامل “الإتحاد الديموقراطي” هو الأكثر فاعلية الآن. وسيكون الأكثر فاعلية في المستقبل. وعلى ما يبدو أن تركيا قرأت هذه الرسالة جيداً.

المدن

 

 

 

تل أبيض بين التاريخ والجغرافيا/ عبدالباسط سيدا

تعود جذور العلاقة العربية – الكردية إلى ما قبل الإسلام، بفعل الجوار والتواصل التجاري. وقد بلغت مرحلة متقدمة بعد مجيء الإسلام، بخاصة في ظل الدول العباسية، ومن ثم الأيوبية بقيادة صلاح الدين.

وفي المرحلتين الحديثة والمعاصرة، أخذت الأمور طابعاً آخر بعد تبلور معالم الفكر القومي العربي وانتشار الدعوات المطالبة بالخروج من دائرة الحكم العثماني. وقد تأثر الكرد أيضاً بالنزوع القومي، إلا أن تمتعهم شبه المستمر بصيغة من الاستقلال الذاتي ضمن حدود الدولة العثمانية، لم يدفعهم نحو المواجهة المفتوحة، أو الرغبة في القطيعة التامة مع الدولة العثمانية، وإنما اقتصرت الجهود على المطالبات بتحسين ظروف المناطق الكردية، واحترام الحقوق والخصوصية.

وجاء تطبيق اتفاقية سايكس – بيكو بعد الحرب العالمية الأولى ليقسّم الكرد أرضاً وشعباً، ويوزّعهم بين العراق وسورية إلى جانب وجودهم في إيران وتركيا.

ولم تشهد مرحلة ما بعد الاستقلال في سورية والعراق أي تصادم بين المكوّنين العربي والكردي، سواء على المستوى الشعبي أم النخبوي، وذلك ينسجم تماماً مع التاريخ الطويل من علاقتهما.

لكن المحنة بدأت في سورية مع بروز حزب البعث الذي التزم أيديولوجية عنصرية، استلهمت الكثير من النازية والفاشية، ثم أضافت إليها مسحات من الشيوعية الستالينية، وتم التغطية على ذلك بما هو متشدّد ومختلف عليه في التراث العربي – الإسلامي.

هذا في حين أن الناصرية في مصر كانت أكثر توزاناً في تعاملها مع الكرد والقضية الكردية عموماً، ما يفسّر الاستقبال الودّي للزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني من الزعيم العربي جمال عبدالناصر أثناء عودة الأول من الاتحاد السوفياتي السابق إلى العراق عام 1958. كما تم افتتاح الإذاعة الكردية في القاهرة التي كان ضمن العاملين فيها الرئيس العراقي الحالي الدكتور فؤاد معصوم.

أما حزب البعث، فاعتمد سياسة الإنكار المطلق للحقوق الكردية، بل حاول بكل الأساليب القضاء على وجود الكرد فيزيائياً، فشنّ عليهم في العراق الحرب، وضربهم بالسلاح الكيماوي، ونفّذ في حقهم حملات إبادة أطلق عليها الأنفال.

وفي سورية، أُنكر وجودهم أساساً واعتبروا مجرد لاجئين، وحرموا كل الحقوق، ومورس بحقهم العديد من المشاريع التمييزية، بدءاً بالإحصاء الاستثناني عام 1962، الذي سبق حكم البعث، مروراً بـ «الحزام العربي» الذي طبّق عام 1973، وصولاً إلى التعريب القسري الشمولي. هذا إلى جانب مختلف الإجراءات والتدابير التي جعلت من المناطق الكردية أكثر مناطق البلاد إهمالاً وتهميشاً ونهباً، حتى ارتفعت البطالة بين الشباب الكردي إلى نسب مرعبة مقارنة بالمناطق الأخرى.

مع ذلك، لم يتمكّن حزب البعث في العراق وسورية من تحويل سياساته الرسمية جزءاً من المزاج الشعبي العربي في التعامل مع الكرد. فالجميع كان متوافقاً على أن الظلم الحاصل نتيجة لسياسة رسمية تطاول الجميع بمستويات مختلفة، وليس بناء على رفض عربي لما هو كردي، أو العكس.

وحاول النظام في عهد حافظ الأسد، وابنه بشار خصوصاً، أن يفجّر العلاقة بين العرب والكرد في إطار سعيه إلى التحكّم بقواعد لعبة ضرب المكوّنات السورية بعضها ببعض. ولعل الفتنة التي أثارها عام 2004 في القامشلي، وأسفرت عن مقتل وجرح العشرات من الكرد بأسلحة النظام هي المثال الواضح هنا.

ومع انطلاقة الثورة السورية، انحاز الشباب الكردي منذ اللحظة الأولى إليها، وكان انحيازهم بهدف القطع مع سلطة الاستبداد والإفساد التي سدّت الآفاق أمامهم، كما أمام سائر الشباب السوري.

وقد اعتمد النظام إسترتيجية قوامها إبعاد الكرد والعلويين والمسيحيين عن الثورة، سعياً منه إلى ترسيخ انطباع لدى الرأي العام العربي والدولي، وحتى السوري، بأن ما يجري ليس ثورة شعبية مدنية شبابية، تجسّد تطلعات جميع المكوّنات السورية في مواجهة النظام، وإنما مؤامرة دولية بأدوات أصولية جهادية، هدفها القضاء على خط «المقاومة والممانعة» ومحاربة النظام «العلماني حامي الأقليات والقيم الحضارية».

وبالتناغم مع هذا التوجه، أقدم النظام عبر أدواته وأجهزته على تصفية الشهيد مشعل تمّو والعديد من الناشطين الكرد، الذين كانوا قد حدّدوا بلا تردد موقفهم الداعم للثورة، وشاركوا فيها بفاعلية. كما عمل عبر أدواته على تنظيم حملات إعلامية شرسة ضد ناشطين كرد لم يتمكن من اغتيالهم.

ولا ننكر أن العديد من قادة المعارضة أو المتحدّثين باسمها خدموا إستراتيجية النظام من دون قصد. فهؤلاء لم يقطعوا مع المنظومة المفهومية التي رسخّها البعث على مدى عقود في أذهان العديد من القوميين العرب، الذين تعاملوا مع مزاعم البعث وخرائطه المزعومة وموقفه العنصري من المكوّنات غير العربية، على أنها مسلّمات لا يجوز مجرد التفكير في مناقشتها.

أما بخصوص ما سُمي التطهير العرقي في منطقة تل أبيض بعد تمكّن «قوات الحماية الشعبية» التابعة لـ ب. ي. د. بالتحالف مع بعض فصائل الجيش الحر، وبدعم من طيران التحالف الدولي، من إخراج داعش من المنطقة المعنية، فكان من اللافت أن تسارع جملة من الفصائل الميدانية الأساسية والقوى الإسلامية إلى إصدار بيانات تندّد بـ «تطهير عرقي» لم تؤكد مصادر مستقلة حدوثه بالحجم الذي روّج له. وقد دفع هذا الأمر بالائتلاف إلى تشكيل لجنة تقصّي الحقائق بغية معرفة الحقيقة، ووضع حدٍ للتجييش اللاعقلاني الذي يمارس راهناً، عربياً وكردياً، ولا يخفى على أحد أن النظام هو المستفيد الأول والأخير من ذلك.

المجيّشون العرب يرون أن ما يجري تمهيد لفعل تقسيمي مقبل مرفوض ومدان. والكرد منهم يتساءلون: أين كان وجدان هذه الفصائل وحسها الوطني يوم تعرّضت منطقة كوباني لحملة شرسة من داعش، أسفرت عن تهجير نحو 200 ألف مواطن كردي في غضون أسبوع، وتعرضت قراهم لنهب مقيت استنكره بشدة الكثيرون من العرب المؤمنين بالمشروع الوطني السوري الجامع.

خطورة ما نواجهه راهناً تتجسّد في الخشية من نجاح جهود النظام في تفجير العلاقة العربية – الكردية على الصعيد الشعبي، وهي جهود عمل عليها منذ بداية الثورة في غير منطقة.

وما يزيد تعقيد الوضع أن القضية الكردية في سورية لا تمتلك بعداً وطنياً فحسب، بل لها بعد إقليمي أيضاً. فهي تؤثر وتتأثر بما يحصل في الجوار الإقليمي. ولا يخفى على الجميع أن قضية الكرد في سورية باتت ورقة ضمن الحسابات الإقليمية، تستخدم لتعزيز المواقف، ورفع سقف الصفقات، وهي ستكون جزءاً من المقايضات المقبلة التي قد تُخضع الجغرافية لما هو مستلهم من التاريخ.

* كاتب وسياسي سوري

الحياة

 

 

 

داعش تنسحب من تل أبيض.. لكن شبحها موجود/ علي العائد

فات سوريو الفيس بوك، وغيرهم، أنهم اعترفوا بكردية القامشلي، ورأس العين، وعين العرب – كوباني، وعفرين، في مقابل دفاعهم المستميت عن “سوريةِ وعروبةِ” تل أبيض.

“كردية” تلك المدن والبلدات تأخذ مبرراتها من وجود أكثرية نسبية للكرد فيها، مقارنة بالعنصر العربي والعناصر الأخرى المشكلة للنسيج الاجتماعي في الجزيرة.

في المقابل، أخذ دفاع أهالي منطقة تل أبيض مبرراته من الأكثرية الساحقة للعنصر العربي فيها.

غاب هنا “اصطلاح”: سوري، وتحول السوريون للبحث عن أروماتهم العرقية، في مقابل دفاع الكرد عن أرومتهم العرقية.

وكاد المدافعون عن عروبة تل ابيض أن يقولوا، في هذه المعمعة، ضمناً: خذوا تلك المدن، واتركوا لنا تل أبيض ذات الأكثرية العربية.

في كل الأحوال، خاض الكرد معاركهم بالأصالة عن أنفسهم، وبالنيابة عن موفري الدعم الجوي من التحالف ضد داعش، بينما تأخر العرب في الدفاع عن أنفسهم، وتأخر التحالف في دعمهم.

ربما لا يزال السوريون يعتقدون أن عدوهم الوحيد في زمن الثورة هو نظام بشار الأسد. الآن، داعش والنصرة العدوان في ما بينهما هما عدوا السوريين جميعاً، والكرد يثيرون شكاً يقوم مقام العدو.

ربح الكرد معركة عين العرب، بعد أن بذلوا جهداً سياسياً وعسكرياً خبيراً من أجل ذلك. هم يمتلكون هنا ما لا يمتلكه عرب الجزيرة، أو عرب الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، ولا الجيش الحر، من خبرة سياسية وعسكرية وإعلامية تصل حد البروباغندا، ناهيك عن الثقة التي منحها لهم التحالف الدولي لمحاربة داعش للكرد في كل من العراق وسوريا، بتقديمه الإسناد الجوي والاستخباراتي.

كما ربح الكرد موقعة تل أبيض، حتى من دون معركة، فداعش لم يبذل جهداً دفاعياً لنسميها معركة، ومعظم الأنباء التي نقلها الناشطون تتفق أن داعش نفذ انسحاباً منظماً نقل فيه لوجستياته من القمح والبترول المخزن، كما نقل أسلحته باتجاه الرقة كمحطة أولى.

المشاركة العربية في ظل عدم وجود معركة حقيقية لا يمكن قياسها إلا معنوياً، أو كنوع من الضمانة حتى لا يستفرد المقاتلون الكرد بالمنطقة.

الانتهاكات حدثت بحق السكان المدنيين من قبل المقاتلين الكرد والعرب، معاً. وهنالك انتهاكات جسيمة موثقة تصل إلى حد القتل، عدا عن الإهانة، ومصادرة الممتلكات، لكن لا دليل على أنها ممنهجة.

مع ذلك، لا يزال أهالي (بندرخان، الدناي، حروب، الحرية، أم الهوى، القسم العربي من قرية قرطل، بئر حبش، عبدي كوي، سليب قران “8 آذار”)، وقرى أخرى لا نعرفها، ممنوعين من العودة إلى قراهم.

في تل أبيض، سقط مفهوم المعركة، قياساً إلى معركة عين العرب – كوباني التي استمرت شهوراً. خلال أيام كان تنظيم داعش قد انسحب بشكل منظم تاركاً وراءه مفخخات صغيرة وألغام قتلت شخصين حتى الأحد، أحدهما عربي، والآخر كردي.

عدم حدوث معركة جعل المحللين العسكريين يجنحون إلى الرأي أن داعش شرسة في الهجوم، فاشلة في الدفاع. ولعلنا نضيف أن داعش تحب الحروب الخاطفة، شأنها شأن إسرائيل، أو شأن البدو في غزواتهم في أوائل القرن العشرين.

إسرائيل تضرب ضربتها الصاعقة في الساعة الأولى، ومن ثم يتراجع أداؤها في الأيام والساعات التالية، تاركة ضحاياها من العرب في حالة ذهول مديدة.

كذلك البدو، الذين كانوا يغزون في ليل، فينشرون الرعب والحرائق خلال دقائق، وعندما يتمالك الفرسان المدافعون أنفسهم من المفاجأة تكون الغزوة قد انتهت، وذهب المهاجمون بالغنائم والسبايا.

كلتا الحالتين تشبه حالة صيد الضبع، الذي يعتمد، في أحسن الأحوال، في شراسته، على إخافة الفريسة قبل الانقضاض عليها حين تتحول إلى مجرد مشلولة عن الحركة. لكن الضبع، في الغالب، يأكل مما تعافه نفوس الوحوش الأخرى من صيدها.

تلك داعش أيضاً.

ولعل أهم نتائج موقعة تل أبيض هي سقوط خرافة “الحاضنة الشعبية”، فمن انضموا إلى داعش هم أنفسهم كانوا أدوات النظام في أيام سطوته. والنتيجة أن قوات الحماية الشعبية تأخذ من ذلك ذريعة وتتهم كثيراً من أهالي تل أبيض بالانتماء إلى داعش للتنكيل بالناس دون تمييز. وقد فات الكرد هنا أن المنتمي إلى داعش انسحب معهم، أو هرب إلى تركيا.

النتيجة الثانية هي أن الدعم الجوي المساند لحركة المقاتلين الكرد، غاب عن دعم فصائل الجيش الحر. فحين بدأ داعش بالانسحاب واستقر المقاتلون الكرد في تل أبيض ومحيطها القريب، ظل مقاتلو الجيش الحر يطاردون داعش من قرية إلى قرية دون تغطية جوية.

وأول من أمس الأحد، اجتاح انتحاري من داعش يقود شاحنة صغيرة مفخخة حاجزاً للجيش الحر في قرية “مريران” (15 كم جنوب تل أبيض)، فوقع قتلى وجرحى. بينما تجري الآن معركة بين الجيش الحر وداعش في محيط ناحية عين عيسى، أكبر مدن مدن منطقة تل أبيض بعد مركزها.

على كل حال، لا تزال بعض الأنباء التي يبثها الناشطون متضاربة، نتيجة عدم وجود إعلاميين محترفين قريبين من موقع الأحداث في تل أبيض. مع ذلك، يحاول الناشطون جهدهم لإيصال الأخبار بشكل منصف، من خلال توثيق التجاوزات من قبل قوات حماية الشعب، وفصائل الجيش الحر، كي تصل إلى المسؤولين العسكريين. كما يظهرون الناشطون الوجه الإيجابي في هذا الجو المزمن من سيادة عدم الثقة بين الكرد والعرب في منطقة تل أبيض.

موقع 24

 

 

 

 

مفصل تل أبيض في الحرب السورية: رباعيّة تغيّر الخرائط/ إسطنبول ــ باسم دباغ

ليس مبالغاً فيه القول، إنّ دخول قوات “الاتحاد الديمقراطي” (الجناح السوري للعمال الكردستاني) إلى مدينة تل أبيض، هو مفصل، ليس على صعيد “الحركة القومية” الكردية وعلاقاتها بمحيطها فحسب، بل على مستوى الحرب السورية بأكملها.

فقد أظهرت المعركة الأخيرة لاعباً جديداً مدجَّجاً بغطاء التحالف الدولي ضد (تنظيم الدولة الإسلامية) “داعش”، وبخبرة قيادات “العمال الكردستاني” التي تقارب الأربعين عاماً في العمل العسكري والسياسي. وباتت مناطق “روج أفا” أي “غرب كردستان” أمراً واقعاً، وهو المصطلح الأيديولجي الذي رسّخه “الاتحاد الديمقراطي” بين عامي 2003 و2004، لاستبدال مصطلح “باشوري بجوك” أي “الجنوب الصغير” الذي كان يوحي بأنّ مناطق الأكراد السوريين تشكّل امتداداً لإقليم كردستان العراق، وذلك في مواجهة مصطلح “كردستان سورية” الذي لا تزال أربيل تستخدمه، حتى الآن، مع أنّه لا معطى تاريخي أو جغرافي أو ديمغرافي يسند رواية الحزب الكردي السوري عن أحقيته في منطقة خاصة بالأكراد أو كانتون خاص.

على الرغم من أهمية تل أبيض للربط بين كانتونَي الجزيرة وعين العرب، إلّا أنّ دخول قوات “الاتحاد الديمقراطي” كان أقرب إلى الصدفة. فالمدينة لم تكن بحسابات حزب “الاتحاد الديمقراطي” كأحد كانتوناته على الإطلاق، ولا حتى كانت في حسابات باقي أطراف “الحركة القومية” الكردية في سورية. كان الظهور الأول لتل أبيض في بداية العام الحالي، في خريطة “كردستان سورية” أو خريطة “نوري بريمو” أحد قيادات الحزب “الديمقراطي الكردستاني” الموالي لأربيل والمنضوي في “الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة”، والتي أخذت الشريط الشمالي لسورية، الممتد بمحاذاة الحدود التركية، والتي ضمّت حتى لواء اسكندرون (هاتاي) التابع لتركيا.

وعلى الرغم من اتهامات التهجير والتهجير المضاد الذي شهدته المدينة على مدى الحرب السورية منذ يوليو/تموز 2013، يؤكد جميع الناشطين الأكراد والعرب، أنّ تل أبيض لم تشهد منذ إعلان الجمهورية السورية وحتى بداية الثورة، أي خلافات واضطرابات لأسباب إثنية، حتى أنّها بقيت هادئة أثناء أحداث القامشلي عام 2004، التي عمّت جميع المناطق التي تواجد فيها الأكراد السوريون. كما كانت هذه المنطقة خارج حسابات النظام. فلم تكن الأقلية الكردية الموجودة فيها ناشطة قومياً لتشكّل أي مخاوف تبرر التلاعب “بالعصب القومي” كما حصل في محافظتي الحسكة وحلب.

بحسب إحصائيات غير رسمية، لا يتجاوز عدد سكان منطقة تل أبيض، أي المدينة ونواحيها والقرى التابعة لها، الـ400 ألف نسمة، غالبيتهم من أبناء العشائر العربية، كعشيرة البوعساف والجيس والمشهور والنعيم. كما تقطنها أقلية كردية من عشائر البرازي والدن (اليزيدية) والميلان، إذ يختلف الناشطون الأكراد والعرب حول نسبتها بين 10 و30 في المائة، وأيضاً تتواجد أقلية تركمانية وأرمنية.

وبعد سيطرة “الاتحاد الديمقراطي” على المدينة، بدأ باستنساخ المؤسسات التي تدير الكانتونات الأخرى، مثل بيت الشعب وقوات الأسايش (الشرطة) وغيرها، ليختلف المراقبون حول، إن كانت الخطوة المقبلة إعلان تل أبيض كانتوناً مستقلاً، أو سيتم إلحاقه بعين العرب، إذ يتبع منطقة تل أبيض ما يقارب الـ250 قرية. وعلى الرغم من وجود بعض القرى الصافية قومياً، لكن يغلب على معظمها الطابع المختلط. تزداد نسبة الأكراد كلما اتجهت غرباً نحو عين العرب، وتزداد نسبة العرب جنوباً وشرقاً. ولا تختلف المنطقة في تركيبتها الديموغرافية عن مدينة أكجا كالة، أي “القلعة المبيضة” على الطرف الثاني من الحدود في ولاية أورفة التركية.

أثار انتصار “الاتحاد الديمقراطي” عداء الجميع في الداخل السوري، بما في ذلك النظام والدول المجاورة. وبعد أن كان التعاون بين “الاتحاد الديمقراطي” والنظام يتخذ بعداً أقرب إلى التحالف، بدأ الوضع يتغيّر بعد الهزائم المتلاحقة التي تعرّض لها الأخير، وباتت العلاقة أقرب إلى الندية، خصوصاً بعد الاشتبكات التي حصلت بين الجانبين في الحسكة بداية العام الحالي، ومن ثم استنجاد النظام بـ”الاتحاد الديمقراطي” في هجوم “داعش” الأخير على الحسكة، إذ تشير تقارير عدّة إلى غضب النظام السوري من تمرد “الاتحاد الديمقراطي” عليه.

كما كسرت سيطرة “الديمقراطي” على تل أبيض الوضع القائم للثنائيات التي كانت سائدة في الحرب السورية مدة أربع سنوات، بين موالٍ للنظام ومعارض، لتصبح المعادلة اليوم رباعية: النظام، والأكراد، والمعارضة السلفية الجهادية، ثم المعارضة المسماة “المعتدلة”. وبعد فشل الخطاب الديني لقوى المعارضة السورية في جذب أي دعم دولي يقلب موازين القوى وينهي المعركة ضد النظام، جاء التحدي كبيراً من “الاتحاد الديمقراطي”، وبدا الخطاب الديني غير مجدٍ حتى لقتال الأخير.

تم على المستوى الشعبي وبشكل تلقائي استعادة الخطاب القومي العربي القديم الذي كان يتبعه النظام، لتعود صفة الصهيونية كلازمة لـ”الحركة القومية” الكردية السورية، الصفة التي كان أول من أطلقها رئيس شعبة الأمن السياسي في القامشلي، المقدم محمد طلب هلال، عام 1961، خلال تقريره عن الأكراد وتوصياته التي تحوّلت إلى مرجع لجميع السياسات الإقصائية التي طبّقها نظام البعث، وذلك في الوقت الذي أجّج فيه أنصار “الاتحاد الديمقراطي” خطاباً شعبوياً قومياً أيضاً.

من جانب آخر، طالت قوات “الديمقراطي” الكثير من الاتهامات بالتهجير العرقي، سواء في حق العرب أو التركمان وبتصفية الخصوم منذ بداية الثورة السورية، بما أن الحزب بعيد عن احتكار تمثيل الساحة الكردية السورية. وفي سبيل تقييم الموقف، اجتمع ممثلون عن التركمان السوريين في مدينة غازي عنتاب، يوم الاثنين، ليؤكد رئيس المجلس الوطني التركماني السوري، عبدالرحمن مصطفى، الاتهامات: “نتعرض لموجة ترحيل ثالثة، بعد الهرب من براميل النظام وداعش. أصبحت قرانا تحت تهديد قوات الاتحاد الديمقراطي في تل أبيض وريف حلب، ولمواجهة ذلك، أصبح إعلان التعبئة العامة أمراً لا يمكن الفرار منه”.

من جانبه، نفى زعيم “الاتحاد الديمقراطي”، صالح مسلم، الاتهمات جملة وتفصيلاً، في مقابلة تلفزيونية، داعياً المسؤولين الأتراك إلى التخلص من فوبيا الأكراد، بالقول: “ادعاءات التطهير العرقي غير صحيحة، نحن نحافظ على وحدة الأراضي السورية، لا يوجد ممر، نحن نقاتل داعش، والمجتمع الدولي يجدنا الأكثر فعالية في قتال داعش، وهذا يكفينا”.

لا تبدو تصريحات مسلم مقنعة لتركيا، إذ أبدى وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، التزاماً واضحاً بأنّ بلاده لن تسمح لـ”الديمقراطي” بتجاوز “الخطوط الحمراء”. وتخشى أنقرة أن يتم نقل مراكز “العمال الكردستاني” إلى الشريط الذي يسيطر عليه جناحه في سورية، وبالتالي، يتحوّل إلى ممر ومنصة للانطلاق ضدها.

وعلمت “العربي الجديد” أنّ وزارة الخارجية التركية أوصت خلال التقريرين اللذين رفعتهما للاجتماعين الأمنيين المتتاليين اللذين عُقدا برئاسة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الأسبوع الماضي، بوضع الجيش التركي خططاً للتدخل في حال حاول “الاتحاد الديمقراطي” التقدم نحو ريف حلب، خصوصاً وأن تقدم الأخير في تل أبيض قد أجهض جميع الخطط التركية بإنشاء منطقة عازلة ومنطقة حظر طيران في شمال سورية، لدعم المعارضة السورية ووقف تدفق اللاجئين السوريين.

الغضب التركي لن يمر بسهولة، بل سيجعل الأميركيين يعيدون حساباتهم على الرغم من تأكد كثيرين بأن مشروع إقامة منطقة كردية في سورية مشابهة لـ”محمية كردستان العراق” عام 1991، مصلحة أميركية أساسية. لكن ازدياد نفوذ “العمال الكردستاني” وجناحه لا يقلق حلفاء واشنطن، أي تركيا والسعودية فحسب، بل أيضاً إيران “العدو الحليف” في المعركة ضد “داعش”. وعلى الرغم من كون “الكردستاني” حليفاً تاريخياً لطهران، إلّا أنّ هناك سقفاً لا يمكن تجاوزه. وفي هذا السياق، يعرب كثيرون عن ثقتهم بأن طهران لن تكون من يمهّد الطريق لمشروع دولة كردية أخرى، وهي التي تعمل على ضرب رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، في أربيل بشتى الطرق، سواء عبر حلفائها في بغداد أو من داخل الإقليم عبر السليمانية.

العربي الجديد

 

 

 

تل أبيض بين المشروعين الكردي والداعشي/ حسين جلبي

فتح ما حدث في بلدة تل أبيض السورية الشمالية قبل أيام قليلة، من هزيمة لتنظيم «داعش» الذي كان يسيطر على البلدة ودخول وحدات حماية الشعب الكردية إليها، صندوق الشرور في تلك المنطقة المضطربة أصلاً، فقد وضع الأمر الأكراد السوريين في مواجهة جميع مواطنيهم، بمن فيهم المعتدلون العرب الذين كانوا من أقرب المتعاطفين مع قضيتهم الوطنية، إلى درجة ظهر معها «داعش» في هزيمته وكأنه أصبح ممثلاً للعرب السنة في شكل خاص، في حين ظهر حزب الاتحاد الديموقراطي، الذي تتبعه تلك الوحدات، ممثلاً للأكراد بمختلف أطيافهم، حتى أولئك المتضررين منه والذين يقفون معه على طرفي نقيض، الأمر الذي يحمل معاني تتلخص بأن هزيمة الأول كانت مكسباً لكل من يقف، سواء بإرادته أو دونها، خلف الأخير، والعكس بالعكس.

لقد انخفضت الأصوات خارج هذين الاتجاهين المتطاحنين وغابت لا بل تلاشت، فقد انعكست الحرب على الأرض، والتي انتهت في أيام قليلة حرباً ما زالت مستمرة في العالم الافتراضي كانت أولى ضحاياها الكلمة المعتدلة وأصحابها، فمن لا ينضم إلى أحد الطرفين بإرادته، ومن له ملاحظة على ممثله المفترض المفروض عليه، ومن ينأى بنفسه عن صراعهما، يجري تخوينه أو تكفيره بكل سهولة.

والحقيقة التي يتجاهلها، أو يجهلها الجميع، هي أن لا مشروع قومياً كردياً واضحاً يقف خلف دخول قوات الحماية الشعبية، التي يغلب عليها العنصر الكُردي إلى بلدة تل أبيض، إذ إن حزب الاتحاد الديموقراطي، الذي يؤكد هذه المقولة في كل مناسبة، والذي دخلت قواته مع حلفائها من المجموعات العربية الأخرى إلى تل أبيض، ينأى بنفسه عن المسألة القومية، ويقول أن له مشروعاً عابراً للقوميات يسميه «الأمة الديموقراطية»، وهذا المشروع بالذات، وعلى سعة الانطباع الذي يخلقه للوهلة الأولى، قد تسبب، ومن دون أن تكون هناك معارك مع أحد، هجرة عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من الأكراد أنفسهم، خصوصاً الرافضين لهيمنة الحزب على المنطقة، وغير المؤمنين بمشروعه غير الواضح المعالم، والذي لا يمكن الإلمام بجوانبه عبر إصدارات الحزب وتصريحات مسؤوليه، كما أن هذا المشروع دفع بالوحدات العسكرية للحزب إلى الدفاع عن عشرات الآلاف من العرب الذين كان نظام الأسد الأب قد جلبهم إلى المناطق الكردية السورية أثناء بناء سد نهر الفرات في منطقة الرقة، والذي غمر أراضي هؤلاء وقراهم، حيث يعيشون في شكل مقبول نسبياً مقارنةً بجيرانهم الأكراد أنفسهم في منطقة تشهد صراعات مختلفة، حزبية وقومية دينية، إذ يجري قمع الأكراد وإقصاؤهم من قبل الحزب، ولا يسمح لهم بتشكيل فصائل مسلحة وحمل السلاح إلا في صفوفه، كما يقيم الاتحاد الديموقراطي تحالفاً مع فصائل عربية مسلحة تم تشكيلها في منطقة نفوذه التي يحتفظ النظام نفسه بوجود قوي فيها، ناهيك بتعيين شيخ قبيلة عربية كبيرة رئيساً لإحدى مقاطعاته (كانتوناته) الثلاث التي كان قد أعلنها من جانب واحد في المدن الكردية الرئيسية الواقعة شمال شرقي سورية، والذي يقود هو نفسه، بالإضافة إلى قبيلته، ميليشيا مسلحة أعلن عن تشكيلها، جلهم من أبنائها.

من جهة أخرى، فقد أظهر التبرم من دخول قوات الحماية الشعبية إلى بلدة تل أبيض المسألة وكأن «داعش» هو الذي يذود عن حياض الأراضي السورية، ووحدتها وسيادتها وهويتها القومية، وبأن بقاء البلدة في يد التنظيم المتطرف كان هو الضمانة للحفاظ على سورية المدينة، رغم عدم وجود مثل هذه الاعتبارات على أجندته.

كانت أحداث تل أبيض هي القشة التي قصمت ظهر التعايش اللفظي الهش بين مكونات المنطقة، فقد وجد الجميع أنفسهم في مواجهة بعضهم البعض، من خلال مشاحنات دارت حول حصول عملية تطهير عرقي قامت بها وحدات حماية الشعب استهدفت بها عرب المدينة وريفها بعد دخولها، أو عدم حصولها، من خلال القول أن المسألة تتعلق بنزوح على خلفية العمليات العسكرية ضد «داعش».

لقد أدخل تحرير بلدة تل أبيض أبناءها في نفق النظام الأسود، وإذا كانت نقطة مقتل مشروع «داعش» هي اصطدامه مع الأكراد، فإن نقطة مقتل المشروع الكردي الذي يتبناه حزب الاتحاد الديموقراطي، تبقى، بالإضافة إلى هلاميته، هي وجوده في نفق النظام.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى