راتب شعبوصفحات مميزة

ماتريوشكا الممانعة/ راتب شعبو

لم يكن ابتكار مصطلح “الممانعة” مجرد تنويع شكلي أو لغوي على مصطلح “المقاومة”. ولا تعدو المجاورة الإعلامية والصحافية بين المفردتين أن تكون غشاً سياسياً يحمل من التضليل المتعمد أكثر مما يحمل من الجهل.

للمقاومة تاريخٌ طويل حمل في طياته فاعلية تغييرية لصالح شعوب قاومت الاحتلال وفرضت إرادتها عليه، على رغم التفوق العسكري والإجرامي للمستعمِرين. للمقاومة أدبٌ وفنّ وجماليات احتفت بإرادة الشعوب في ردّ الظلم عبر العصور. للمقاومة حضورٌ متألّق فرض ذاته في الصفحات الحقوقية للبشرية. وللمقاومة مكانةٌ رفيعة في سجلّ الحضارات. العمل على دحر الظلم والظالمين هو الفعل المقاوم بالتعريف. وهذا فعلٌ لا يمكن ضمير البشرية أن يحقّره أو أن يحطّ من قيمته. أما الممانعة فهي ابتذال المقاومة. أو قل إنها “المقاومة” كما تمارسها الأنظمة. تقوم الممانعة على ثلاثة عناصر (سلطة وعدوّ وشعب) تجمعهم علاقة تنزع إلى الديمومة أو حتى التأبيد، حصيلتها الواقعية والمرجوة هي المحافظة على موقع كل عنصر فيها: العدوّ يحافظ على ما كسبه ويكسبه بالعدوان، السلطة تحافظ على ديمومتها وتكريس ذاتها، ويبقى الشعب تالياً، محافظاً على موقعه المهمّش والمسود.

من منظور الشعب هناك عدوّان، داخلي وخارجي، وتقضي الممانعة بقبول عدوّ على عدوّ، ليس وفق الكلام عن “أهون الشرّين”، بل وفق منطق الأولويات. أي السكوت عن العدوّ الداخلي (الديكتاتورية الفاسدة) لدرء أخطار العدوّ الخارجي وربما للخلاص منه. هذا يقتضي أن الخطوة التالية بعد الخلاص من العدوّ الخارجي، إن تم له ذلك، هي التوجه للخلاص من العدوّ الداخلي. ما يعني أن “شرعية” السلطة الداخلية، وهي العدوّ الداخلي لشعبها، باعتبارها سلطة ديكتاتورية فاسدة، مستمدة من استمرارية العدوّ الخارجي. وهذا يفضي إلى أنه لا مصلحة للسلطة “الممانعة” في الخلاص من العدوّ الخارجي بصفته ركيزة “شرعيتها”، الأمر الذي يضع “العدوّين” في موقع المستفيد أحدهما من الآخر، أي في علاقة تعايش.

من زاوية السلطة “الممانعة”، هناك “عدوّ” خارجي يهدد الشعب ومصالح الشعب، باعتداءاته واحتلالاته، وهذا يعيّن على السلطة تبنّي خطاب ومواقف سياسية معادية للعدوّ بما يرضي الشعب ويَعِدُ باسترداد حقوقه، من دون التمادي إلى حد الدخول في صراع جدّي مع هذا العدوّ، طالما أنه لا يشكل تهديداً لاستمرار السلطة “الممانعة”. بكلام آخر يتعيّن على السلطة، في علاقة الممانعة، مخاطبة العدوّ كعدوّ، والتصرف تجاهه كصديق. هناك عدوّ داخلي مخيف حقاً هو الشعب الذي تجب مخاطبته كصديق والتصرف معه كعدوّ. تخدم الممانعة هنا كتبرير دائم لكل أشكال القمع التي يتعرض لها المحكومون. هنا يرتدي القمع المعمم للنظام الممانع ثوباً مشرّفاً من الغيرة الوطنية على الشعب. فالسلطة الممانعة تعمل على احتكار العداء لـ”عدوّ الأمة” بما يتيح لها إحالة أي فعل داخلي معارض الى فعل معاد للعداء للعدوّ، أي الى فعل خياني.

أما من زاوية العدوّ الخارجي، فلا تعني الممانعة سوى آلية سياسية تشلّ فاعلية الشعب (العدوّ الحقيقي) على يد “السلطة الوطنية”، وتحوّل الصراع لاسترداد الحقوق إلى صراع كلامي لا أكثر، تمارسه نوافذ إعلامية وثقافية تعمل على تغذية خوف الناس من العدوّ، وعلى المزايدات السياسية التي يستوجبها فن احتكار العداء للعدوّ.

في هذه العلاقة، يفترض بالعدوّ الخارجي أن يذكّر دائماً بوجوده واستعداده للعدوان والوحشية، ويفترض بالسلطة الممانعة أن تستنكر وتحذّر وتحقن الشعب بكلام متواصل عن ضرورة تكريس الجهود من أجل تحقيق التوازن مع العدوّ كي لا يتمكن من تنفيذ مخططات شريرة تطال “وجود الأمة”. ويفترض بالشعب أن يقتنع مراراً بعدوانية العدوّ الخارجي ووحشيته من جهة، وأن يقتنع مراراً أيضاً بتسليم مهمة استرداد الحقوق ولجم هذا العدوّ لـ”السلطة الوطنية”، وإعطاء هذه السلطة الصلاحيات الكاملة في سعيها إلى تحقيق “التوازن العسكري” أو “التوزان الاستراتيجي” مع العدوّ.

المقاومة تكتسب شرعيتها من الفعل المقاوم على الأرض، أما الممانعة فإنها “فلسفة” سلطات قائمة سلفاً ولا يعنيها من أمر الدنيا شيئاً سوى ديمومتها واختراع الفلسفات التي تؤبّدها وإن كان ذلك على حساب أي شيء. المقاومة تنتصر لحق الأمة وتكتسب الصدقية بقدر خدمتها لهذا الحق العام، أما الممانعة فإنها تنتصر لاحتكار حقّ الأمة كوسيلة لقمع سياسي معمّم. تستمد المقاومة شرعيتها من النضال ضد ظلم يمارسه مستعمِر في حقّ أمة أخرى أو شعب آخر، أما الممانعة فإن غرضها إضفاء الشرعية على الممارسة القمعية والتعسفية التي يمارسها النظام الممانع ضدّ شعبه، بآلية تحوّل القمع نفسه إلى فعل “مقاومة” يستهدف عملاء العدوّ في الداخل. فيما العدو يمارس حرياته العدوانية التي تتيحها له فلسفة الممانعة، الفلسفة نفسها التي توفر وسيلة تصون بها علاقة الممانعة من الانهيار، لا بل تعززها. فالعدوّ، بممارساته العدوانية، يفترض أن يعزز اقتناع الشعب بأن “نظامه الممانع” مستهدف، وبأن العدوّ الخارجي شديد العدوانية.

هكذا تثبت “فلسفة” الممانعة جدواها. إنها فلسفة عصية على النقض. إذا اعتدى العدوّ، فإن “النظام الممانع” مستهدف وعلى الشعب أن يلتفّ حوله. وإذا كفّ العدوّ عن عدوانه، فلأن نظام الممانعة استطاع بممانعته أن يضع حدّاً للعدوان، وعلى الشعب أن يلتفّ حوله ويعزز صموده. وحتى إذا امتنع نظام الممانعة عن الردّ على العدوان، فذلك لأنه يريد أن يختار المكان والزمان المناسبين، وعلى الشعب أن يلتفّ حوله. كيفما سارت الأمور، تخرج فلسفة الممانعة بنتيجة واحدة هي ضرورة أن يلتفّ الشعب حول النظام الممانع الذي يبقى دائماً في حالة استنفار تحتّم عليه، ومن أجل مصالح الشعب وخيره، أن يقمع كل صوت معارض. فالصوت المعارض ليس إلا ثغرة، أو ضعفاً في جدار الصمود يمكن العدو استغلاله وتقويض “الممانعة” من الداخل بعدما عجز عن تقويضها من الخارج.

من المألوف أن تميل حركات المقاومة إلى السقوط في إغراء فلسفة الممانعة، وذلك كلما غلب منطق الحُكم فيها على منطق المقاومة. لا تتطلب غلبة منطق الحكم أن تتحول حركة المقاومة إلى سلطة دولة، كما جرى في الجزائر أو فيتنام، إذ يمكن الحركة المقاومة أن تغريها فلسفة الممانعة قبل ذلك، فتمارس الحكم من خارج الدولة (كما في حالة “حزب الله” اللبناني) أو من دون دولة (كما في حالة حركة “فتح” الفلسطينية). حين ذاك تغلب حالة التعايش على حالة الصراع، ويصبح الصراع مجرد جزء من حلقة التعايش المستدامة. فنجد أنفسنا أمام ممانعات متشابهة تحتوي بعضها البعض كما تحتوي بعضها البعض دمى الماتريوشكا الروسية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى