صفحات مميزة

ماذا بعد الاستفتاء الكردي في العراق وتأثيراته المحتملة على الوضع في سورية –36 مقالا مختارا-

 

استفتاء كردستان: بوّابة نزاعات حول حقّ لا يُنازع/ صبحي حديدي

مضى زمن غير بعيد، لأنه أقلّ من عشر سنوات في الواقع، شهد إسناد وظيفة عجيبة للجنرال الأمريكي المتقاعد جوزيف رالستون: أنه «الموفد الأمريكي الخاصّ لمجابهة الـ PKK»! اليوم، بالطبع، لا تتعاون الولايات المتحدة، على نحو عسكري وثيق، مع هذا الفريق الذي كان الجنرال يجابهه، فحسب؛ بل تتولى تسليحه، تحت مسميات شتى، بينها «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي PYD، و»وحدات الحماية الشعبية» PYG، و»قوات سوريا الديمقراطية»؛ ويقوم جنرالات البنتاغون، زملاء رالستون اللاحقون، بأداء مهامّ تنسيقية ولوجستية وعملياتية مختلفة، في صالح مجموعات «حزب الـPKK.

وكان ذلك الموفد الخاص قد رفض، رفضاً قاطعاً كما يتوجب القول، التفاوض مع أية جهة تمتّ بصلة إلى «هذه المنظمة الإرهابية» على حدّ تعبيره. وخلال مؤتمر صحافي مشهود، خاصة عند أولئك الذين لا يردون للذاكرة أن تكون حسيرة قصيرة، أعلن الجنرال أنه نصح كبار المسؤولين الكرد (ويقصد في شمال العراق تحديداً) أن يروا في تركيا «أفضل صديق يمكن أن يكسبه العراق في الجوار، والمصالح الاقتصادية بين تركيا والعراق حاسمة تماماً للبلدين على حدّ سواء». كذلك أوضح أنّ واشنطن لن تقبل «بتحويل الأراضي العراقية إلى «ملجأ آمن لإرهابيي الـ PKK»، لأنّ وجود هؤلاء في شمال العراق «لا يمكن ان يكون في مصلحة العراق». وكان مدهشاً أن يستخدم رالستون، وهو العضو السابق في رئاسة أركان الجيش الأمريكي، عبارة «الملجأ الآمن» بمعنى سلبي وقدحي، متناسياً أنّ هذه هي التسمية التي أطلقها جورج بوش الأب على شمال العراق، بوصفه… ملجأ الكرد الآمن!

هذا تفصيل أوّل يحيل إلى سردية تاريخية تحكمت بمصائر الشعوب الكردية في المنطقة، العراق وسوريا وتركيا وإيران؛ ومفادها أنّ القيادات السياسية الكردية، أسوة بقيادات عسكرية وميليشياتية، عقدت مراراً تحالفات خاطئة مناقضة لطبيعة الحقوق الكردية، وخاصة حقّ تقرير المصير؛ وانتهت بالتالي إلى انقلاب الحليف على القضية الكردية، ضمن نسق مأساوي ظلت عواقبه دامية على الكرد، عدا عما سبّبته من انتكاسات عميقة الغور في تجاربهم المختلفة نحو إحراز حقوقهم. فكيف، اليوم وليس بالأمس البعيد أو القريب، تفسر القيادات التركية تعاونها مع البنتاغون، في مواقع مثل الرقة ودير الزور والرميلان؛ وفي الآن ذاته يتخذ البيت الأبيض موقفاً متشدداً رافضاً للاستفتاء الشعبي في كردستان العراق؟

العقل يقتضي، وكذلك حقّ التاريخ على الكرد بوصفهم أبرز ضحايا التاريخ الحديث، ألا يملّوا من استعادة «لائحة الخيانات»، كما يجوز القول في الواقع؛ التي مارستها القوى العظمى ضدهم، وما تزال تتمتع بشراهة عالية لممارستها مجدداً، كلما بدت الخيانة منفذاً من معضلة تخطيط ما، هنا أو هناك. في عام 1918 نصّت مبادئ الرئيس الأمريكي وودرو ولسون على حقّ تقرير المصير لكلّ الأقليات غير التركية في ظلّ الدولة العثمانية، فظلّ هذا الجزء من المبادئ حبراً على صحيفة. وفي عام 1920 اشترطت اتفاقية سيفر إقامة دولة كردية، لكن اتفاقية لوزان للعام ألغتها بعد ثلاث سنوات فقط، وتمّ توزيع المناطق التي يعيش فيها الكرد على تركيا وإيران والعراق وسوريا والاتحاد السوفييتي. بعد سنة فقط، اعترفت بريطانيا بحقّ الكرد في تأسيس دولة مستقلة، دون أن تتخذ أية خطوة عملية في هذا السبيل. وفي عام 1975، وبعد أن توصل العراق إلى تفاهم مع إيران بموجب اتفاقية الجزائر، تخلّت إيران والولايات المتحدة (بناء على نصيحة مباشرة من وزير الخارجية آنذاك، هنري كيسنجر) عن دعم الكرد. وفي عام 1988 سكتت الولايات المتحدة وبريطانيا عن قصف بلدة حلبجا الكردية بالغازات السامة، بذريعة أنّ المصالح الحيوية الأمريكية تقتضي الحفاظ على استقرار النظام العراقي.

السردية الأخرى تخصّ الأسباب الذاتية، أي سلطات إقليم كردستان ذاتها، حيث لا تتوقف مستويات القلق عند تصارع الحزبين الرئيسيين في الإقليم، «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و»الاتحاد الوطني الكردستاني»، على أصعدة سياسية وعسكرية، فحسب؛ بل كذلك حول طبقة سياسية فاسدة أخذت تتقرّن بصفة مضطردة، فتكرست في باطن مؤسساتها ميول متعاظمة لممارسة الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات العامة وقهر الرأي الآخر. وذات يوم، غير بعيد بدوره، بدت المفارقة مذهلة، ومؤلمة أيضاً، أنّ آلاف المواطنين الكرد في بلدة حلبجا، هذه التي حوكم صدّام حسين بتهمة قصفها بالأسلحة الكيماوية سنة 1988؛ تعرّضوا لتنكيل شديد من سلطات إربيل، لمجرّد خروجهم في تظاهرة سلمية احتجاجاً على الفساد وسوء الإدارة وانحطاط الخدمات العامة.

يُضاف إلى هذا، ويتوجب احتسابه كعنصر حاسم كلما اتخذ الكرد خطوة نوعية نحو تقرير مصير عصري، سليم المؤسسات ومتين الركائز؛ أنّ صياغة طراز ما من «التوحيد» بين مناطق الإقليم (التي كانت، قبلئذ، منقسمة في ولائها بين الحزبين الرئيسيين)، ظلّ شكلياً بصفة عامة، وظلت تتعثر جهود تطبيقه على الأرض وفي سياقات الحياة اليومية. هذه الحال تشمل المحاصصة في الوزارات، وفي المناصب العسكرية الأساسية ضمن قوّات الـ»بيشمركة»، ورئاسة المؤسسات الكبرى في الإدارة المحلية. والأمر تفاقم أكثر، وكان هذا المآل طبيعياً، بعد أن توسعت أشكال التعبير السياسي في الإقليم، ولم يعد الاستقطاب الحزبي يقتصر على رجال جلال الطالباني أو مسعود البارزاني؛ فظهر يسار ووسط ويمين، وتنظيمات ليبرالية علمانية، وأخرى إسلامية سلفية…

صحيح، من جانب آخر، أنّ الإقليم يتمتع لتوّه، ومنذ سنوات، بصيغة متقدمة من الاستقلال الذاتي؛ إذا وضع المرء جانباً ما تمتع به الكرد من امتيازات سياسية وحكومية على الصعيد المركزي (رئاسة الجمهورية، وزارة الخارجية، نيابة البرلمان، رئاسة أركان الجيش…). غير أنّ ذهاب البارزاني ــ من موقعه كرئيس للإقليم، قبل موقعه الحزبي والعائلي التاريخي، كما يصحّ الاستذكار ــ إلى النقطة القصوى في تأطير مطالب كرد العراق، عبر استفتاء الشعب حول الحقّ في تقرير المصير، وما يفتحه من آفاق استقلال أوسع للإقليم (مشروع تماماً، رغم عقابيله ومصاعبه ومخاطره)؛ كان، في بُعد جدلي آخر، يضع سلطته الشخصية ذاتها، وسلطات أجهزة الرئاسة، فضلاً عن المحاصصات الحزبية والعسكرية والإدارية، على محك القرار الشعبي.

في عبارة أخرى، قد يقرأ البارزاني نسبة الـ»نعم» الطاغية ((قرابة 92,73 من الـ 3,305 مليون شاركوا في التصويت) هي اقتراع بالثقة على رئاسته، أيضاً؛ الأمر الذي سيزوّده بتفويض شبه مطلق في التفاوض مع بغداد حول مستقبل العلاقة مع الإقليم. نقّاده، من جانبهم، قد يقرأون هذا أيضاً، من باب الواقعية السياسية الصرفة؛ ولكن لن يكون غير مشروع لهم أن يقرأوا فيه بُعداً تالياً يخصّ الاستئثار بمزيد من الصلاحيات، أو السكوت أكثر من ذي قبل على مظاهر الفساد. وفي هذا، بافتراض أنّ مضامينه التناقضية بلغت سوية التناحر والمواجهة بين القراءتين، فإنّ تاريخ النزاعات الدامية الكردية ـ الكردية في الإقليم ليست غائبة عن الذاكرة.

ولا يستكمل هذا المحذور إلا ملفّ ثانٍ بالغ الحساسية والتفجر، يخصّ التوافق على مدينة كركوك؛ ليس بين بغداد وإربيل فقط، هذه المرّة، بل على صعيد إقليمي يستدخل تركيا إلى الملفّ، وربما إلى الإقليم في مجموعه أيضاً؛ وليس في ما يقتصر على توزيع عائدات النفط، الهائلة كما هو معروف، فحسب؛ بل كذلك حول التركيب الإثني الكركوكي، وخاصة ثنائية الكرد ــ التركمان، فضلاً عن العرب العراقيين المسلمين والمسيحيين، وسواهم.

وهكذا، تقول الخلاصة المنطقية البسيطة أنّ حقّ كرد الإقليم في تقرير المصير لا يُنازع، من جهة؛ ولكنه بوّابة نزاع، بل نزاعات، من جهة ثانية. وفي هذا ثمة مسؤولية مضاعفة على جماهير الكرد، وعلى قياداتهم، في تسيير دفة المستقبل إلى برّ أمان عراقي ــ كردي، ثمّ كردي ــ كردي أيضاً!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

 

 

في التمرين على فكرة الانفصال/ عمر قدور

يأخذ أصدقاء أكراد على جيرانهم العرب قلة النسبة التي أيدت استفتاء الإقليم، وهي ملاحظة قد تكون وجيهة في الميزان العددي. وقد يبدو بعض العرب من خارج دول التواجد الكردي أكثر حماساً لحقوق الأكراد، وهذه ملاحظة أخرى يجدر تمحيصها، من دون بخس المتحمسين مكانتهم الأخلاقية أو المعرفية، ومن دون إهمال الأهمية الموضوعية الخاصة بمن هم أكثر التصاقاً بالمسألة الكردية.

الملاحظة الثالثة، للمفارقة، التي ينبغي التوقف عندها ذلك التقدم في قبول الحق الكردي، مهما تم التقليل من نسبته، في الوقت الذي وقفت فيه الأنظمة الدولية والإقليمية بلا استثناء يُذكر ضد الاستفتاء. ولنا أن نسترجع في هذا السياق أزمنة ظهرت فيها القضية الكردية محمولة فقط على تقاطع مصالح أنظمة، من دون أن تنال اهتماماً وجدلاً شعبيين لائقين، ولنا أن نتخيل شبه انعدام لنسبة المتعاطفين حالياً لو أجري هذا الاستفتاء قبل عقدين على سبيل المثال.

أيضاً لا بأس في تفهّم تلك المواقف المختلطة أو المضطربة إزاء موضوع الانفصال، والتي صدرت من أناس يقرّون بالحقوق الكردية مع إبداء تحفظات على الانفصال، سواء لجهة المبدأ أو التوقيت. تحوّلٌ كبير من عيار قيام دولة جديدة كفيل بكشف هذا الوعي الشقي، الوعي الذي يتمزق «بإخلاص شديد أحياناً» بين منظومة فكرية وإرث وجداني، فتشدّه الأولى إلى المغامرة ويشدّه الثاني إلى ما ألِفَه واستقرّ عليه.

في ما يخص العراق تحديداً شهدنا شيئاً مشابهاً من قبل، فكثرٌ ممن كانوا على عداء مع نظام صدام آلمهم مشهد دخول الدبابات الأميركية بغداد، بل كان بين المتألمين من لا يرى خلاصاً من نظام صدام إلا بتدخل خارجي!

يجوز لنا أن نضيف إلى ذلك الوعي الشقي إرثاً ثقافياً متشابهاً ساد من قبل في دول الوجود الكردي، فالتيارات القومية أو الإسلامية العربية والتركية والفارسية تنهل من النبع الإمبراطوري القديم ذاته، وتغذّي ذلك الجرح النرجسي بنقصان دولة الواقع لا بالقناعة فيها. في هذا المخيال، ثمة دولة سابقة على الجماعة (أو الجماعات) المعاصرة، والواقع بإمكاناته المحدودة أضعف من مساندة ذلك المخيال. يزيد في تلك الفجوة ممارسات القوميين عندما تسلموا السلطة، فكانت سلطتهم نزولاً إلى مستويات طائفية، أو إلى مستويات مبتذلة من تضافر الفئوية والفساد والطغيان.

وإذا كان العقد الأخير عقد تصالح بعض «النخب» مع الدولة «الوطنية»، فهو لم يأتِ فقط بعد فوات الأوان، بل أتى غالباً للتصالح مع الواقع بصرف النظر عن الاقتناع به. أي أن الدولة (الموجودة هذه المرة لا تلك الغابرة) بقيت هي المرجعية، أو رُفِعت أحياناً إلى مرتبة المقدّس الذي لا يجوز المساس به، واعتُبر سكانها مجتمعاً لأنهم وجِدوا على هذه الجغرافية السياسية الواحدة، وهي ذاتها التي كانت نسبة من «المجتمع» ذاته قد رفضت التوقف عندها منذ حين.

إلا أن المرجعية الإمبراطورية للفكرين القومي والديني لا تكفي لتفسير حال مجتمعاتنا. لبنان مثلاً كان قد نجا إلى حد كبير من تحكم الأيديولوجيتين، ولم ينجُ من محاولات الغلبة بين مكوناته، وهي محاولات فاقت وعرقلت أي مشروع وطني جامع. الاحتكام المتواتر إلى العنف دلّلَ دائماً على اختلال في توازنات القوى، إما نتيجة تضخم الإحساس بالمظلومية، أو نتيجة الثقة بفائض القوة المتحصل. ما كان منبوذاً في النموذج اللبناني السيئ الصيت تكشّف عنه العديد من المجتمعات التي كانت مقفلة بحكم الطغيان، وهو انكشاف سبق بأشواط طويلة عُدَداً فكرية سائدة تفترض بديهية تحقق الاجتماع ضمن الدولة أو ما يتعداها.

ليس سهلاً والحال هذه تقبّل فكرة الانفصال، أو التفكير فيها على أنها ملازمة لفكرة أو واقع الاجتماع البشري. هذا لا يتطلب فحسب عدم تقديس الخرائط القديمة أو الجديدة، بل يتطلب أساساً أولوية فكرة التعاقد الاجتماعي على الدولة. والأخيرة كما هو معلوم تقلّصَ دورها القسري في المجتمعات الديموقراطية لتكون مطابقة للتعاقد الاجتماعي، حتى إذا كانت سابقة عليه. وفي المثال الأوروبي الذي يبدو أكثر قرباً لنا، سُحب من رصيد الدولة التقليدي من تحت ومن فوق، من تحت عبر التوسع المستمر في اللامركزية، ومن فوق بهيئات الاتحاد الأوروبي وحدوده المفتوحة. المثال الأوروبي تحديداً تتضح قراءته الخاطئة من قبل القائلين بأننا نذهب إلى التشرذم، بينما يسعى الأقوياء إلى الاتحاد، لأنهم بغالبيتهم يتوهمون وجود القوة في الدولة بالمعنى التقليدي، ولا يخرج عن هذا الإطار يساريون أرثوذكس أو شعبويون يرون في الحكومات الأوروبية والاتحاد الأوروبي محض تمثيل لكارتلات اقتصادية عابرة للحدود.

الجدل حول انفصال إقليم كردستان تتعمق فائدته إذا تجاوز ما يظهر انقساماً قومياً إلى التفكير في انفصالات أعنف، على رغم أنها لا تظهر ميولاً استقلالية، أو بالأحرى تعوّض عنها بالميل إلى الهيمنة. فلا يبقى حينها مفهوم الانفصال أيديولوجياً فحسب، وإنما يوضع أيضاً في مكانه الملائم إلى جانب مفهوم السلطة، ويظهر الانفصال تعويضاً عن سلطة مُفتَقدة، سلطة يُنظَر إليها كحق، ولا يندر أن يتعاظم الإحساس بالحق طالما كان ممنوعاً. كلما كانت السلطة القائمة فئوية واحتكارية ستتعزز ميول الانتقام منها وما تمثله، أو ميول الانفصال عنها.

الاعتراف بهذا الحق في الانفصال لا يقود تلقائياً إلى التشظي، لأن ما يردع الأخير (تلقائياً أيضاً) رزمة من المصالح التي يحققها الاجتماع السياسي، إذا أتيحت في الأخير حدود مقبولة من التكافؤ. هنا، في مجال الاجتماعي السياسي، نقلة يجدر الانتباه إليها. المقصود لم يعد ذلك المفهوم الكلاسيكي لحق الجميع في الصراع السلمي على قمة السلطة، وإنما حق الجميع في استحواذ مستدام على مقدار من السلطة يكفل ذاتياً الحرية للجماعات والأفراد.

من المؤسف أن الحصار الذي بدأ على إقليم كردستان بعد الاستفتاء، والتلويح باستخدام القوة وإشعال صراع جديد في المنطقة، سيساهمان في استقطابات سياسية غرائزية تحجب التفكير في ما يعنيه استقلال الإقليم، وتبعات ذلك ليس على المسألة الكردية وحدها في الدول المجاورة، وإنما على تفكير مستحق في ما تعنيه هذه الدول وآفاقها. لن يبقى الوعي شقياً بوجدانه فقط، بل أيضاً بالأنظمة المستحكمة التي تشده من أذنيه.

الحياة

 

 

 

أي دولة يعدنا الأكراد بها؟/ نجيب جورج عوض

لا تنفع واقعياً مقاربة المسألة الكردية من نفاد تاريخي، فعدم وجود أدلة تاريخانية وأركيولوجية علمية كافية تثبت وجود كيان اسمه كردستان من عدمه في التاريخ لا يؤثر، لا سلباً ولا إيجاباً، على مسألة القرار الدولي الجيواستراتيجي بالسماح بوجود تلك الدولة بالدرجة الأولى. فلم يكترث أحد في العالم لشح الأدلة التاريخية والأركيولوجية العلمية على وجود دولة إسرائيل، حين قرّر صناع القرار العالمي إيجادها في المنطقة. لن تنفع أيضاً مقاربة المسألة الكردية سوسيولوجياً وأنثربولوجياً، من خلال التذكير بأن مفاهيم “قومية” و”إثنية” العائدة إلى القرن التاسع عشر ما عادت تحظى بأي دور تعريفي في فضاء اليوم العولمي.

تأسيس كيان دولتي اسمه “كردستان” مسألة سياسية صرفة، وتأتي في سياق استراتيجيات يريد صناع القرار الدولي تطبيقها في المنطقة. كما أنه لا يفيد الكرد أو سواهم أن يتصدّى الرأي العام على امتداد دول الإقليم المشرقي، لتشجيع خطوة الاستفتاء على الاستقلال الذي جرى أخيرا والمباركة للأكراد قرارهم، أو لمناهضة الخطوة ومهاجمة الأكراد وإدانتهم بسبب الاستفتاء. الموقفان مجرد عواطف وشعوريات عامة لا يكترث لها (التي تؤيد والتي تناهض) أحد من أطراف صنع القرار، التي إما أوعزت للأكراد بالسير في حلمهم في هذا التوقيت بالذات، أو التي تدعم الخطوة من وراء الستار، على الرغم من علو صوتها الإعلامي والدبلوماسي بما يوحي بخلاف ذلك.

يجب مقاربة المسألة الكردية من زاوية سياسية، تتعلق بماهية الدولة التي يحلم بها من يريدون أن يوجِدوها، وتركيبة هذه الدولة. علينا أن نقرأ القرار الكردي، الاستفتاء والاستقلال، في سياق أوسع، يتعلق بوجود قرار دولي حاسم بتحويل منطقة الشرق الأوسط إلى أنظمة فيدرالية. السؤال الذي يخضع للنقاش في ساحات تكوين الأفكار(يؤجل عملية تطبيق الفدرلة بشكل واسع

“إذا كانت الدولة ستقوم على ماهية قوموية صرفة فالأكراد إذا ماضون نحو تأسيس دولة أحادية” وحاسم في هذه المرحلة) هو سؤال القاعدة السوسيولوجية والأنثربولوجية التي سيتأسس عليها أي نظام فيدرالي في المنطقة: هل ستكون الفيدرالية على قاعدة دينية، أم طوائفية، أم عرقية، أم لغوية أم إيديولوجية.. إلخ؟ يعلم الأكراد أن المنطقة تسير نحو هذا التحول وبسرعة في الواقع، ويدركون أن الدول التي ينتمون لها جغرافياً بحكم وجودهم المعيشي قد لا تبقى في البنية والتركيبة التي كانت عليها في القرن الماضي (بما في ذلك تركيا وإيران اللتان لن تبقيا كما عرفناهما في القرن الماضي). لهذا، يفضّلون أن يكون لهم كيان منفصل ومنذ الآن، كيلا يتأثر وجودهم الجغرافي والسكاني والحياتي بالمتغيرات البنيوية التي ستعيد تشكيل معظم (إن لم يكن كل دول تلك المنطقة) وفق آليات إدارة وحكم فيدرالية لامركزية. في ضوء هذا، يسارع الأكراد إذاً لتهيئة الرأي العام الإقليمي والعالمي لفكرة تأسيس كيان دولتي مستقل، وكذلك لدفع تركيا وإيران إلى الانجراف نحو درك الفدرلة أيضاً في المستقبل الآتي.

علينا أن لا نقف مع هذا القرار أو ضده في المطلق، ليس فقط لأنه لا مطلقات في السياسة ولا مشاعر. بل كذلك لأن علينا أن نقيمه في ضوء طبيعة ماهية تلك الدولة العتيدة البنيوية وتوجهاتها، وهي الدولة التي سيتأسس على قاعدتها كيان كردستان: إذا كانت تلك الدولة ستقوم على ماهية قوموية صرفة، فالأكراد إذا ماضون نحو تأسيس دولة أحادية لا تعددية، وقوامها هيمنة إيديولوجية قوموية واحدة، وفرضها بالسلطة على كل جماعات المجتمع وفئاته الشعبية، سواء كانت تلك الفئات تؤمن بتلك الإيديولوجيا أم لا. أما إذا كانت تلك الدولة ستقوم على ماهية لغوية- ثقافية أحادية (الكردية في هذه الحال)، سنجد أمامنا دولة أحادية طغيانية أخرى، تعيد تماماً نمذجة معظم دول العالم العربي ودولة إسرائيل. أما إذا كنا سنشهد دولةً قوامها هيمنة دينية أو طائفية، فكردستان العتيدة ستنمذج عراقاً ولبنان وتركيا وإيران آخر. بكلمات أخرى، المهم أن يوجِد الأكراد فعلاً دولة لا تشبه أبداً الدول التي يوجد فيها الشعب الكردي فيها أو قريبة جغرافياً منها، ولا تتماهى مع هذه الدولة أو تقع في فخ أي منها، فكل تلك الدول المجاورة تنمذج دولاً مريضة حتى النخاع بالأحاديات والهيمنة واللاتعددية واللاتنوع والعنصرية والاستبداد على مستويات دينية وطائفية وعرقية ولغوية وإيديولوجية.

إذا كان الأكراد سيؤسسون دولة تعددية، علمانية، ديمقراطية، مدنية، عصرية تحتضن بشكل

“نريد أملاً بعلاج في المشرق، لا كيانا جديدا يزيد المرض إعضالاً” متساوٍ وعلى قاعدة شرعة حقوق الإنسان كل فئات البشر الموجودة في أماكن وجود الأكراد جغرافياً، من تركمان وعرب وسريان وأيزيديين وآشوريين وأرمن، .. إلخ. وإذا كانوا سينجحون في تأسيس تلك الدولة في المنطقة بحق وفعلياً، فعلينا جميعاً أن نشجّع تلك العملية، لأنها ستوجِد نموذجاً جديداً غير مسبوق لدولةٍ فشلت شعوب المنطقة أجمعها (بما فيها لبنان)، حتى تلك اللحظة، في إيجادها. سيكون عندنا نموذج نابض كي نتعلم منه، وربما نقلده جميعاً. ولكن، وعلى العكس، إذا ما انتهى الأمر بالأكراد إلى إيجاد دولة تقوم على استبداد فريق بشري معين، ووصايته، بدلالة لغته وثقافته وعرقه وتاريخه وإيديولوجيته، لا بل ودينه وطائفته، على باقي الشرائح البشرية والمجتمعية الأخرى، فنحن إذاً سنشهد لا مجرد ولادة دولة إسرائيلية ثانية، بل وولادة دولة مشرقية جديدة، لا تختلف أبداً وبأي شكل عن دول المنطقة الموجودة حالياً. أي أننا بدل أن نعالج المرض، نسمح بامتداده وتضاعفه. علينا إذاً أن نراقب وندعو بجدية الأكراد إلى أن يعملوا على إيجاد الدولة الأولى، وعلى عدم الوقوع في فخ الانجرار إلى إيجاد الدولة الثانية. نريد أملاً بعلاج في المشرق، لا كيانا جديدا يزيد المرض إعضالاً.

العربي الجديد

 

 

 

الاستقلال ترياقاً للكرد!/ شورش درويش

يصدق على ما يحدث في العراق اليوم ما اصطلح على تسميته «لعنة التاريخ»، فحين تتشظى الهوية العربية إلى هويات طائفية متناحرة، وعندما يتحوّل الجيش الوطني إلى مؤسسة رديفة لمليشيات الحشد الشعبي، وحين يتحوّل البرلمان إلى مغالبة بين النوّاب والكتل على إثبات الولاء الطائفي، وحين تعجز الطبقة السياسية عن تحويل الدولة إلى أمّة عبر مسيرة من مئة سنة، فإننا إزاء كارثة تطاول هيئة دولة.

بذا تصبح عبارة ملك العراق فيصل الأوّل أقرب إلى القدر العراقي المحتوم منها إلى تشريح حالة موقتة توصيفاً لحال العراق سنة 1921: «في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية…».

خلال السنوات التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين، لم تنجح الطبقة السياسية في التأسيس لدولة المواطنة، ولم تسعَ إلى مقاربة الحالة الأثيرة للدولة المعاصرة (الدولة – الأمّة)، ولا انتشال الدولة الغارقة في الإيديولوجية البعثيّة الملوّثة، بل اندفعت إلى سياقاتٍ موازية لتلك الصداميّة حيث العنف المضاد باسم الطائفة والمظلومية الشيعية واجتثاث البعث. وإن كان لا بد من «استبشاع» ظلم ما، فلا بد أن يكون ظلم المظلومين المؤمنين بأن التاريخ أنصفهم حين مكّنهم من السلاح والسلطة والمال!

خلال السنوات ذاتها، رفل كرد العراق بحياةٍ أفضل، لجهة التنمية الاقتصادية والأمن والتعليم والخدمات والصحة، قياساً بعموم العراق، إلى أن دفعت بغداد أكرادها دفعاً صوب أكثر الخيارات حديّةً (الاستقلال). فقد عاملت بغداد كرد العراق كأنهم «سنّة»، وتشبيه الكرد بسنة العراق هنا على مرارته يبدو لي واقعياً، إذ يستبطن كل معاني الحرمان والاستبعاد ونقض الشراكة. فالرئيس الكردي المقيم في قصر السلام والطاقم السياسي الكردي في بغداد باتوا أشبه بظلال ساكنة، لا قيمة لهم ولا تأثير، وفوق ذلك مهدّدون بالإعفاء من مناصبهم لحظة تغضب بغداد أو تشاء، ومن دون الالتفات إلى الشراكة التي وضع أسسها من هم في الحكم في بغداد وأولئك الذين في أربيل في أكثر المراحل صعوبةً زمن صدام في لندن وصلاح الدين في كردستان.

خلال الأزمة التي سبقت استفتاء الإقليم، تعاملت بغداد بلا مسؤولية، وصدّعت رؤوس الإعلام بالأخطار التي ستحيق بالكرد حال استقلالهم، وبشّرت على نحو متكرّر بمصير أسود ينتظر الكرد أسوةً بما حل بأهل جنوب السودان، من فوضى وقتال أهلي وجوع ونهب للخيرات الباطنية، ولم يكن في جعبة بغداد سوى التبشير بالخراب العميم. أما في الأيام التالية للاستفتاء، الذي جاء بنتيجة تأييد تجاوزت الـ 92 في المئة، فقد أفردت بغداد ذراعيها مجدداً عبر حزمة من التهديدات والقوانين التي من شأنها أن تضاعف الأوضاع الاقتصادية في الإقليم سوءاً، إلى جوار التلويح بالحرب، ودائماً عبر مؤسستها القاضمة للدولة (الحشد الشعبي)، ناهيك عن إفساح المجال لمعمّمي العراق في تسعير الخلاف عبر ضخ التهديدات وإضفاء الطابع الشرعي عليها، وهذه الأخيرة تشكّل قطعاً للتراث الشيعي المعاصر الذي قال به المرجع الأعلى محسن الحكيم الذي أفتى بـ «حرمانية قتال الكرد»!

تتحزّم بغداد بسوء الجوار الكردستاني (الإيراني والتركي)، ويشدُّ من أزرها مقدار غضب الجمهوريتين من استقلال أحد أحجار البازل الكردي حولهما، ذلك أن من شأن أي اعتداء عسكري أو حصار يرمي إلى تجويع الكرد أن يزيد من حظوظ بغداد التفاوضية مع الكرد، على أمل بأن تساهم هاتان القوتان في إعادة الكرد مهيضي الجناح إلى دولة الطائفة الواحدة، وريثة دولة الحزب الواحد، وبالتالي القبول بالفتات السياسي، وتخفيض حصّة الإقليم الماليّة إلى مستويات أدنى مما هي عليه، فضلاً عن تمكين بغداد من التدخل في شؤون الإقليم الداخلية نكثاً بالشراكة وتنكيلاً بخصومهم السياسيين الكرد.

كانت الأهزوجة الشعبية الشيعيّة العراقية (الهوسه) إبان ثورة العشرين تعلي من شأن الكرد بالقول: «ثلثين الجنة لهادينا وثلثه إلكاكه أحمد وأكراده»، فإذا كان لكرد هذه الهوسه ثلث الجنة فإنهم والحال هذه لا مكان لهم لا في الدنيا التي تحكمها الطائفة السياسية، ولا في الآخرة التي هي بيد معمّمي الطائفة ذاتها. ليصبح خيار الانفصال أفضل ترياق يمكن أن يتناوله الكرد للتخلص من الدولة المسمومة.

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

 

 

الأكراد في مواجهة التهديدات والدرس السوري/ سميرة المسالمة

تناقش الدول الأربع التي يمتد عليها الوجود الكردي (تركيا وإيران والعراق وسورية) قضية انفصال شمال العراق («كردستان») من منظور تحريمي، أو مما تعتبره أمنها القومي، مؤكدة أن ذلك غير قابل للمناقشة والحوار. وهي- أي الدول الأربع- كانت أمضت عقوداً تتجاهل وجود «المسألة الكردية»، اعتقاداً منها بأن التجاهل قد يؤدي إلى النسيان، وأن انتهاج الحظر والعنف والقسر في مواجهتها لشعوبها يقمع أو يجهض طموح هذه الشعوب بالحرية. وبينما كانت المسألة الكردية، ولا زالت، عامل تفريق بين هذه الدول، فإن القاسم المشترك اليوم بينها هو توحيد الموقف في القضية نفسها، برفض استفتاء كردستان العراق، والتوافق على فرض عقوبات عليها، بين أطراف إقليمية تعيش حالة خصومة بل وحرب بالوكالة في ما بينها.

وبينما يوحّد التخوّف من إقامة كيان كردي ديموقراطي هذه الدول، يتم في الوقت ذاته تجاهل مطالب الشعوب (وضمنها الأكراد) التي تبدي بوضوح رغبتها في أن تبقى ضمن إطار الدولة الواحدة، (في سورية مثالاً) إذ تهيئ الأنظمة المستبدة لسيناريو النظام العراقي، على رغم أنها ترى نتائجه على أرض الواقع، ولا تحاول تدارك أسبابه، منعاً من تكرار السيناريو الذي يقود فعلياً الشعوب إلى التفكير بالانفصال، أو اللجوء إلى حلول شبه انفصالية، ولعل هذا ما يجب أن تفعله هذه الدول، في ما تبقى لها من خيارات متاحة مع شعوبها لإقامة نموذج الدولة الديموقراطية، على أساس المواطنة المتساوية، بدل أن تقود تلك الشعوب إلى خيارات المواجهة مع التقسيم والانفصال، في ظل انعدام الرؤيا والحكمة والتقدير لهذه الأنظمة، ومع الأسف أيضاً عند بعض معارضيها (وثيقة لندن أيلول/ سبتمبر 2016 التي تتحدث عن رؤية المعارضة لسوريا الجديدة، والتي تلاقت فيها الهيئة العليا للتفاوض مع النظام في تجاهل السعي لإقامة الدولة الديمقراطية لمواطنين أحرار متساوين).

لعل ما حدث في العراق يعطي الدول التي ترفض الاستفتاء درساً جديداً في حق المواطنين أفراداً ومجموعات، أو قوميات، ويجعل تفكيرنا في سوريا القادمة يختلف عن الأوراق المتناثرة التي ابتدعتها المعارضة في رؤيتها لسوريا ما بعد المرحلة الانتقالية، كما ينهي إلى الأبد سياسات النظام السوري الإقصائية والاستبدادية، التي مارسها لنحو خمسة عقود ماضية. فالنظام السوري الذي يقف اليوم معارضاً لاستقلال أكراد العراق، هو ذاته الذي طالما استخدمهم كورقة ضغط ضد نظام العراق، كما هو حال تركيا في استخدامها الأكراد ضد النظام العراقي، واستخدام إيران وسورية لأكراد تركيا ضد نظام الحكم في تركيا، ولكن في وقت الحسم الذي اختاره أكراد العراق، بعد طول انتظار، تناست هذه الأنظمة خدمات الأكراد، وتوظيفاتها الضيقة والسلطوية لهم، كاشفة عن حقيقة أن خلافاتها البينية يمكن تجاوزها لتحل مكانها توافقات المصلحة المشتركة في عرقلة المشروع أو الطموح الكردي.

ومن نافل القول أن الأنظمة العربية تحديداً التي تعلن رفض الاستفتاء (سورية والعراق) لم تستطع خلال عقود من استقلال دولها بناء مجتمعات المواطنة، التي تجعل كل المواطنين يشعرون بالانتماء المتساوي لهذه الأوطان وإزاء القانون والدولة، كما لم تبن لهم مصالح تربطهم بها، تجعل من الصعوبة لأي مكون أو فرد أن يذهب به الحال اليائس من أنظمته إلى البحث عن سبل للخلاص منها، تحت ظل الدولة الواحدة أو بالانفصال عنها. ومثلاً فقد كان للعراق فرصة النجاة، بكل العراق، من خلال ما اتفق عليه في الدستور الفيدرالي الذي اعتمد اللامركزية (2005)، لكن ارتهان ساسة العراق لإيران وخضوعه لهيمنة ميليشياتها المذهبية والمسلحة، والتراجع عن الاتفاقيات المبرمة مع الأكراد، أعطى المبرر، وسهل على الرئيس مسعود البرزاني في شمال العراق اللجوء إلى خيار المواجهة- الاستفتاء، آخذاً بيد مؤيديه على الأقل، إلى إحياء حلم ظنت الأنظمة أنه قد مات، بفعل القمع والتجاهل والتعصب وطمس حقوق المواطنة الكاملة للأفراد والقوميات، وقيادة شعبه نحو استفتاء هو أشبه بمغامرة، فالرجوع عنها يساوي الإقدام عليها.

في المقابل، فإن الحديث عن الاستقلال وكأنه نهاية المطاف لحلم الدولة بإقامتها، يشوبه عديد من المشكلات، إذا لم يرتبط بإقامة دولة مواطنين متساوين وأحرار، وبأنظمة ديموقراطية تخضع للمؤسسات والقانون، وإذا لم يعتمد النظر في مصالح حقيقية تربط كل مكونات المجتمع، أولاً – على أساس فردي وهو الأهم، لأن المواطنة هي التي تشكل البنية المجتمعية الأساسية. وثانياً- على أساس جمعي يأخذ في اعتباره حقوق المكونات الإثنية أو القومية أو الطائفية، في التعبير عن ذاتها. أي أنه من دون هذا الترتيب فإن هذه الدولة قد تكون إزاء مشكلات تؤجل ولا تموت، كحال ما هو قائم في بلداننا العربية ومنهم سورية. وعليه فإن ما ورد في «الوثيقة السياسية» لضمان حقوق المكونات القومية والدينية في كردستان، من تركيز على حقوق المكونات فقط، يجعل التخوّف مشروعاً، حيث الحديث يدور أساساً، أو في معظمه، عن ديموقراطية توافقية للجماعات، إذ سيكون ذلك محور الحياة السياسية، وكأن من صاغها استرشد باتفاق الطائف لانهاء الحرب الأهلية في لبنان، (الديموقراطية الطائفية)، وبذلك تتجاهل الوثيقة- إلى حد ما- والتي يفترض أنها تؤسس لدستور جديد لحقوق المواطنين الأفراد المستقلين عن الكيانات والانتماءات الجمعية، ما قد يكرس العصبيات والهويات الجمعية، قبل الوطنية، على حساب حقوق المواطنة الفردية.

ما يجب فــهمه من قبل الأنظمة وتحديداً النظامين السوري والإيراني أن ما حصل يوم الإثنين الماضي 25 أيلول ليس نهاية مرحلة، سيغلق بعدها ملف الأكراد في المنطقة، بل هو بداية لما يمكن تســميته مواجهة الواقع، لفتح الملف الذي لا يزال بعضهم يظنه قد أقفل إلى الأبد. وهذا يشـــمل ســورياً (النظام والمعارضة)، لهذا على الأطراف المعنية بسوريا المســـتقبل، ولا سيما أطراف المعارضة، أن تفكر بطريقة أخرى، لمعالجة المــسألة الكردية، بالضد من الســياسات الإقصائية التي اعتمدها النظام في مصادرته حقوق الأفراد والجماعات، وفي تجزئته الجماعة الوطنية السورية، ووضــعه مكـــوناتها في مواجهة بعضها، بدل العمل على إيجاد فرصة للنجاة بها كوحدة سورية، قبل التشدق بشعارات الوحدة مع الآخرين، وهذا لن ينجز إلا بإقامة دولة سورية كدولة مؤسسات وقانون ومواطنين متساوين وأحرار، وكدولة ديمقراطية «فيديرالية مثلاً» على غرار دول العالم المتحضرة، حيث الفدرالية على أساس جغرافي وليست على أساس اثني أو طائفي.

هكذا يمكننا القول بأن هذا هو الشرق الأوسط الجديد خاصتنا، وليس الذي كانت أعلنت عنه كوندليزا رايس الوزيرة السابقة لخارجية الولايات المتحدة الأميركية، منذ عام 2006، والأجدى أن نقول إن الأنظمة الاستبدادية هي التي تجعل من العرب عربين، ومن السيادة الوطنية مزارع حكم استبدادية، وبالتالي هي السبب الأساس في خلق «الفوضى الخلاقة» التي بشرت بها رايس ذات مرة.

* كاتبة سورية.

الحياة

 

 

انفصال كردستان بريكست كردي/ بشير البكر

مرّ الاستفتاء على انفصال إقليم كردستان عن العراق بنجاح، وبات الطريق مفتوحاً، من الناحية النظرية، نحو طي صفحة الشراكة بين العرب والأكراد في مشروع الدولة الاتحادية التي تشكلت وفق دستور عام 2005، والذي تم وضعه تحت إشراف المحتل الأميركي، من أجل تنظيم “العملية السياسية”، بما يحفظ حقوق جميع المكونات العراقية.

يضع نجاح خيار الاستفتاء العلاقات بين بغداد وأربيل ضمن مسار جديد، لكنه لا يعني، في أي حال، أن قاطرة الانفصال باتت على السكة، ولا ينقصها كي تتحرّك غير الاتفاق على الجلوس حول طاولة مفاوضاتٍ من أجل التوصل إلى تفاهماتٍ عن شؤون الطلاق، فالمسألة تبدو معقدةً، وتتجاوز مستوياتها الثنائية إلى البعدين الإقليمي والدولي، في هذا الوقت الدقيق جداً الذي تعيش فيه الحرب ضد “داعش” فصلها الأخير في كل من العراق وسورية.

سؤال اليوم التالي، وماذا بعد الاستفتاء؟ بات مطروحاً على طرفي المعادلة العراقية، كما على الأطراف الإقليمية والدولية. ويختلف هذا السؤال، في أهميته، عن كل الأسئلة التي كانت مطروحة قبل الاستفتاء، وبات مطلوباً من كل طرفٍ أن يقدم إجابة شافية، ترقى إلى طبيعة المرحلة الجديدة من جهة، وبما يناسب مصالحه ورؤيته من جهة ثانية.

خارطة المواقف التي ارتسمت قبل الاستفتاء لن تكون بالضرورة نفسها التي ترتسم الآن، ومن المنطقي أنها سوف تتغير، تبعاً للمصالح التي ستتشكل بعد إنجاز الاستفتاء. كانت الأطراف تعمل للحيلولة دون إجراء الاستفتاء، ومن حول هذا كانت تتشكل مصالح. واليوم بعد أن جرى الاستفتاء، لن تبقى المصالح على حالها، بل سوف تتحرّك، ومثال ذلك ما كان يجمع بغداد وطهران وأنقرة قبل الاستفتاء لن يصمد كلياً بعد الاستفتاء، على الرغم من أن الدول الثلاث تتصرف الآن على أساس تحالفٍ يربطها من أجل منع الانفصال. وينسحب الأمر ذاته على الولايات المتحدة وأوروبا التي سوف تتعامل مع نتائج الاستفتاء، بغض النظر عن الاعتراف به. وهناك وجهة نظر يتردّد صداها في الإعلام الغربي، ومفادها أن الاستفتاء قد حصل وانتهى الأمر، وسيكون مطلوباً من الجميع التعامل مع الأمر الواقع الذي جاء به هذا الاستحقاق، وقد بدأت الكواليس الدبلوماسية في هذه الدول تتحدث عن ضرورة اتباع طريق الواقعية في التعامل مع الخطوة الكردية، وهناك ضغوط على الطرفين، العراقي والكردي، بضرورة التهدئة وعدم الانجرار إلى التصعيد.

في حال نجاح مسعى التهدئة، فإنه سوف يقود إلى خطواتٍ لاحقةٍ، تفتح باب المساومة والجلوس على طاولة المفاوضات التي سوف تلعب فيها الولايات المتحدة دور المايسترو.

في المدى المنظور، تبدو المسافة شاسعة بين مواقف بغداد وأربيل، وخيار الحكومة العراقية هو الاستمرار في الإجراءات العقابية لسلطات أربيل. وبدأت بطلب تسليم النقاط الحدودية والمطارات، وبرّرت ذلك على أنه إجراءات دستورية، وتبين أن بغداد تمتلك قدراً لا يستهان به من الأوراق للضغط على الأكراد، وعكست نبرتها صرامةً وعدم قبول أي تسوية أو حل وسط، والسقف الذي تضعه أمام الأكراد لا ينزل عن إلغاء نتائج الاستفتاء، وأن تتراجع القيادة الكردية عن مشروع الانفصال.

في هذا الوقت، تتصرف قيادة إقليم كردستان ببرودة أعصاب، وتبدو مطمئنة إلى أن إجراءات بغداد لن تكون قابلةً للتطبيق من جهة. ومن جهة أخرى، هي تراهن على موقفٍ دولي يساعدها في مواجهة بغداد وأنقرة وطهران، كما أنها تتصرف من موقع اعتمادها على وقوف الشارع الكردي من خلفها. ولذلك رفضت المهلة التي حددتها بغداد لتسليم المطارات والنقاط الحدودية والتي تنتهي مساء اليوم، إلا أنها لم تكشف عن خطةٍ بديلة، ويبدو وضعها شبيهاً بوضع الحكومة البريطانية التي ذهبت إلى استفتاء بريكست، ولم تتوصل بعد أكثر من سنة إلى خريطة طريق للخروج من الاتحاد الأوروبي.

العربي الجديد

 

 

 

 

القضية الكردية على جدول أعمال الحرب الإقليمية/ برهان غليون

أنا ممن يعتقدون أنه من دون تعاون إقليمي واسع يتجاوز الحدود القومية والسياسية، ويؤسس لفضاء تنمية اقتصادية، وأمن جماعي يطمئن الجميع ويشرك الجميع ويخدم مصالحهم، لن يكون للشرق الأوسط الذي يعيش أكبر أزمة ثقافية وسياسية واقتصادية في تاريخه، تختلط فيها ثورات الشعوب من أجل الحرية وفرض احترام الحقوق الإنسانية الأساسية بالمطالب القومية المحبطة منذ عقود والكوارث الاجتماعية النابعة من إخفاق سياسات التنمية الاقتصادية، إن لم نقل انهيارها وعودة الاحتلالات الأجنبية، أي مستقبل، وسوف يغرق أكثر فأكثر في الحروب والصراعات الداخلية والخارجية، ويتحول، لا محالة، لمفرخة لكل أشكال التطرف، بل لتعميم أساليب العنف والإرهاب، كما لم يحصل في أي وقت، على جميع العلاقات الداخلية والخارجية.

(1)

وقد كتبت عن ضرورة الإسراع في فتح مفاوضات بين دول المشرق التي تضم الشعوب الأربعة الكبرى التي صاغت تاريخ المنطقة، بصراعاتها وتفاهماتها معا، العرب والكرد والأتراك والفرس، منذ أكثر من عقدين، وقلت إن بديل العمل من أجل إقامة منطقةٍ للأمن والتعاون بين هذه الشعوب هو ترك المجال مفتوحا لكل أنواع الصدام والصراع والنزاع، وتخليد الحروب الداخلية والإقليمية. فالحرب هي النتجية الحتمية للتناقضات المتفاقمة من دون أفق للحل، والمخرج الطبيعي للنخب الفاشلة من مواجهة المسؤولية ومحاولة تحميل عبء فشلها على الشعب، أو على الدول والشعوب المجاورة.

هذا ما حصل ويحصل عندنا الآن بالضبط، فأصبح تحقيق الأمن لهذه الدولة أو تلك يقوم على زعزعة أمن جارتها، وتحقيق الاستقرار في هذا البلد أو ذاك، أو زيادة موارده، وتعظيم مصالح نخبه الحاكمة، يتوقف على سحق أي روح نقد أو احتجاج أو معارضة، وفرض الصمت المطلق على جميع الطبقات والطوائف والأحزاب، وحرمان الشعوب من أي حياةٍ سياسيةٍ، بل حتى ثقافية. والمشرق اليوم منطقة حروب ونزاعات داخلية وخارجية لا تنتهي، أي لا حل لها، ولا أحد داخل المنطقة أو خارجها يجرؤ على التفكير بالطريقة التي يمكن له أن يساعدها على الخروج منها.

والأغلب أن الدول الكبيرة في الغرب والشرق وآسيا وأميركا الشمالية، بل حتى في أفريقيا التي تكاد لا تلعب أي دور في السياسة الدولية، تشعر أكثر فأكثر بأنها تعبت من مشكلات الشرق

“الدول والحكومات في المنطقة تجد نفسها اليوم في طريقٍ مسدود، وأمام رهانات مصيرية ومخاطر لا أمل لها بمواجهتها” الأوسط، ولا تملك القدرة على تقديم ما يمكن أن يساعده على الخروج من أزمته، وأن أقصى ما يمكن أن تفعله أن تسعى إلى الحفاظ على مصالحها بأي ثمن، حتى لو اضطرها ذلك إلى تقسيم البلدان وتفتيتها، وضرب ما يشبه الحصار الصحّي على شعوبه، واقتطاع مناطق خاصة بها، تسيطر عليها مباشرة عن طريق تصدير “الخبراء” والمستشارين وإرسال المليشيات، وبناء القواعد العسكرية حول آبار النفط والمضائق والمصالح الأخرى، وترك الشرق أوسطيين يذبحون بعضهم بعضا إلى قيام الساعة. وهذا أفضل وسيلةٍ لتجنب خطرهم، ومنعهم من نقل شرورهم وعنفهم ومشكلاتهم إلى بقية بقاع العالم الأخرى. وأول من يجول بذهنه هذا التفكير هو حكومات الدول الكبرى التي كانت المسؤولة الأولى عن الخراب السياسي والاقتصادي والثقافي والديني الذي يعم المنطقة، وعن تدمير التوازنات التاريخية الكبرى التي كانت تحفظ لها استقرارها وسلام مجتمعاتها وتعاونها.

لكن ضحالة الثقافة السياسية التي تميز نخب هذه المنطقة، وغطرسة القوة التي كانت تسكن أذهان (ونفوس) حكامها الصغار والفارغين مثل الطبول، أو أغلبيتهم الساحقة، قد دفعت هذه النخب إلى الاعتقاد بأنها عنترة، وحالت دون رؤية مخاطر الانخراط في صراعات مفتوحة ولغايات مستحيلة، مع الاعتقاد الراسخ عند أطرافها المختلفة بأنها ستكون الرابح الأول، أو المستفيد الرئيسي منها. وأول هذه الحكومات التي افتتحت حقبة الرهان على القوة، ولا شيء غير القوة والقهر، هي الحكومة الإسرائيلية التي صممت على حرمان الفلسطينيين من أي أمل في استعادة أي جزء من فلسطين، يضمن لسكانها الحد الأدنى من الشعور بالاستقلال والسيادة وممارسة حقهم في تقرير مصيرهم، واستمرأت، تحت تأثير غطرسة القوة، الحرب المستمرة مع العرب بأكملهم، وجعلت من هزيمتهم وتمريغ حكوماتهم ونخبهم بالوحل عربونا لتفوقها الساحق على جميع دول الإقليم، ولتطمين شعبها على أمنه وازدهاره ومستقبله.

وهذا هو الزلزال الذي فتح الباب أمام الارتدادات المستمرة التي ستهز البلدان والمجتمعات

“لم تقدم حكومة بغداد سوى الحروب الداخلية والخارجية والتلاعب بالمليشيات الطائفية والبؤس والفقر والفاقة والاقتتال” العربية وتزعزعها، وتدفعها إلى الدخول في أزمة قيادةٍ لا حل لها، وتفجّر نزاعاتها الداخلية، قبل أن تصل إلى إيران ما بعد الثورة التي رأت في الزجّ بنفسها في أتون الحرب العربية الإسرائيلية أفضل وسيلة لتجنب تحديات تنميتها الداخلية، ومزاحمة الدول العربية على الهيمنة الإقليمية، ولتأمين مصادر الشرعية للحروب التي ستطلقها في العراق وسورية وغيرهما. وها هي حكومة حزب العدالة والتنمية التركية تواجه خطر الدخول في حربٍ مصيريةٍ لحماية الجغرافيا التركية من خطر الانفصال الكردي، بدءا من شمال سورية الذي تخشى أن يتحوّل، بدعمٍ غير مسبوق من الولايات المتحدة الأميركية، لحركة كردية استقلالية تشكل امتدادا للحركة الكردية الاستقلالية التركية، في وقتٍ لم تجد فيه بلدان الخليج العربي وسيلةً للتغطية على خسارتها الحرب في سورية، غير تفجير تناقضاتها الذاتية، وإشعال فتيل النزاع والحرب النفسية والإعلامية والسياسية فيما بينها.

والنتيجة أن جميع الدول والحكومات في هذه المنطقة تجد نفسها اليوم في طريقٍ مسدود، وأمام رهانات مصيرية ومخاطر لا أمل لها بمواجهتها أو بالحد من عواقبها المأساوية. وإذا استمرت الأحوال على ما هي عليه، ولم نجد الفرصة لمراجعة حساباتنا، ولا أقصد الحكومات وحدها، وإنما النخب السياسية والثقافية والاجتماعية عموما التي تملك مفاتيح النفوذ المتعدد المصادر، والتي تؤثر على الرأي العام، وتحدّد مسار الأحداث، وتبني خططا وأساليب أخرى للعمل داخل بلداننا، وفي محيطنا بين الدول والشعوب القريبة والمشاركة لنا في تحديد مصائر منطقتنا، فسوف نجد أنفسنا، بعد سنوات قليلة، في محرقة إقليمية لا سابق لها في تاريخ الدول، يزيد من استعار لهيب النيران المشتعلة فيها اختلاط القضايا والمسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقومية والأمنية والإنسانية، من دون أي قدرة على فصلها عن بعضها أو تفكيكها.

(2)

ما يدفعني إلى التذكير بمسألة العلاقات بين دول الإقليم وافتقارها لأي أسس وقواعد متفاوض عليها، وترك المنطقة نهبا للصراعات والنزاعات المتقاطعة والمتداخلة، حسب ما كانت تريده الدول الاستعمارية السابقة للاحتفاظ بنفوذها وهيمنتها. وبالتالي تفجر حروب التنافس والصراع على الهيمنة والنفوذ الإقليميين، كما نشهده اليوم، هو ما أثاره الاستفتاء الذي قرّرت حكومة كردستان العراق تنظيمه للانفصال عن العراق، وإقامة دولة مستقلة من تخبط وردود أفعال عنيفة في بلدان المنطقة ومحيطها، فهو يقدم نموذجا لنوعية الاختيارات العدائية التي وسمت علاقات حكومات الإقليم وشعوبه في ما بينها منذ عقود.

يكمن وراء هذا التوتر الشديد الذي أثاره قرار الاستفتاء الكردي مسألتان، جاء الجواب عليهما في الحالتين، في العراق وكثير من قطاعات الرأي العام العربي، وفي حضن الحركة الكردستانية، بطريقةٍ سلبيةٍ تعكس المخاوف والشكوك التي غذّتها سياسات الحكومات العربية والحركات السياسية، بما فيها الكردية في الماضي، وتعمل على إعادة إنتاجها. وفي جميع الحالات، وهذا هو المهم، دلت على أن كل الأطراف تنطلق من وجهة نظر مصالحها الخاصة، أو ما تعتبره مصالحها، من دون أن تأخذ بالاعتبار مصالح الأطراف الأخرى، بل مع محاولة الاستحواذ على جزء منها، أو حتى مع خطر تقويضها، بصرف النظر عن العواقب. والمحصلة بالطبع إشعال فتيل النزاع وفتح جبهة جديدة في الحرب الشاملة التي تلف الإقليم الشرق أوسطي منذ نشوئه.

هكذا افتتحت حكومة الإقليم معركتها بالإعلان عن شمول كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها بالاستفتاء، أي بفرض الأمر الواقع على مجموع العراقيين، وشرعنة ضمها مستقبلا، من دون أي مشاوراتٍ مع حكومة بغداد، أو سكان المناطق الملحقة بالاستفتاء، في وقتٍ ردّت فيه حكومة بغداد المركزية برفضها قرار الاستفتاء، ورفض البرلمان العراقي له من دون أي جواب واضح على اعتراضات حكومة الإقليم ومطالبها، أو اقتراحات مقابلة للخروج من الأزمة. وما من شك في أن ضم كركوك في الاستفتاء، من دون اتفاق مسبق مع بقية ممثلي الشعب العراقي والحكومة المركزية يشعل فتيل النزاع بين الطرفين، قبل أن يحصل الاستفتاء الذي ستكون نتيجته محسومةً لصالح الاستقلال.

وراء النزاع المتجدّد في العراق يتجلى انهيار المبدأ الذي قامت عليه العلاقات السياسية الداخلية والجيوسياسية داخل المنطقة، خلال العقود الطويلة الماضية، بل منذ تأسيسها على يد القوى الاستعمارية، والتي قوّضت استقرارها وتدفع بها اليوم إلى الانتحار، وهو مبدأ الإكراه. وعكسه مبدأ الحرية الذي يقوم على الاعتراف بحق الأفراد والجماعات والشعوب في الاختيار. وبالتالي الذي يقدم التفاهم على الإذعان، ويفترض الحوار والمفاوضات، وأبعد من ذلك الاعتراف

“القضية الكردية مركبة لا تقتصر على تفصيل سياسي داخل دولة واحدة، وإنما ترتبط بإعادة ترتيب الجغرافيا السياسية لمنطقة كاملة” بالآخر وبحقه في الدفاع عن مصالحه بالمثل. وتقدّم القضية الكردية التي طرحت نفسها بقوة على ضوء قرار الاستفتاء على الانفصال، تجسيدا مثاليا لهذا النظام/ السلام، القائم على الإكراه، وانهياره في الوقت نفسه. والطريقة التي ستعالج بها حكومات المنطقة هذه القضية سوف تحدّد أيضا مستقبلها القريب، أي مقدرتها على الخروج من أزمتها التاريخية، بتبني مبادئ جديدة تفتح باب التسويات والحلول الوسط واللقاءات على المصالح المتبادلة، أو الاستمرار في نظام الإكراه وسياسة فرض الأمر الواقع واستخدام القوة لحل النزاعات. وهذا يعني تبنّي خيار الحرب المستمرة، كما حصل في أوروبا في حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، بدل خيار الحوار والتعاون والتفاوض الذي لا مهرب منه في سبيل إيجاد بيئة آمنة، صالحة للاستثمار والتنمية التي نحن أحوج ما نكون لها اليوم، لتأمين فرص العمل والحياة الكريمة لملايين الناس المحرومين من أي حق، والمرميين على قارعات الطرق، في عواصم دولنا ومدنها وأريافها.

(3)

بصرف النظر عن نوايا حكومة الإقليم والمناورات السياسية التي ينطوي عليها قرار الاستفتاء، والانقسامات القائمة في صف الكرد أنفسهم، يطرح نزوع الكرد إلى الاستقلال في العراق مسألتين وليس مسألة واحدة. الأولى خاصة بالعراق، تعبر عن التدهور الكبير لعلاقات الكرد مع الدولة المركزية التي شكلوا جزءا منها منذ إنشائها. وهي نفسها جزء من مشكلة النظام العراقي الذي قام بعد الغزو الأميركي في بداية هذا القرن. وليس هناك شك في المسؤولية الرئيسية في دفع الكرد إلى الانفصال. بالنسبة للمسألة الأولى، تقع على كاهل الحكم المركزي العراقي، فقد استسلمت حكومة العراق للضغوط الخارجية، وبشكل خاص الإيرانية، وللنزعات الطائفية، وأقامت إمارة شيعية تابعة لايران، ولصالح تعزيز هيمنة إيران وسطوتها الإقليميتين، بدل أن تبني دولة ديمقراطية تفتح آفاق العدالة والحرية والمساواة والتآخي بين جميع سكانها ومواطنيها، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم وقوميتهم وجنسهم. ولعلها خدعت نفسها، بتخفيض فهمها الديمقراطية إلى مجرد انتخابات. وبدل أن تطمئن جميع سكانها على حقوقهم، عمّقت الشروخ بينهم، وشرعنت للتمييز بحق أغلبيتهم، واستخدمت الشحن الطائفي والتحشيد المذهبي، للتغطية على فشلها في إقامة دولة حق لجميع مواطنيها. وبدل أن تقدم لهم فرصا أكبر في التقدّم، وتحسين شروط حياتهم الفردية والجماعية، أدخلتهم في حروب الامبرطورية الإيرانية التي وضعت نفسها في خدمتها، وجعلت منهم ضحايا بالمجان لهيمنة محتليها.

والمقصود أن المبرّر الوحيد للدولة، وخصوصا عندما تكون متعدّدة القوميات، هو ما تقدمه من فرص إضافية لتحسين شروط حياة مواطنيها وسعادتهم. والحال لم تقدم حكومة بغداد، منذ ولادتها على إثر الغزو الأميركي وتدمير الدولة الذي تبعه سوى الحروب الداخلية والخارجية والتلاعب بالمليشيات الطائفية والبؤس والفقر والفاقة والاقتتال. هذا النمط من الدولة الإمارة، لا يمكن أن يجمع القوميات ويؤلف بين الجماعات، لا في القانون ولا في الإدارة ولا في النظام، لأنه بدل أن يضمن حقوقهم، ويؤمن سعادتهم، يفاقم من مشكلاتهم، ويقتل آمالهم، ولا يمكن إلا أن يدفع الكرد والعرب إلى التحرّر منه، وتركه لحشوده ومليشياته الطائفية، فهو المسؤول أولا وأخيرا عن تمزّق العراق وانقساماته القومية والطائفية.

أما المسألة الثانية فهي المسألة القومية الكردية التي حاولت جميع الدول والشعوب التي يشكل الأكراد شركاء فيها تجاهلها، أو السكوت عنها، أو محوها إذا أمكن من الذاكرة السياسية، خلال العقود الطويلة الماضية، وهي تعني حق الكرد بوصفهم شعبا في تقرير مصيره، وإذا أراد ذلك، إقامة دولة كردية مستقلة، تعبر عن هويته، وتقود كفاحه من أجل الاندماج في التاريخ الحديث للبشرية، بوسائله وقيمه وقدراته الذاتية. وتضافر المسألتين اللتين تشكلان وجهين لقضية واحدة، هو ما يجعل من القضية الكردية قضيةً مركبة لا تقتصر على تفاصل سياسي داخل دولة واحدة، أي مجرد انفصال لجزء من الشعب الواحد، لتكوين دولة خاصة به، وإنما ترتبط بإعادة ترتيب الجغرافيا السياسية لمنطقة كاملة، فهي مسألة سياسية، ومسألة جيوسياسية، وعقدة حقيقية في طريق السعي إلى تخليص المنطقة من الأفخاخ والمطبات والمظالم ومصادر النزاع التي تحول دون استقرارها.

ردت حكومة بغداد، على المسألة الأولى، بالرفض واستدعاء الدول القريبة والبعيدة للتدخل

“لم تقدم حكومة بغداد أي رد واضح على مصدر قلق الأكراد، ولا أي اقتراح بديل تمكن مناقشته” والضغط على حكومة الإقليم، متذرعةً بمخالفة قرار الاستفتاء للدستور العراقي. وعلى المسألة الثانية، ردت الدول المعنية بالقضية الكردية، أي طهران وأنقرة والنظام الفاقد للشرعية في سورية، بالتهديد بالحرب. لم تقدم حكومة بغداد أي رد واضح على مصدر قلق الأكراد، ولا أي اقتراح بديل تمكن مناقشته. وهذا كان أيضا مضمون التهديدات التي أطلقتها الدول المهدّدة بإحياء الحركات الانفصالية الكردية فيها.

لا أحد يجهل أن استقلال الإقليم يطرح قضية حق تقرير المصير للكرد عموما. وقد حان الوقت كي تفكر الدول المعنية بالمسألة الكردية في تقديم اقتراحاتٍ بناءة، للمساهمة في حل القضية الكردية القومية بدل الاستمرار في استخدام سلاح القمع والإكراه. ولا يمكن للاستمرار في دفن الرأس في الرمال أن يقود إلى شيء آخر غير مزيد من الشحن العاطفي المتبادل والاحتقان والحقد والكراهية الحاضنة للنزاعات والحروب، وجعل المسألة الكردية الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها كل المناهضين أو الخائفين من استقرار المنطقة وتعاونها ونهضتها. وإذا كان صعبا على الكرد في شروط وجودهم القومي الراهنة انتزاع الانفصال بالحرب، وهي مستمرة منذ عقود، من دون جدوى كبيرة، فإن من الصعب أيضا، بالمقدار نفسه، أن تقود الحرب إلى قتل إرادة الاستقلال بالحرب، وكبح ثورة الكرد المستمرة منذ عقود، وسيكون ثمن ذلك استمرار حالة التنازع، وانعدام الثقة والتفكّك وتقويض بناء المجتمعات ذاتها، وبالتالي تضحية الدول المعنية بمصير تنميتها، ومستقبل تقدمها في طريق المدنية، وتأمين شروط الحياة الكريمة والحرة والسلام لأبنائها جميعا.

وليس هناك حل في نظري من دون الاعتراف بحق الكرد في تقرير مصيرهم، وبالتالي من دون فتح مفاوضاتٍ لتطبيق هذا الحق، على مدى زمني، وفي شروطٍ تراعي مصالح الدول المعنية، وتحول دون تهديد مصالحها القومية الأساسية. ومن دون ذلك، سوف تتحول القضية الكردية، لا محالة، إلى بؤرة التهاب دائم يزعزع استقرار الجميع، ويهدّد أمن دول كثيرة واستقرارها، ويقف عقبة أمام تفاهمها وتعاونها، وبالتالي بناء مستقبلها الفردي والجماعي. ولا أعتقد أن هذا الحل يمكن أن يحصل، من دون المبادرة بفتح نقاش جدي بين دولها الرئيسية على مستقبل المنطقة ومصيرها، ومن دون التوصل إلى اتفاقٍ ناجز لإقامة فضاء للأمن الجماعي والتعاون الإقليمي المشترك، يضم الجميع، ولا شيء يمنع من ذلك سوى التردّد والخوف وغياب الشجاعة، واستمرار بعض الحكومات في المراهنة على النزاع للتغطية على مشكلاتها الداخلية، أو لمواجهة خصومها على حساب الشعوب والدول الأضعف منها. لكن مآل الاستمرار في هذا الخيار، كما ذكرت، الانهيار الشامل وخروج المنطقة من التاريخ الراهن، والعودة بشعوبها إلى عهود الإقطاع والقرون الوسطى والخراب المعمم والدمار.

لا يتعلق الأمر، إذن، بقضية خاصة تعني الكرد أنفسهم، كما لم تكن قضية فلسطين قضيةً تعني الفلسطينيين فحسب، لكنها تطرح مسألة عامة وكبيرة، لا تزال تعاني منهما معظم شعوب العالم الذي خسر ثورته الصناعية والسياسية أو فشل فيها، بشقيها الوطني والدولي، فهي تظهر أولا فشل المجتمعات العربية، وأكثر المجتمعات النامية في إقامة العلاقات داخل الدول والمجتمعات على أسس سليمة واضحة ومقبولة، أي إقامة النظم السياسية الشرعية والفاعلة، المستندة إلى احترام إرادة الشعوب وحقها في انتخاب ممثليها بحرية، وتقرير سياساتها بنفسها، بعيدا عن الضغوط والتهديدات والعقوبات. وهي تبرز ثانيا فشل دول المنطقة في إقامة العلاقات التي تربط بينها على قواعد ومعايير معروفة وثابتة، أهمها الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحقها في الاستقلال، وفي الاتحاد والتعاون أيضا، واحترام سيادة الدول، واحترام القانون والمواثيق الدولية وتطبيق قانون العدالة وإزالة الظلم وتصفية بقايا الاستعمار والعلاقات المجحفة والتبعية والمساواة في التعامل بين الجميع.

في منطقةٍ من أكثر المناطق تدويلا في العالم، ليس هناك فاعل مستقل بمصالحه وقراره، ولا فعل يمكن أن يتحقق من دون أن تكون له آثار على محيطه، وربما هدّد بتغيير التوازنات، والدفع إلى ردود غير منظورة، إقليمية ودولية. وما حصل ويحصل في سورية منذ ست سنوات، وما تشهد عليه تعقيدات أزمة الانفصال الكردية يبين حدود الرهان على القوة وحدها، ومخاطر الاستمرار في المراهنة على تخليد مبدأ الإكراه. من دون إعادة النظر في المبادئ التي تنظم أو بالأحرى تقوض علاقتنا داخل الدول، وبينها في هذه المنطقة لن يكون أمامنا سوى الجحيم، أي الاستثمار في السلاح والاستقواء بالأجنبي، والإعداد للتضحية بالملاييين من المدنيين والعسكريين، من دون أمل بتحقيق أي كسب، وللجميع، باستثناء إدامة الحرب، وتأجيل السلام إلى ما لا نهاية.

وأنا أكتب هذه المقالة، لا أدري في ما إذا كان الإقليم سيتمسك بقراره أم لا. لكن مهما كان الحال، لن يستقر العراق، ولن تدخل المنطقة في عصر التنمية والتقدم الأخلاقي والقانوني والسياسي، ولن تنجح في اللحاق بركب عالم التقدم التقني والعلمي وتندمج في الحضارة، ولن تخرج من الهمجية التي تعيشها اليوم، داخل كل دولة وفي ما بين الدول، ما لم تعترف بحقوق مواطنيها التي لا تناقش في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، وحقوق شعوبها في السيادة ودولها في الأمن والسلام والتعاون والاستقرار.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

من نتائج الاستفتاء الكردي/ ميشيل كيلو

تدخل المنطقة في طور جديد من صراعاتها، يقول متخوفون من نتائجه إنه سيضيف إلى صراعاتها المذهبية روافد إثنية وقومية وعرقية، ستنقل أزمتها المستفحلة إلى مرحلة تفوق، في ضراوتها وتعقيداتها، كل ما عاشته إلى اليوم. إذا صح هذا، وجدنا أنفسنا أمام حقبة من التصعيد، ستقذف الكرد إلى حمأة صراع محلي/إقليمي/ دولي، ستنخرط فيه شعوب منطقة الشرق الأوسط ومكوناتها، من عرب وكرد وترك وفرس، ستكون نتائجه ضروريةً لإخضاعها لحال دولية مأزومة، ومفعمة بالتوتر والخطر، ستترك آثارها عليها، وتنتج نمطا مختلفا عن العلاقات، التي ورثتها من تاريخ إقامها الإسلام خلاله على الإخاء والسلام. وتمزقها اليوم مذاهبها إلى حدٍّ تصير معه خطرا على أمن وسلام عالم حالت مشكلاته دون إيقاف المجزرة الأسدية ضد شعب سورية، وعطلت النظام الدولي قبل أن يسير نحو الانهيار، مع بروز نمط من القيادات، كالرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، يعتمد القوة بدل القانون والقيم الناظمة للعلاقات الدولية أداة لتحقيق مصالحه، أعاد العالم إلى العصر الاستعماري من بوابة الاحتلال الصهيوني فلسطين والجولان، والإيراني والروسي سورية، والصراع الشيعي المنظم، والموجه إيرانيا، ضد بقية المسلمين، بما يحدثه من فوضى تشحن المجتمع الدولي بصراعاتٍ فالتةٍ من عقالها، تطيح المعايير والقيم التي بلورها العالم، لتنظيم علاقاته بعد عام 1945.

ثمّة تسوية تاريخية جديدة تنتظر منطقتنا، ستعيد توزيع جغرافيتها ودولها على مكوناتٍ تضمها اليوم شعوبها، ربما تكون قد بدأت مع انسلاخ الكرد عن بلدانهم الراهنة عبر فعل رمزي، هو الاستفتاء الانفصالي لكرد العراق، الذي يكاد يكون مؤكدا أن خطوة انفصالية مماثلة ستعقبة لدى كرد سورية، بعد أن يستكملوا انسلاخهم عن شعبها، ووضع أيديهم على مساحةٍ تضمن معاشهم من أرضها، ومغادرة مناطق انتشارهم إلى ما يسمونها “كردستان الغربية”، والتي إن امتدت إلى ساحل المتوسط عبر إدلب وريف اللاذقية وصلت دولة الكرد بالعالم. بعد الاستفتاء، سيتحول ما كان يسمى “الإقليم” إلى مركز قيادي لكرد إيران وتركيا أيضا، من أسباب نجاحه جر البلدين إلى حال تتيح لكردهما الانفكاك عنهما، من الضروري أن تكون صراعاتها أشد ضراوة واتساعا من الصراع الدائر منذ أعوام في سورية والعراق، لما لها من دور في بروز العامل الكردي عاملا مستقلا عنهما، ورسم حدودهم بالدم الذي طالب به الزعيم الكردي، مسعود البارزاني، ذات يوم، وحان وقته.

بالسيطرة على الظاهرة الإرهابية، وبروز المسألة الكردية من خلال الاستفتاء في العراق،

“ثمّة تسوية تاريخية جديدة تنتظر منطقتنا، ستعيد توزيع جغرافيتها ودولها” وتحول الكرد إلى قطب مواز للنظام في سورية، يحتل تدريجيا محل الثورة في المعادلة الداخلية، ويحتل مساحة شاسعة من سورية، تنتج معظم محاصيلها الزراعية ونفطها، وتضم مدنا تاريخية وكبيرة، كالرقة ودير الزور والميادين والبوكمال والحسكة والقامشلي وتل أبيض، ستعود إلى الصراعات هويتها الأصيلة، كصراعات تدور بين شعوب المنطقة التاريخية، ولا بد أن تقتصر عليها، بذلك كله ستحتل الورقة الكردية أهمية متعاظمة من الآن فصاعدا فيها، من أجل دفع الطرفين، التركي والإيراني، إلى انخراط متعاظم فيها. ولا يعني هذا أن الصراع سيدور حول الكرد وحدهم، وإن كانوا الطرف الأكثر استعدادا لأن يزج بهم اليوم فيه.

بعد استفتاء الإقليم وانفصال كرده عن العراق، وانضمام كرد سورية المحتمل إلى الدولة الجديدة، ستتقارب تركيا وإيران من بعضهما، وستتحالفان ضد التحدي الكردي داخلهما، وسينشب صراع حاسم بين نهجي البارزاني وحزب العمال الكردستاني، وستشهد علاقات القوى الكردية ظهور مركزين، برؤيتين سياسيتين مختلفتين، سيكون لنهج الدولة أرجحية متزايدة فيها، لكونها ستتولى إدارتهم من موقعها المركزي، ولأن زعيمها البارزاني هو الذي سيكون مسؤولا عن رسم حدود كردستان بالدم، ولن يسمح ببقاء خصوم “العمال الكردستاني” الكرد، وخصوصا في سورية، مجرد جمعيات سياسية لا حول لها ولا طول، تتفرج غاضبة على “وحدات حماية الشعب”، وهي تفرض سيطرتها على ما تسميها “كردستان الغربية”، تلك القطعة من سورية التي يريد “المجلس الوطني الكردي” و”العمال الكردستاني” انتزاعها من وطنها وأهلها. أي أثر سيكون للتحالف الإيراني/ التركي على الدولة الكردية، ولانتقال مركز ثقل القضية الكردية إليها على سياسات الدول الإقليمية، خصوصا وأن قيام كردستان الكبرى يتوقف على سلخ أجزاء منها، وانضمام كردها إلى بؤرتها البارزانية، تحقيقا للمشروع الكردي الزاحف الذي يكيّف أهدافه المرحلية حسب موازين القوى القائمة، فيطالب بالمواطنة المتساوية، حيث لم تنضج بعد شروط فيدرالية تحمل جميع سمات الانفصال. ماذا ستفعل خصوصا تركيا التي كانت لها علاقات ممتازة ومصالح واسعة مع أربيل، وتناقضات عدائية مع حزب العمال الكردستاني، وتجد نفسها اليوم أمام انقلابٍ في مواقف الطرف الصديق، يحمل من المخاطر على دولتها ومجتمعها أضعاف ما يحمله نهج هذا الحزب الذي يرجح أن ينتقل من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بالانفصال.

ماذا ستفعل أنقرة بعد اليوم بكردها؟ هل ستكتفي بما مارسته من إصلاح كان موضوعه أوضاعهم وعلاقاتها معهم، أم أنها ستبلور سياساتٍ حيالهم، تجعلهم محور أمنها الداخلي وتنميتها، تنطلق من أولويات ذات اعتبارات مغايرة للتي اعتمدتها إلى اليوم، هدفها، بين أشياء أخرى، إقامة شراكة من نمط تفاعلي يمنح الكرد صلاحياتٍ تعزّز ممارستها بنية الدولة، تعيد النظر في توزيع الدخل الوطني وتنميته، وأنماط تقسيمات تركيا الجغرافية وإدارتها، تعوضهم عن الانفصال بدور متزايد في إدارة بلادهم وتقرير شؤونها؟ ألا تتطلب سلامة الدولة التركية العمل بأقصى طاقة لكسب التحدي، ومنه فصل الإقليم عن كرد سورية الذين يلعبون، بدعم أميركي وانخراط كرد أتراك وإيرانيين في الحرب، دورا أكبر بكثير من قدراتهم، أضعف الثورة وعزّز نظام الأسد، الذي يبرّرون بظلمه تطلعاتهم الانفصالية.

سيضيف هذا التحدي الذي ستواجهه تركيا في السنوات المقبلة، إلى متاعبها، تعقيدات إرهابية ومذهبية وقومية ودولية، سيحمل كل واحد منها مخاطر جدية، لا بد أن تضطرها إلى تطوير

“من دون شراكة تركية/ سورية ستواجه الثورة وتركيا تحدياتٍ لم يسبق لهما أن واجهتا ما هو أخطر منه” مواقفها لصد مخاطر تتفاقم وتتوضع أكثر فأكثر داخلها، لن تنجح بعد اليوم في دحرها، من دون تعاون جدي مع السوريين، ومساعدتهم على وقف الحرب ضدهم، بعد تحول “درع الفرات” من حزام أمني إلى مشروع فخ، وتعاظم تنازلاتها الروسية، وفشل سعيها إلى استعادة علاقاتها الجيدة مع أميركا، والمصاعب التي تواجهها قيادتها التركية، ولا يحار مراقبها في إدارة هذه التناقضات، بينما تزداد ضغوط هذه الأطراف عليها، وترى في إيران طرفا يدرك أن تعرّضها لاضطرابات داخلية، يؤذن بوقوع ما يماثلها فيها، بحيث يمكن القول إن أمن تركيا وإيران يتقارب، في كل ما يتعلق بالتحدي الكردي الذي سيتعاظم باضطراد بالنسبة للدولتين، إذا لم ينجحا في احتوائه.

أصر البارزاني على الاستفتاء، ليلاقي تطورات القضية الكردية عامة، وفي سورية خصوصا، وكي يكون هناك دولة/ مركز تتولي إدارتها. سيؤثر هذا التحول في موقف أربيل بصورة ما على دور تركيا في إدلب، ومن الواضح أنه أربك هذا الموقف، بعد أن جعل التحدي الكردي مسألة أمن قومي تركية، وصار صعبا على أنقرة حمل بطيختين كبيرتين بيد واحدة، العراقية منهما ثقيلة جدا ولها منطويات خطيرة متنوعة. وإذا ما تقلص دور تركيا في إدلب، وتاليا سورية، وقع تغيير مفصلي في كل ما يتعلق بموقفي النظام والثورة، سيزيده خطورةً تصدّي روسيا، بمفردها أو بالتعاون مع آخرين، للمهمة التي سيلحق إنجازها عن غير طريق أنقرة ضررا فادحا بتركيا، هو الضربة الخطيرة الثانية، بعد ضربة أربيل.

ماذا سيترتب على انحسار الدور التركي في إدلب، وتاليا سورية، وتقدم الدور الروسي، وخروج منطقة هي أكبر المناطق المحرّرة من أيدي المعارضة؟ ما تفعله روسيا هو تقويض متعمد لدور تركيا السوري، وانقلاب يبدل علاقات أطراف الصراع المحلية والإقليمية والدولية. هل ستقبل تركيا هذه النتائج، وستتمكن من إعادة النظر في حساباتها وأوضاعها، والتعاون مع روسيا التي تضعها أمام واقع يضطرها لقبول دورٍ يختلف عما تم التفاهم عليه في أستانة، علما أن تأخر دخولها إلى إدلب يفتح ثغرة في خاصرتها ستأتيها منها العواصف، وقد تضطرها لقبول ما رفضته إلى اليوم: اقتصار وجودها في سورية على منطقة درع الفرات. ويبقى سؤالان: أي بديل ستبلور تركيا بالتعاون مع إيران والعراق حيال خيار البارزاني، وهل سيسهم في حفظ دورها في سورية الذي يرتبط مصير الثورة اليوم أكثر من أي وقت مضى بوجودها في إدلب وعفرين.

من دون شراكة تركية/ سورية ستواجه الثورة وتركيا تحدياتٍ لم يسبق لهما أن واجهتا ما هو أخطر منه.

العربي الجديدة،

 

 

رسالة وليد المعلّم إلى الأكراد/ شورش درويش

بعيداً عن ضوضاء المعارك، وجه وزير الخارجيّة السوريّ، وليد المعلّم، رسالةً عبر وسيلة إعلامٍ روسية إلى الكرد السوريين، مفادها بأنَّ إقامة نظام إدارة ذاتيّة للأكراد في سورية “أمرٌ قابل للتفاوض والحوار في حال إنشائها في إطار الدولة السورية”. بهذا الشكل الموجز، وجّه المعلّم رسالته التي تبدو في متنها موجّهةً إلى الأكراد السوريين بشكلٍ خاص، بيد أنها تخفي في مضامينها مراميَ وغاياتٍ أخرى.

أن يصدر كلام يخصُّ الوضع الداخلي السوري، عبر رجل دبلوماسية النظام الأوّل، أي ممن يفترض أن يكون دوره مناطاً بالعلاقات الدوليّة والخارجية، لا الحديث في مسائل يفترض أنها داخلية – وطنيّة، وفي هذا التوقيت، حيث تبلغ المشاعر القومية أوجها، لهو كلامٌ جديرٌ بالمتابعة وتفسير مفرداته؛ فالنظام السوري، ومنذ اندلاع الثورة السورية ربيع 2011، دأب على شدّ الأكراد تجاهه عبر حزمة قوانين، منها إعادة الجنسية للأكراد المجرّدين منها، وإلغاء المرسوم 49 الذي كان يمنع بيع العقارات وشرائها في المناطق الحدودية، إلى جانب إبدائه الاستعداد للحوار مع ممثلي الحركة السياسية الكردية، على الرغم من تردّد أطراف كردية، ورفض الأطراف الأخرى بشكلٍ قطعي الحوار مع النظام.

الغالب على الظن أن رسالة وليد المعلّم ليست موجّهة إلى الأكراد كما يُفهم من شكلها، فالنظام يمتلك من الأقنية والوسائل القادرة على توصيل رسائله هذه بمعزلٍ عن الوسيلة التي اتبعها هذه المرّة في مخاطبة الأكراد السوريين، أي عبر خارجيته وفي حوارٍ متلفز. لذا ستبدو مسألة فهم كلام المعلّم أنها رسالة مبطّنة إلى أطراف إقليمية أقرب إلى اليقين.

يعرف النظام السوري، كمن يعرف باطن يده، أن تركيا تُستثار بسرعة من المسألة الكردية داخل سورية، خصوصا إذا نظرنا إلى طبيعة تنامي حجم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ونفوذه، وهو الحزب الذي تناصبه تركيا العداء. ولعل تلويح دمشق بإمكانية الموافقة على شكلٍ

“المعلم: إقامة نظام إدارة ذاتية للأكراد أمرٌ قابل للتفاوض والحوار في حال إنشائها في إطار الدولة السورية” لامركزي، يضمن للأكراد الحكم الذاتي في المنطقة المتاخمة لتركيا، قد يزيد من إثارة تركيا وانفعالها. بالتالي قد ترمي دمشق إلى أن تقدم تركيا على مزيد من التنازلات في الملف السوري. وهذا ممكن بالنظر إلى التراجعات التركية، أو ما سمّيت “الانعطافات التركية” قبل جلسات مؤتمر أستانة وبعدها، وذلك في مقابل عدم استمرار النظام السوري في تنفيذ ما أشار إليه المعلّم.

حتى وإن كانت غاية النظام توجيه رسائل خارجية، فإن الأطراف السياسية الكردية المتعدّدة، لم تأخذ كلام المعلم/ النظام على محمل الجد، وذلك لاعتبارات عديدة، منها أن النظام لا يملك من القوة ما يمكنه منح الأكراد ما يطمحون إليه، خصوصا أنهم باتوا، وبحكم الأمر الواقع، يسيّرون المناطق ذات الغالبية الكردية، والتي باتت تشهد حكماً ذاتياً منذ مطلع 2012، كذلك معرفة تلك الأطراف أن النظام يرمي إلى استعادة كل سورية إلى حظيرته المركزية، ولن يفرّط بالنظام المركزيّ، مهما تناوبت عليه الضغوط، وأنه ليس جاداً في مسألة الحكم الذاتي الذي سيمنحه للمناطق الكردية، نظراً لطبيعة النظام وذهنيته القائمتين على أساس ” كل شيء أو لا شيء”، علاوةً على فهم رغبة النظام المتجلية بدفع قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ذي الحمولة الكردية الواضحة، إلى الوراء، وإخراجها من المناطق العربية بالأخص من محافظة الرقة وريف دير الزور، في مقابل التفاوض على الحكم الذاتي للمناطق الكردية، أي أن ما يقوله النظام مجرّد تكتيك مؤقّت.

سبق لرأس النظام، بشار الأسد، أن صرّح، في حوارات متلفزة، عن صعوبة تطبيق الفيدرالية في سورية، نظراً إلى “صغر” مساحة سورية، إضافةً إلى إصرار النظام في ما مضى على أن الفيدرالية، أو اللامركزية، بحاجة إلى موافقة الشعب السوري برمته، أي أن النظام ليس مخوّلاً بمنح الأكراد السوريين هذا “الحق”، فما الذي دعا وزير خارجية النظام السوري إلى نقل موافقة النظام إلى العلن، وبهذا الشكل؟

للإجابة على هذا التساؤل، ربما يتوجب علينا النظر إلى الجهة المتضرّرة من تصريحٍ كهذا، أي إلى تركيا، التي قد تبذل عنادا كثيرا، و”انعطافاتٍ” كثيرة، لأجل عدم تحوّل الحلم الكردي جنوب حدودها إلى كابوسٍ جديدٍ يؤرِّقها. وبالتالي، فإن تفسير ما بين السطور في رسالة المعلّم يصبح أسهل وأكثر يسراً، فهو إن لم يكن قد نجح في استقطاب الأكراد، فإنه نجح في استثارة الأتراك، وبذا تكون رسالته خارجيةً بامتياز، وغير متصلةٍ بوضع داخلي.

العربي الجديد

 

 

 

 

النظام السوري والتفاوض مع الأكراد: مناورة لاستفزاز تركيا؟/ عدنان علي

مع اقتراب الحرب على تنظيم “داعش” في سورية من نهاياتها، تعود الملفات المؤجلة إلى الظهور، وأبرزها “القضية الكردية” التي تبدو على اتصال وثيق بمصير الأكراد في العراق، لترتفع حرارة هذا الملف مع إجراء الاستفتاء في إقليم كردستان العراق، إذ أعرب النظام السوري عن استعداده للتفاوض على منح الأكراد إدارة ذاتية، في ما وصف بأنه مناورة من جانب النظام لاستيعاب “الحالة الكردية”، ومحاولة للضغط على تركيا، ونقل هذه “الورقة” إلى ملعبها.

وقال وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلم، في حوار تلفزيوني مع قناة روسية قبل أيام، إن السوريين الأكراد “يريدون شكلاً من أشكال الإدارة الذاتية ضمن حدود الجمهورية العربية السورية، وهذا الموضوع قابل للتفاوض والحوار”. وأضاف “عندما ننتهي من القضاء على داعش يمكن أن نجلس مع أبنائنا الأكراد ونتفاهم على صيغة للمستقبل”. وتمثل هذه التصريحات سابقة من نوعها، إذ تعد المرة الأولى التي يعلن فيها مسؤول سوري كبير عن استعداد النظام لمناقشة قضية الإدارة الذاتية للأكراد، الذين أعلنوا خلال الثورة السورية إقامة نظام فدرالي في مناطق سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بقيادة صالح مسلم، في شمالي البلاد وشمالها الشرقي، قبل أن يضم إليها مناطق أخرى ليس فيها غالبية كردية. وعبر مسؤولو النظام أكثر من مرة عن رفضهم لما يقوم به هذا الحزب، وأدواته العسكرية والأمنية، سواء على صعيد إجراءات “الإدارة الذاتية”، وما يتضمن ذلك من سحب الشبان للخدمة العسكرية وتعديل مناهج الدراسة واستحداث محاكم وقوانين جديدة، أم لجهة التوسع في المناطق العربية، خصوصاً في الفترة الأخيرة، باتجاه حقول النفط والغاز في محافظة دير الزور، وهو ما قد يقود إلى تصادم عسكري أوسع بين الجانبين، بعد مناوشات محدودة في الفترات الأخيرة شارك فيها الطيران الروسي، الذي قصف حقل “كونيكو” للغاز بعد سيطرة المليشيات الكردية عليه.

وفي أول رد فعل من جانب مسؤولي “الإدارة الذاتية” على تصريحات المعلم، قالت الرئيسة المشتركة لـ”الإدارة الذاتية”، هدية يوسف، إن “الإدارة” لم تتلق دعوة من النظام من أجل التفاوض، وإذا وجهت مثل هذه الدعوة، ستتم تلبيتها. وأشارت إلى أنهم أجروا اجتماعين مع النظام، بإشراف روسي، في مطار حميميم في اللاذقية “لكن النظام أصر على المركزية ورفض الحلول الديمقراطية”. واعتبرت يوسف أن “الحل الفدرالي” وحده يحمي سورية من التقسيم، وأنه “لا خيار إلا الحوار لحل المسألة”. وكانت “الإدارة الذاتية”، التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، أعلنت في مارس/آذار من العام الماضي، نظاماً فدرالياً في مناطق سيطرة الحزب، والتي قسموها إلى ثلاثة أقاليم، هي الجزيرة (الحسكة في الشمال الشرقي) والفرات (شمال وسط وتضم أجزاءً من حلب وأخرى من الرقة) وعفرين (شمال غرب وتقع في محافظة حلب). وواجه هذا الإعلان رفضاً من جهات عدة، منها تركيا وروسيا والنظام السوري والائتلاف الوطني السوري، إضافة إلى الولايات المتحدة، الداعم الرئيسي لحزب الاتحاد الديمقراطي ومليشياته المسلحة. وأجرت “الإدارة الذاتية” انتخابات في مناطق سيطرتها، في 22 سبتمبر/أيلول الحالي، في أول خطوة ملموسة لتأسيس فدرالية من طرف واحد. وبدأت الانتخابات باختيار لجان محلية، وستستمر على ثلاث مراحل، إذ ستعقبها خطوات تؤدي إلى تأسيس مجلس تشريعي، وهيئة تنفيذية، في يناير/كانون الثاني المقبل. وكان نائب وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، وصف هذه الانتخابات بأنها “مزحة”، مؤكداً أن حكومته “لن تسمح أبداً بانفصال أي جزء من أراضيها”، بينما قال مستشار رئيس حكومة النظام السوري، عبد القادر عزوز، إن حكومته “غير معنية بنتائج هذه الانتخابات”، التي اعتبر أنها “غير قانونية بحسب الدستور السوري”. من جهتها، ذكرت القاعدة الروسية في حميميم، على صفحتها في “فيسبوك”، إن موسكو لن تدعم مشروع انفصال الأكراد عن سورية، معتبرة أن هذا الأمر “يتنافى مع التزامنا ضمان وحدة الأراضي السورية”. وكانت موسكو أعربت عن دعم نظام لامركزي في سورية، واقترحت دستوراً يتضمن ذلك.

ويرى مراقبون أن تصريحات المعلم تهدف إلى احتواء أكراد سورية، الذين يراقبون ما يجري في إقليم كردستان العراق، وقد يطمحون إلى تشكيل إقليم حكم ذاتي تمهيداً للانفصال، رغم أن الأكراد، وعلى رأسهم “الاتحاد الديمقراطي”، ينفون حتى اللحظة أن تكون لهم نزعة انفصالية، ويقولون إنهم يريدون فقط حكماً ذاتياً ضمن الدولة السورية. ولا يعتقد نائب رئيس الائتلاف الوطني السوري والقيادي البارز في المجلس الوطني الكردي، عبد الحكيم بشار، أن هناك أي تغيير في موقف النظام تجاه القضية الكردية في سورية. وأضاف، في تصريحات لـ”العربي الجديد”، أنه “مجرد تكتيك يمارسه النظام، ويهدف إلى الضغط على تركيا وإحراجها سياسياً، إذ يعيش فيها نحو 20 مليون كردي”، وهو رقم تعتبر تركيا أنه مبالغ فيه. ورأى بشار أن النظام “يهدف الى استمرار سيطرته على قرار قوات الاتحاد الديمقراطي، وتعزيز دورها في المجتمع الكردي، بعد أن أثبتت الانتخابات الهزلية التي أجراها هذا الحزب في 22 سبتمبر الحالي الفشل الجماهيري العميق لهذا الحزب، إذ إن الإقبال على صناديق الانتخابات كان ضعيفاً جداً”. وأكد بشار أن “الأكراد يمثلهم المجلس الوطني الكردي، ولن يقبلوا التفاوض مع النظام القائم بشكل منفرد”، مضيفاً إن “مستقبل الأكراد مع الشعب السوري بمختلف مكوناته، والتفاوض مع هذا النظام سيكون من خلال المعارضة ووفق قرارات الشرعية الدولية، خصوصاً بيان جنيف والقرار 2254، من خلال حل سياسي ودستور جديد يضمن حقوق الأكراد في سورية، وليس مع نظام زائل رفضنا التفاوض معه عندما كان في أوج قوته”.

من جهته، أعلن نائب رئيس رابطة الأكراد المستقلين في سورية، رديف مصطفى، أنه “لا يثق بنظام مجرم فاقد الشرعية قتل نحو مليون شخص، ودمر أكثر من نصف البلد، وهجر الملايين، بمواجهة المطالب المشروعة للشعب في الحرية والكرامة”. وأعرب عن اعتقاده بأن النظام “لم يعد يمتلك سورية ليقرر مصيرها أو مصير جزء منها”، مضيفاً “هذه مجرد رسائل كاذبة تصدر من النظام في إطار محاولات إعادة تأهيل النظام بحجة مكافحة الإرهاب، علماً بأن النظام نفسه مارس ولا يزال إرهاب الدولة المنظم منذ البداية”. وأشار مصطفى إلى أن النظام “لعب لعبة تحييد الأكراد عن الثورة، وسلم المناطق الكردية إلى حليفه التقليدي حزب العمال الكردستاني عبر ذراعه السوري (الاتحاد الديمقراطي)، وما زال مستمراً باستغلال هذه الورقة لكي يستعيد السيطرة على كامل سورية”. وأعرب عن قناعته بأن النظام “سينقلب على هذه التصريحات بمجرد استعادته السيطرة على البلاد”، مضيفاً “نحن لا نثق بالنظام ولا بحلفائه، ولا نعتقد بأنه يمتلك الإرادة لحل أي ملف وطني في سورية، خصوصاً الملف الكردي. إنها مجرد تصريحات لذر الرماد في العيون وبعث رسائل إلى الغرب”.

وبالتوازي مع رسالة الاسترضاء التي أطلقها وليد المعلم إزاء الأكراد، حرص النظام على توجيه رسالة أخرى، أطلقها مسؤول أقل أهمية، لكنها تعتبر مكملة للرسالة الأولى وفق حسابات النظام، إذ نشر أمين سر مجلس الشعب (البرلمان)، خالد العبود، تدوينة على حسابه على موقع “فيسبوك”، ذكر فيها الأكراد بمصير تنظيم “داعش”. وقال “يجب أن يلتقط الإخوة الأكراد مصير دولة تنظيم داعش، التي دعمتها الولايات المتحدة والعرب وكيان الاحتلال، كي تكون في خاصرة الإقليم، لكن حلف المقاومة جعلها أثراً بعد عين، وعليهم أن يفهموا جيداً أنّ المراهنة على ذلك ستجعلهم أثراً غير مأسوف عليه”.

ويرى الصحافي شادي عبدالله أن الحكم الذاتي الكردي في بعض المناطق في شمال البلاد وشمالها الشرقي بات أمراً واقعاً، لكن حدود هذا الحكم ودرجة استقلاليته عن المركز، هو ما سيكون محل نقاش مع النظام ومع الأطراف الأخرى، بما فيها المعارضة السورية، والمكونات الأخرى الموجودة على الأرض، من عرب وأشوريين وسريان، والتي قد لا يقبل بعضها أن يكون تحت إدارة كردية، ويرتبط كل ذلك بمستقبل البلاد ككل، وطبيعة النظام السياسي والإداري الذي سيتم اعتماده في إطار الحل السوري، خصوصاً أن قضية الفدرالية مطروحة على مستوى البلاد كلها، وليس ما يخص المناطق الكردية فقط. ويعتقد عبدالله، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أنه رغم التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، بسبب التنافس على حقول النفط والغاز في دير الزور، فثمة توافق بينهما على إقامة حكم ذاتي للأكراد في مناطقهم، وهو ما أظهرته وثيقة الدستور الروسية التي جرى تسريبها قبل فترة. غير أن عبدالله يعتقد أن “حزب الاتحاد الديمقراطي” يناور أيضاً، كما هو حال النظام السوري، معرباً عن اعتقاده بأنه لن يتوانى عن ضم مناطق الحكم الذاتي التي أعلن عنها في سورية إلى الإقليم الكردي في شمال العراق على أساس الاتحاد الفدرالي بين الجانبين، وهو أمر سيكون محل ترحيب لدى مسؤولي تلك الدولة، لأنه يحقق طموحاتهم بالعبور إلى البحر المتوسط بغية التخلص من كابوس الحصار الذي تلوح به دول الجوار. ورأى عبد الله أن الحزب الكردي السوري تخلى عملياً اليوم عن أهدافه السابقة المتمثلة في إقامة “إدارة ذاتية” في ما يسمى منطقة “روج آفا”، وبات يطرح شعار “سورية الديمقراطية”، مستفيداً من ضم بعض زعماء العشائر وبعض السريان والأشوريين إلى إدارته في مسعى لإقامة نظام فدرالي، على غرار شمال العراق، يكون مقدمة لإعلان الانفصال. ورأى عبدلله أنه قد يكون من بين أهداف دعوة التفاوض، التي أطلقها وزير خارجية النظام، محاولة استفزاز تركيا.

جدير بالذكر أن أكراد سورية يمثلون ثاني أكبر مجموعة عرقية في سورية بعد العرب، ولا يعرف على وجه اليقين العدد الفعلي لهم في ظل غياب أية إحصاءات رسمية. وتتحدث تقديرات، غير رسمية، عن مليون سوري كردي من أصل 23 مليوناً هم العدد الكلي للسوريين، بينما ترفع مصادر مقربة من القوميين الأكراد العدد إلى أكثر من ذلك.

العربي الجديد

 

 

 

 

العراقيون خسروا أكرادهم واحتفظوا بـ «ثوابت الأمة»/ منير الخطيب

لم يكن استفتاء إقليم كردستان في العراق على حق تقرير المصير حدثاً مفاجئاً، وبالتأكيد ليس مؤامرة خارجية على «وحدة وسيادة العراق»، كما يردح القوميون العرب والإسلاميون، بل هو نتيجة واقعية ومنطقية وعقلية في مسار عراقي داخلي، كانت عناوينه الأبرز: فشل الأكثرية العربية في العراق، أساساً، في تشكيل مجال عام وفضاء وطني عراقي، وكذلك فشل العراقيين، طيلة القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي، في بناء أمة عراقية ودولة وطنية أكانت مركزية أم فيديرالية.

وغني عن القول إن البعثيين، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، سيّسوا العروبة وفرضوها بالقوة على المجال السياسي في العراق وسورية، بالتالي، أفضى تسييس العروبة، بوصفها عنصراً جزئياً في مجتمع ينطوي على التعدد والاختلاف القومي، إلى طرد بقية القوميات من المجال الذي يفترض أن يكون مجالاً وطنياً عاماً، وذلك بالتعاضد، أيضاً، مع فرض تصوراتهم حول مفهوم «الأمة» العرقي والعنصري على بقية الإثنيات العراقية. فـ «الأمة» في نظر البعثيين هي امتداد «نسلي» أو «فخذي»، كانوا يمطّونه كي يصل إلى قحطان وعدنان. بهذا تصير «الأمة» فخذاً وامتداداً ذكورياً فحلياً، ويغدو مفهوماً وفقاً لهذا التصور، أن يطلب القائمون على «ثوابت الأمة» من بقية الإثنيات أن يتحولوا حريماً شرقياً ملحقاً بمركز عروبي عصبوي غير وطني، لا يبالي بفكرة العقد الاجتماعي والفضاء العام والتوافقات الوطنية، وهذا بالضرورة ولّد عصبية قومية مضادة كردية وغير كردية.

والحال لم يتغيّر بعد سقوط نظام «البعثط، فالمجال السياسي العام أخضعته قوى الإسلام السياسي الشيعية وملاحقها الميليشيوية، بصرف النظر عن الشراكة التي تمت بين هذه القوى والقيادات الكردية في تقاسم الغنائم بعد سقوط نظام البعث، فهذه مسألة أخرى، ظل الوجدان الشعبي الكردي غير معني بها، فحلّ الإسلام السياسي الشيعي وميليشياته محل العروبة ومخابراتها، وتحوّل شعار «اجتثاث البعث» إلى اجتثاث فيزيائي للبعثيين، مع الاحتفاظ بنهجهم وطريقة حكمهم وتعاملهم مع فكرة الاجتماع الوطني من قبل تلك القوى ما دون الوطنية. هكذا انحدر مفهوم «الأمة» مع نهاجية تلك القوى إلى حضيض الملة المذهبية الملّحقة بذيل «دولة» الولي الفقيه العنصرية، وانحطّ مفهوم «الدولة – الأمة» إلى مجرد «سلطة» واقعة تحت هيمنة ميليشيات «الحشد الشعبي».

نعم، كانت مسألة الفضاء الوطني غير مفكر فيها من جانب العراقيين العرب ونخبهم السياسية القومية والإسلامية، فأُريد للكرد العراقيين أن يكونوا، مرة، رعايا ذميّين في «دولة» عروبية، ومرة أخرى رعايا مذهبيين في «دولة» عنصرية مذهبية، وبهذا كانت الأكثرية العربية تدفع الكرد دفعاً إلى خيار الانفصال، لأن الأمة كمفهوم أنتجته الحداثة، لا يبنى على فكرة «الأصل» العرقي أو الديني، بل إن الأمة تتشكل تعاقدياً في التاريخ، وتنمو وتتقدم وفقاً لإرادة عامة قائمة على الاجتماع الحر، فيما «الأمة – العرق» و «الأمة – المذهب» نكوص إلى الهمجية والتوحش. أما وقد دُفع الكرد إلى هذا الخيار، فأصبح الموقف من حق تقرير مصيرهم موقفاً مبدئياً من الحرية بوصفها ماهية الإنسان وجوهره، أي بوصفها مطلقاً أخلاقياً، فالوقوف مع حق تقرير مصيرهم يعني الانحياز الحاسم إلى قضايا الحرية والإنسان ككائن كلي مكتف بذاته، وإلى المطلق الأخلاقي: «فمن ليس في روحه وفكره المطلقُ الأخلاقي» لا يمكن أن يكون مواطناً وإنساناً، وبالتالي لا شعب ولا دولة ولا مجتمع ولا أمة من دون ذلك المطلق الأخلاقي. وبناء عليه، فالعرب الفلسطينيون والسوريون والعراقيون الذين عانوا مختلف أنواع البطش والاستبداد والعنصرية والقتل والتهجير والاعتقال، ولا ينحازون إلى حق الكرد العراقيين في تقرير مصيرهم، عندهم نقص في المبدأين الأخلاقي والوطني، لأن الموقف من الحرية لا يجوز أن يكون استنسابياً ومحكوماً بالهويّة العرقية والدينية.

وكذلك انطلاقاً من الحرية بوصفها قيمة أخلاقية مطلقة، نبارك للكرد استفتاءهم على حق تقرير مصيرهم، «ونبارك» للعرب وللعراقيين احتفاظهم بـ «ثوابت الأمتين» العربية والإسلامية، تلك «الثوابت» التي ما زال العرب والمسلمون يكتوون بنيرانها منذ حربي صفين والجمل وصولاً إلى تدمير المدن السنيّة في سورية والعراق.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

معركة عبثية/ ميشيل كيلو

ما أن أعلن كردستان العراق، مسعود البارزاني، أن حدود كردستان سترسم بالدم، حتى تغير كل شيء في تفكير (وممارسات) أطراف كردية، كانت تبدو على خلافٍ شديد بعضها مع بعض، وتقاربت مطالبها وممارساتها، حتى مع ما يسعى إليه حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، من دون أن تتوقف عن اتهامه بالعمل لتحقيق أهدافه بالدم.

وفي حين كان طموح أحزاب سياسية كردية يتركز على المواطنة المتساوية في دولة ديمقراطية، فإنها شرعت تتحول عن طموحها إلى نهج يقوم على استحالة تعايشها مع نظام تديره أغلبية عربية، والسبب وجود أرض كردستانية في سورية للكرد الحق في إقامة دولة خاصة بهم عليها، وفي تحريرها من “مستعمريها السوريين من خلال عملية تقرير مصير، لا يحق لهؤلاء المشاركة فيه، لكونهم مستعمرين، وتقرير المصير هدفه الانفصال عنهم”.

يقول هذا التحول عن النهج الديمقراطي إلى نهج باستحالة التعايش مع العرب الإرهابيين والمتطرفين مذهبيا بطبيعتهم، والدعوة إلى استخدام الدم في رسم حدود كردستان، يؤذنان بانفجار صراع كردي عربي، يعتقد بعض قادة الكرد، من أمثال صالح مسلم، أنهم كسبوا جولته الأولى، لكونهم يخوضون، من جهة، معاركهم الحالية بدعم أميركي، يمكنهم من تحرير كردستان الغربية التي فاضت عن جميع حوافيها، وبلغت اليوم قرابة ربع مساحة سورية، وتضم مدنا وبلدات وقرى تخلو من أي وجود كردي، ويستغلون، من جهة أخرى، فرصةً ذهبيةً يتيحها لهم الصراع الداخلي السوري/ السوري الذي يمنحهم الوقت الكافي لفرض أمر واقع لن يتمكّن أحد من تغييره، ستوطده قوتهم العسكرية المتنامية والمحمية بالطيران الأميركي، ومؤسسات دولتهم الجديدة التي تستبق انتهاء القتال في سورية، فإن استعادت دولتها من جديد وجدت نفسها أمام أمر واقع، سيكون صعبا عليها تغييره.

ومع أن واشنطن أعلنت، مرات، أنها لا ترى حلا للمشكلة الكردية خارج الإطار السوري، فإن من كانوا يطالبون من الكرد بالمواطنة المتساوية والدولة الديمقراطية شرعوا يتبنون خطا

“من الحكمة أن يراجع كرد سورية موقفهم من وطنهم ويتخلوا عن سياسات التحريض ضد العرب” سياسيا يبزّ، في تطرفه، خط أتباع زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، الذين وفد معظمهم إلى”معركة تحرير كردستان سورية ورسم حدودها بالدم” من العراق وإيران. وقد قدم هؤلاء الذين يزعمون أنهم ضد حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) تصورا للفيدرالية، يقوّض تماما الدولة الديمقراطية المنشودة، ويضعفها إلى درجة منح الكيان الفيدرالي حق النقض ضد قراراتها، من دون أن يكون لها، في المقابل، حق الاعتراض على قراراته.

وقد أملت هذا التوجه نزعة مقلقة، تخلت عمّا كانت تركز عليها من مطالبة بالمواطنة المتساوية في دولة ديمقراطية، ومالت، بعد أن ثار الشعب السوري، مطالبا بالمواطنة والدولة الديمقراطية، إلى برنامج محض قومي، استهدف حشد كل من ليس عربيا من السوريين ضد أغلبيتهم العربية، المشكوك في ديمقراطيتها والمتهمة بالداعشية والإرهاب، والتي وضع معيار وحيد للتعامل مع ديمقراطييها، هو موافقتهم على الخطاب الكردستاني ومطالبه الدولوية، وتجاهل أن هذا الخطاب لم يتحدث إطلاقا عن “كردستان سورية”، قبل توجيه مسعود البارزاني الدموي. وقع هذا الانزياح القومي بعد الثورة، عندما صار الحل الديمقراطي لقضايا مكونات الجماعة الوطنية السورية ومشكلاتها أمرا مفروغا منه، ولم يعد أحد يتنكر لحقوق الكرد أو يرفض الوصول إلى حل يرضيهم، بما في ذلك التفاهم على النظام الفيدرالي، على الرغم من أنهم ابتعدوا عن الثورة، وامتنعوا عن وضع أيديهم في أيدي بقية السوريين (حتى لا أقول شعبهم، فهذه الكلمة أصبحت ملعونة عند معظمهم)، في صراعهم ضد النظام الذي اضطهدهم، على أن يتلازم التفاهم على الحل مع حوار وطني عام حول مستقبل سورية، ونمط دولتها، وتحدّد التزامات كل طرف حيال إقامته، ويعلن ما يتم الاتفاق عليه التزاما وطنيا. بما أن قادة الكرد يعرفون تماما أن هناك التزاما بحقوقهم، فان السؤال الذي حير أنصارها من الديمقراطيين هو: لماذا يقاتلون، أو يدعمون القتال، من أجل نيل شيء يستطيعون الحصول عليه بلا قتال، إذا كان هدفهم هو حقا الفيدرالية؟ ألا يعتقدون أن قتالهم يضمر مغامرةً غير مضمونة النتائج، تكمن في أنه قد يضعف فرص بلوغ حقوقهم؟

واليوم، يواجه كرد مسعود البارزاني، قبل غيرهم، تحدي رسم حدود “كردستان” بالدم، ويواجهون موقف العالم من مشروعه الذي يلغي اعترافا دوليا شاملا بحقه في توسيع الإدارة الذاتية التي منحها صدام حسين للكرد، يعطيه الحق في امتلاك جيش وموازنة وعملة وعلاقات خارجية، يشرعن وجودها في العراق ما يفتقر إليه كرد سورية: عدد كبير ومتجانس نسبيا من السكان، جغرافيا مندمجة يعيشون فيها منذ فترة طويلة، وتضحيات قدموها على امتداد قرن. وفي المقابل، نظام مركزي مفرط، طائفي وفاشل، يوافق العالم على تقليص صلاحياته حيال أربيل، واستبدالها بصلاحياتٍ أوسع تمنح لإدارتها الذاتية التي سيكون عقابها شديدا، إن وضعت العراق والعالم أمام استقلالها أمرا واقعا، أو توسعت عبر الاستيلاء على مناطق متنازع عليها مع الحكومة المركزية، أهمها كركوك. ما أن بدأ البارزاني يفكر بـ”النط عن خياله”، حتى ذكّره العالم بأنه عراقي، وعليه التفاهم مع الدولة العراقية على حل مشكلاته معها، وأن انفصاله عن العراق لن يكون مقبولا، بسبب ما سيترتب عليه من دم.

والآن: هل كان البارزاني راغبا في الانفصال، من أجل إقامة إطار دولوي، يلاقي المشروع الكردستاني السوري، ويكون معه نواة كردستان الكبرى؟ أعتقد أن موقف تركيا وإيران موجه ضد هذا الاحتمال. بالمناسبة، أرسلت واشنطن التي تعارض الاستفتاء والانفصال رسالة واضحة إلى كرد سورية، ترفض فيها انفصالهم عنها، وحل قضيتهم خارجها، واندماجهم بكردستان العراق التي يمكنها أن توسع بدورها دائرة حكمها الذاتي، بالارتباط مع الحكم المركزي في بغداد وليس خارجه! لن يذهب الكرد الآن إلى كردستان الكبرى، هذا ما أكدت عليه واشنطن، وهزّت تركيا وإيران والعراق عصاها في وجه من يتوهمون أن في وسعهم إقامتها من الكرد.

في عودة إلى كرد سورية.. لستم عددا كبيرا ومتجانسا من السكان، ولا تقطنون في منطقة

“كان لينين الداعية الأكبر لحق تقرير المصير كحق انفصال عن كيان دولوي قائم، لكنه ربط هذا الحق بالثورة، بعد قيامها” واحدة وخاصة بكم، ولم تقاتلوا إطلاقا من أجل حكمها ذاتيا. كما أنكم لستم أغلبية سكان المنطقة التي تحتلونها اليوم، والتي لم تكن يوما منطقتكم، بينما تقاتلون من يؤمنون بحقكم في أن يكون لكم كيان خاص في مناطق أنتم أغلبية فيها، لكنه لن يقوم فيها من دون توافقٍ مع الديمقراطية السورية، أو بقوة السلاح والأمر الواقع، وستبين لكم الوقائع أن دمكم لن يرسم حدود “كردستان سورية” لا وجود لها، وأن مسعود يضللكم ويضيعكم، بدل أن يخبركم أن مصلحتكم في سوريتكم، والإسهام في ثورة شعبكم، وأن عليكم وعليه نسيان حدود الدم، لأنه إن حاول هو نفسه رسمها في كردستان العراق هدر دماء أكرادها عبثا، وفقد ما لديه، في ظل اختلال موازين القوى المطلق بينه وبين الدول التي ترفض مشروعه، ولم تغير موقفها منه، على الرغم مما قدمه من تفسيرات له اعتبرته انتقاليا، وغير نهائي، وشكليا، ومجرد استفتاء لن تكون له أية نتائج تنظيمية أو سياسية… إلخ.

سيكون من الحكمة أن يراجع كرد سورية موقفهم من وطنهم، ويتخلوا عن سياسات التحريض وإعلامه ضد العرب، ويتوقفوا عن إحداث تغيير ديمغرافي وجغرافي في ربع مساحة سورية، بعد أن واجه مشروع البارزاني في العراق، بشروطه الأفضل بكثير من شروطهم، رفضا دوليا شاملا بلغ حد التهديد بخنقه اقتصاديا أو عسكريا. وليفهم كرد سورية أنها لن تقسّم، ولن يكون في وسع كرد إيران وتركيا تقطيعها والاستيلاء على خمس مساحتها، ومن الأفضل لهم، ولجميع السوريين، الدعوة الفورية إلى حوار وطني، يحدد شكل الدولة السورية المطلوبة، ويضع قدراتهم، بعد تعريف حقوقهم والالتزام الوطني بتحقيقها، في خدمة رحيل النظام وقيام الدولة الديمقراطية، التي تعدهم بما لن يحققه لهم أحد غير شعبهم: العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية!

كان لينين الداعية الأكبر لحق تقرير المصير كحق انفصال عن كيان دولوي قائم، لكنه ربط هذا الحق بالثورة، بعد قيامها، حين قال: علينا أن ندعم، كثوار، حق أي شعب في تقرير مصيره حتى الانفصال، وعليه أن يتخلى عن حقه في الانفصال، ليسهم في ثورةٍ تمنحه جميع حقوقه. وبالمناسبة، يضيف لينين: من حقي أن أنفصل عن زوجتي، لكنني لا أمارس حقي هذا، لأنه يضر بي.

العربي الجديد

 

 

 

اليوم التالي بعد الاستفتاء/ بكر صدقي

بعد مسار متوتر ومشحون بتهديدات وتحذيرات من دول الجوار، ومن المجتمع الدولي أيضاً، تم الاستفتاء بسلام وفي موعده المحدد. ولم تكن نتائجه خارج التوقعات: بلغت نسبة المشاركة، حسب التقديرات الأولية، 72٪ ممن يحق لهم الإدلاء بأصواتهم، ونسبة الذين صوتوا بنعم لاستقلال إقليم كردستان 93٪. الآن يبدأ مسار جديد، يتضح من نتائج الاستفتاء أن غالبية ساحقة من سكان الإقليم يريدون له أن ينتهي بقيام دولة كردستان المستقلة، بصرف النظر عن المسافة الزمنية التي تفصلهم عن ذلك.

كانت هناك مخاوف عدة من عدم انقضاء يوم الخامس والعشرين من أيلول على خير، منها تفجير الساحة بعمليات إرهابية، لم يكن مستبعداً أن تلجأ إليها جهات تعتبر نفسها متضررة؛ ومنها احتمال استمرار الشقاق الكردي الداخلي بين المتمسكين بالاستفتاء في موعده وأولئك المعترضين على التوقيت؛ ومنها أخيراً أن ترضخ قيادة الإقليم أمام التهديدات والتحذيرات والمعارضة الداخلية، فتؤجل موعد الاستفتاء.

كل ذلك أصبح الآن وراءنا، وحقق الاستفتاء، بمجرد إجرائه، كثيراً من أهدافه. فقد طرح حق تقرير المصير لكرد العراق للنقاش العام، لأول المرة بهذه المشاركة الواسعة من الرأي العام، سواء في العراق والدول المجاورة التي تعتبر نفسها معنية، أو في المجتمع الدولي. وإذا كان خصوم حق تقرير المصير، أو المعترضين على بعض جوانبه كالتوقيت وترسيم الحدود والنموذج السياسي الذي يمكن لكردستان مستقلة أن تقدمه وغيرها من الاعتبارات، ما زالوا يشكلون نسبة كبيرة من الرأي العام، فلا يفوت المراقب، بالمقابل، اتساع رقعة المرحبين بامتلاك الكرد لمصيرهم بعد قرن من النكران والآلام، بنسبة فاقت التوقعات.

أما في الرأي العام العراقي نفسه، في قسمه العربي، فقد لعب التوتر السني ـ الشيعي دوره في مواقف العراقيين من الاستفتاء ومن حق تقرير المصير للكرد. ففي المناطق المتنازع عليها صوت كثير من العرب (السنة) بنعم للاستفتاء، من منطلق خصومتهم مع الحكومة المركزية التابعة لإيران. فحتى من كان منهم يحمل أفكار القومية العربية، وجد نفسه أمام خيارين غير عروبيين، بين بغداد إيرانية الهوى وأربيل الصريحة في كرديتها. مع تفضيل للثانية عند المقارنة بين الأوضاع هنا وهناك.

في حين كان هاجس الكيان الفيدرالي الذي فرضه حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال سوريا كأمر واقع، حاضراً في مواقف السوريين العرب من استفتاء إقليم كردستان، وبخاصة أن «الإدارة الذاتية» القائمة في تلك المناطق المحاذية للحدود التركية، قد بدأت انتخاباتها المحلية في توقيت متقارب مع استفتاء إقليم كردستان، وما تشكله ممارسات الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في مناطق سيطرته، وفي حربه على داعش تحت مظلة التحالف الدولي، من عامل سلبي في الوعي العام. ومع ذلك لوحظ، في الرأي العام العربي في سوريا، ترحيب فاق بحجمه التوقعات، باستفتاء كردستان وبقيام دولة كردية مستقلة هناك. ومن المحتمل أن الخطاب العقلاني الهادئ لقيادة الإقليم، وعدم انجراره وراء الاستفزازات، قد لعب دوراً إيجابياً في الاتساع النسبي للتعاطف مع مشروع الإقليم الاستقلالي. نقطتان شديدتا الأهمية ركز عليهما هذا الخطاب: أن موضوع استقلال الإقليم هو موضوع لا يتجاوز بطموحه حدود الإقليم إلى المناطق الكردية في الدول المجاورة، وتأكيده على احترام التنوع القومي والثقافي داخل حدود الإقليم. وقد أصدرت اللجنة العليا للاستفتاء وثيقة تتعلق بحقوق المكونات غير الكردية داخل الإقليم، تصل حد الكيانية الفيدرالية، بمن في ذلك يزيديو شنغال الذين يعتبرون أنفسهم هوية فرعية مستقلة عن باقي الكرد، قائمة على أساس الاختلاف الديني. من نافل القول طبعاً أن هذه الوثيقة تبقى مجرد وثيقة ما لم تتم ترجمتها إلى التزامات واضحة بشأن تضمين الحقوق المذكورة في دستور الدولة القادمة. وهذا ما يمكن أن تقدمه قيادة الإقليم للأطراف التي ستدخل معها مفاوضات قد تكون طويلة وشاقة قبل الوصول إلى الاستقلال المأمول، سواء الحكومة العراقية المركزية أو دول الجوار، أو المجتمع الدولي عموماً الذي لا يمكن للكيان المفترض قيامه أن يستغني عن مباركته والاعتراف به. الواقع أن الاستفتاء، بنتائجه التي لم تخيب التوقعات، سيضع جميع الأطراف المعترضة، بدرجات متفاوتة، على استقلال الإقليم، في موقف حرج فحواه معارضة إرادة شعب الإقليم التي تم التعبير عنها بالوسائل السلمية الديمقراطية. وهذا مما تحقق من أهداف الاستفتاء.

مع ذلك أمام الإقليم وقيادته السياسية تحديات كبيرة في المرحلة القادمة. لندع جانباً تهديدات دول الجوار، العراق وإيران وتركيا، فهي في تقديري لن تتجاوز مستوى الخطاب إلى إجراءات ملموسة تم التهديد بها، من المفترض أن تخنق الإقليم المحروم من إطلالة بحرية تفتحه على العالم. فتلك الدول لا يمكنها أن تشكل تحالفاً متماسكاً ضد الإقليم، فضلاً عن مصالح اقتصادية وسياسية تربطها بالاقليم لا يمكنها أن تشطب عليها بسهولة.

فالتحدي الحقيقي أمام الإقليم هو القدرة على بناء مؤسسات دولة قابلة للحياة، وتكون نموذجاً جذاباً يبرر استقلالها عن العراق، وتقنع المجتمع الدولي بالاعتراف بها. كذلك فإن الاعتماد الحصري على دعم وحماية الولايات المتحدة الذي لم ينقطع منذ 1991، سيؤدي إلى تبعية تفقد الاستقلال إيجابياته، فضلاً عن تشكيله عبئاً سياسياً واقتصادياً على الحليف الأمريكي نفسه. وربما هذا هو سبب الموقف المتحفظ للإدارة الأمريكية من الاستفتاء.

ولعل من أهم التحديات والمخاطر على التجربة الوليدة هو اليد الإسرائيلية الممدودة بسخاء غير نظيف. فالعلاقة مع دولة قائمة على الاحتلال والعنصرية لا تشرف قضية تحررية مشروعة كقضية حرية الشعب الكردي واستقلاله التي دفع في سبيلها، طوال قرن، الكثير من الدم. وليس من مصلحة الدول العربية المعنية إطباق الخناق على كردستان بما قد يجبرها على التقارب مع المحتل الإسرائيلي. ولهذا الإجبار باب لا يخفى على أحد: إذا رفضت دول الجوار التفاوض على استقلال الإقليم، وتلا ذلك إعلان هذا الاستقلال من طرف واحد، فردت هذه الدول بالحرب، فلا يستبعد أن تعرض إسرائيل على الإقليم المساعدة العسكرية. هذه سيناريوهات مستبعدة جداً في ظل الظروف القائمة. فلا العراق ولا إيران ولا تركيا في وضع مرتاح يسمح لها بالقيام بمغامرات عسكرية خارج حدودها. وليس أمام الإقليم إلا استخدام كل إمكاناته الدبلوماسية الناعمة، وبنفس طويل، والابتعاد عن أي استفزاز، وتقديم حوافز اقتصادية، في الطريق الوعر الطويل باتجاه الاستقلال.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

النظام السوري والكرد.. صدام أم توافق؟/ خورشيد دلي

التحالف الوظيفي إلى أين؟

تحولات على وقع الميدان

الامتحان الأصعب للطرفين

مع تسابق قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى السيطرة على دير الزور تحت شعار واحد هو استعادة المدينة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ ثمة سؤال جوهري يطرح نفسه هو: كيف سيكون شكل العلاقة بينهما في اليوم التالي لاستعادة المدينة؟

لعل السؤال السابق يشكل الامتحان الأصعب لعلاقة الطرفين التي طالما ظلت في إشكالية تتراوح بين الدور الوظيفي لها في سياق مراحل الأزمة السورية، وبين وجود مشروعين متناقضين على أرض الواقع لاختلاف رؤية كل طرف لمستقبل البلاد، ولا سيما في ظل إصرار الكرد على الفدرالية كنظام للحكم ورفض النظام والمعارضة معا لذلك.

التحالف الوظيفي إلى أين؟

منذ البداية، بدا وكأن ثمة تفاهم بين النظام السوري والكرد، وبشكل أدق حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب ولاحقا قوات سورية الديمقراطية.

فعلى وقع اشتداد المعارك في حلب وحمص والجنوب؛ سحب النظام قواته من المناطق الكردية بغية التفرغ لهذه المعارك، فتسلمها حزب الاتحاد الديمقراطي وسارع إلى تشكيل إدارة ذاتية أنيطت بها مهمة إدارة العلاقات بين مكوناتها، وفق خطاب تجاوز البعد القومي إلى تنظيم كافة المكونات الاجتماعية في معركة حملت شعار مكافحة الإرهاب.

وهكذا تفرغ النظام لمحاربة الفصائل المسلحة التي رفعت شعار إسقاطه وتغاضى عن “الخطر الكردي” مرحليا في إطار إستراتيجية بعيدة المدى تبقي على النظام، بينما تفرغ الكرد لمحاربة “داعش” فكانت المحطة الأهم في هذا السياق هي معركة كوباني التي نقلت الكرد إلى مرحلة جديدة على صعيد التحالفات.

فقد كانت هذه المعركة بداية افتراق سياسي بين الكرد والنظام لصالح دخول الكرد في تحالف مع الولايات المتحدة الأميركية التي وجدت فيهم حليفا موثوقا به لمحاربة “داعش”، وترسيخ نفوذ واشنطن داخل الساحة السورية في إطار الصراع مع الروس على النفوذ وأوراق القوة، لا سيما بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا.

وعلى وقع هذه التطورات؛ بدا أن العلاقة الأمنية السابقة لم تعد قادرة على تأطير الجوانب الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية للعلاقة، خاصة أن الكرد اتجهوا -بجانب تحالفهم مع أميركا- إلى نسج العلاقات مع الروس والأوروبيين وغيرهم، كما بدأت أذرعهم العسكرية في الصعود دون الصدام مع النظام إلا في حدود معينة.

وهكذا حملت العلاقة الوظيفية السابقة بداخلها مشروعين متناقضين، وبات كل طرف ينظر إلى الآخر بوصفه مصدر خطر على مشروعه المستقبلي ما لم تحدث تطورات سياسية خارج المألوف؛ فالنظام يجد اليوم نفسه أمام واقع كيان كردي من الصعب عليه القبول به لأسباب أيديولوجية وسياسية، ومخاوف مستقبلية من ولادة دولة كردية مستقلة في المنطقة، ولا سيما في ظل إصرار كرد العراق على استفتاء يحدد مصير الإقليم بالاستقلال.

وفي المقابل، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي -الذي يجيد بناء التحالفات والدخول في المحاور مع خوض القتال عبر جناحه العسكري- يجد أنه من المستحيل العودة إلى المرحلة السابقة، وأن سوريا المستقبل لا يمكن أن تكون دولة مركزية، وبالتالي لا تَراجع عن مطالبته بالنظام الفدرالي بوصفه الأنسب لإدارة الحكم في البلاد.

تحولات على وقع الميدان

في الواقع، يمكن القول إن التطورات الميدانية أفرزت واقعا جديدا في العلاقات بين النظام والكرد على شكل افتراق في الأهداف وتضارب في الأولويات؛ فسيطرة النظام على حلب مكنته لاحقا من التوجه نحو الحدود الأردنية والعراقية بدعم من روسيا وإيران وحزب الله.

وعلى وقع هذا التقدم بات النظام يعتقد أن باستطاعته استعادة السيطرة على كافة المناطق التي خسرها بما في ذلك المناطق التي سيطر عليها الكرد، خاصة أن اتفاقات وقف إطلاق النارالتي تتم بين الروس والأميركيين تمنحه إمكانية مواصلة عملياته العسكرية باسم مكافحة الإرهاب.

وفي المقابل، فإن قوات سوريا الديمقراطية سيطرت -بدعم أميركي مباشر- على العديد من المناطق الشمالية والشرقية، ونجحت في ربط هذه المناطق جغرافياً على شكل كيان يتشكل خطوة خطوة، وهو الأمر الذي هيأ لها الأرضية لخوض معركة الرقة ومن ثم إعلان معركة الريف الشرقي الجنوبي لمحافظة دير الزور، انطلاقا من بلدة الشدادة التي كانت معقلا لـ”داعش” في محافظة الحسكة.

ولعل السمة البارزة لهذه التطورات كانت سرعة وصول إلى ضفاف الفرات من جهة، ومن جهة ثانية بروز محورين متناقضين بشكل واضح هما: النظام في المحور الروسي/الإيراني، والكرد في المحور الأميركي. ويتصارع المحوران على منطقتيْ نفوذ، حيث يسعى كل طرف إلى بسط سيطرته على أوسع منطقة جغرافية ممكنة، ومنع الطرف الآخر من التمدد وقطع الطريق أمامه مستقبلا إذا ما قرر ذلك.

ولبلوغ العلاقة بين الجانبين هذا المستوى من الحساسية مجموعة من الأسباب المتداخلة؛ فبالنسبة للنظام تبقى قوات “قسد” ممثلا لمجموعة قومية مختلفة لها مطالب تثير مخاوف مستقبلية خاصة في ظل التواصل الكردي خارج الحدود، كما أن تحالف الكرد مع واشنطن يثير مخاوفه من وجود أميركي طويل الأمد في شمال شرقي البلاد، خاصة أن الإدارة الأميركية أقامت العديد من القواعد والمراكز العسكرية في هذه المناطق.

وفي النهاية يعتقد النظام أن ما جرى على صعيد العلاقة مع الكرد -ولا سيما في البداية- كان بتخطيط منه، وأنه يستطيع إعادة الأمور إلى ما كانت عليها حال الانتهاء من الفصائل المسلحة المطالبة بإسقاطه. ولعل هذا ما يفسر وصف فيصل المقداد (نائب وزير الخارجية السوري) قبل فترة هذا الوضع بالمزحة، وذلك عند سؤاله عن الانتخابات التي ينوي الكرد تنظيمها في مناطق سيطرتهم.

أما الكرد فإنهم -وانطلاقا من عناصر القوة التي امتلكوها وتحالفهم مع الإدارة الأميركية وجملة المعادلات التي تؤثر في الأزمة السورية- باتوا يعتقدون أن النظام لم يعد قادرا على فرض شروطه عليهم، وأنه لا مجال للعودة إلى الوراء، دون أن يعني ما سبق عدم حرصهم على تجنب الصدام مع النظام.

الامتحان الأصعب للطرفين

مع تسابق النظام والكرد إلى السيطرة على أكبر مساحة من محافظة دير الزور؛ ثمة ملامح مرحلة فاصلة ترسم على ضفاف الفرات على شكل امتحان سيكون الأصعب لعلاقة الطرفين، ولعل السؤال الملح هنا يتعلق بالسيناريو الذي سينطلق في اليوم التالي لتحرير المدينة من “داعش”. وإلى حين قدوم تلك اللحظة؛ يجري الحديث عن جملة سيناريوهات لعل أهمها:

1- سيناريو الصدام: وينطلق أصحاب هذا الرأي من أن النظام بات -بدعم من حليفيه الروسي والإيراني- يتحدث ويتصرف بمنطق المنتصر، فيؤكد أنه لن يتوقف عند حدود دير الزور بعد السيطرة عليها وإنما سيتجاوز نهر الفرات ليتجه شرقا، حتى ولو أدى ذلك إلى صدام مع قوات “قسد”.

وذلك في ظل اعتقاده أن الإدارة الأميركية -التي رفعت شعار أولوية محاربة “داعش” دون إسقاط النظام- ستراجع حساباتها الكردية، على وقع نتائج معركة الرقة والحسابات الإقليمية المرتبطة بالحليف التركي، وأن الوهم الذي امتطاه الكرد سينقلب عليهم ما لم يعودوا عنه. ومثل هذا السيناريو يعني مواجهة حتمية سيخوضها الكرد الذين لن يجدوا ما يخسرونه في معركة وجودهم القومي.

2- سيناريو التوافق: ويستمد هذا السيناريو مشروعيته من أن اللاعبيْن الأميركي والروسي لن يسمحا بالصدام، وأن هناك مساحة كبيرة للتفاهم في إطار جديد لتوزيع الأدوار ومناطق النفوذ والسيطرة، خاصة أن مثل هذا التوجه ينسجم مع مجمل السلوك الأميركي والروسي في مراحل الأزمة السورية.

ويقوم هذا السيناريو أساسا على شكل الحل السياسي الذي ينتظر الأزمة السورية، وهو في عناوينه العامة يقوم على إيجاد حكم لا مركزي يسمح للإدارات الذاتية بشكل من أشكال الحكم المحلي، وهو ما سيضمن للكرد إطارا من المشاركة المحلية في الحكم. لكن مثل هذا السيناريو لا ينفي إمكانية حصول مواجهات محدودة في مناطق حساسة بغية تعزيز النفوذ والدور.

وفي الواقع، إذا كانت محافظة دير الزور تشكل امتحان العلاقة بينهما فإن العامل الذي يعمل عليه كل طرف لفرض موقفه هو المكوِّن العربي في هذه المنطقة، وعليه يمكن فهم السعي النظام الحثيث إلى تشكيل جبهة من القبائل العربية لمواجهة التطلع الكردي وخرق البنية الاجتماعية لمناطق الإدارة الذاتية.

وفي الوقت نفسه؛ يسارع الكرد إلى فرض الوقائع وخلق معطيات جديدة على الأرض عبر تشكيل مجالس عسكرية ومدنية في المناطق التي يسيطرون عليها، تطلعا إلى تجيير التطورات لصالحهم في المستقبل.

ومن دون شك، فإن العلاقة بين النظام والكرد دخلت مرحلة حساسة يبدو أن سيناريو كل من الصدام والتوافق حاضر فيها بقوة، ولا سيما في ظل توجه الكرد إلى اتخاذ مجموعة من الخطوات التي تعزز المزيد من الانفكاك عن النظام، وفي مقدمة هذه الخطوات سلسلة الانتخابات التي تعتزم الإدارة الذاتية إجراءها في الأسابيع والأشهر المقبلة.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

 

 

 

استفتاء الاستقلال الكردي الوهمي: انتهت السكرة وبدأت الفكرة/ جلبير الأشقر

وبعد، فماذا جنى شعب كردستان العراق من الاستفتاء الذي نظّمه رئيس الإقليم مسعود البارزاني يوم الإثنين الماضي؟ كانت حقاً «ضربة سيف في الماء» كما يقول تعبيرٌ فرنسي بليغ، إذ أن الاستفتاء لم يقدّم الإقليم خطوة واحدة في اتجاه الاستقلال المنشود، بل كان بتعريف القائمين عليه استفتاءً «غير ملزم» هو بمثابة استطلاع للرأي، ليس أكثر.

فماذا كانت العبرة إذاً من هذا الاستفتاء/الاستطلاع؟ أن الغالبية الساحقة من الشعب الكردي في شمال العراق سواء في كردستان أو في المناطق المتنازع عليها، وأهمها مدينة كركوك ومحافظتها، تؤيد فكرة الاستقلال؟ يا لها من مفاجأة! وكأن أحداً كان لديه أدنى شك في أن الرغبة في الاستقلال رغبة طاغية وجامحة لدى الشعب الكردي. بل ليس من شك في أنه لو تم استفتاء الأمة الكردية برمّتها، ولا سيما في تركيا وإيران بالإضافة إلى العراق بل وحتى في سوريا، خاصة لو جرى ذلك بالاتفاق مع حزب العمال الكردستاني وحلفائه الإقليميين، قلنا لو تم استفتاء الأمة الكردية برمّتها في تشكيل دولة كردية موحدة مستقلة، لأتت النتيجة بتأييد كاسح. ذلك أن الأمة الكردية، كأي أمة محرومة من السيادة ومجزّأة، تطمح إلى الاستقلال والوحدة، وهو حق لا ينكره عليها سوى أرباب الاضطهاد والطغيان أعَرَباً كانوا أم أتراكاً أم إيرانيين.

لكنّ انتقاد كاتب هذه السطور لتنظيم الاستفتاء في هذا الوقت، على غرار العديد من الكرد النيّرين غير الآبهين بالابتزاز القومي الذي يمارسه مسعود البارزاني وأعوانه وأنصاره، والذين أدركوا أن تحجّجه بحق تقرير المصير إنما هو «كلمة حق أريد بها باطل»، انتقادنا جميعاً لإجراء الاستفتاء في هذا الوقت بالذات لم يكن من باب إنكار الحق الكردي، بل وعلى العكس من باب الحرص عليه. والحال أن كردستان العراق بعد الاستفتاء الذي نظّمه البارزاني ليست أقرب إلى الاستقلال المنشود، بل إنها، والحق يُقال، أبعد منه وبدرجات خطيرة.

فعندما يستفيق شعب إقليم كردستان العراق من السكرة التي نظّمها البارزاني مدغدغاً مشاعره القومية، ودغدغة مثل تلك المشاعر إنما هي أسهل الوسائل المُتاحة لدى الحكّام الفاسدين لإلهاء شعوبهم عن فسادهم (وقد خبر العرب لجوء حكّامهم إلى مثل تلك الحيلة أمراراً لا تُحصى)، سوف يواجه كشف الحساب المرير. فالاستفتاء لم يأت بأي جديد لصالح الاستقلال الكردي، إذ أن نتيجته كانت معروفة سلفاً ولم يكن ثمة شك في ماذا سوف تكون، لكنّه أتى بتكالب ضد الاستقلال الكردي تفوق حدّته ما كان يمكن توقّعه.

إن الصورة لباهرةٌ ومقلِقة: لم يحقق البارزاني إجماع شعب كردستان العراق، إذ أن قسماً منه، ولو كان محدوداً، رفض الاستفتاء وقاطعه، بل أفلح بامتياز في تحقيق أوسع إجماع بين أعداء الشعب الكردي وشتى حلفائه الظرفيين، باستثناء الحكم الصهيوني الخبيث، على استنكار الاستفتاء، فضلاً عن إدانة الأمم المتحدة الرسمية له. فلنستعرض الحصيلة: الحكم التركي، المضطهِد الأكبر للشعب الكردي الذي تذيّل له البارزاني سنين طويلة (مثلما اعتمد والده في الماضي على شاه إيران حتى طعنه هذا الأخير في الظهر، ومثلما دعا هو صدّام حسين بالذات إلى التدخّل لدعمه عسكرياً ضد أنصار خصمه الكردي جلال الطالباني سنة 1994)، ذلك الحكم التركي الذي تواطأ معه البارزاني في ضربات متكررة ضد حزب العمال الكردستاني والذي اعتمد عليه اقتصادياً إلى حد جعل كردستان العراق مستعمرةً اقتصادية للرساميل التركية، ذلك الحكم أعلن أنه سوف يخنق الإقليم اقتصادياً لو تجرّأ كرد العراق على ترجمة استفتائهم الرمزي إلى واقع فعلي، وأنه لن يتردّد في التدخّل العسكري بحجة حماية الأقلية التركمانية وغيرها من الذرائع.

وكذلك فعل المضطهِد الكبير الآخر للشعب الكردي، ألا وهو الحكم الإيراني، الذي قطع الطريق الجوّي عن الإقليم ودعا كافة الحكومات المحيطة به إلى عزله برّاً. وقد ترافق الموقف الإيراني على غرار الموقف التركي بمناورات عسكرية من قبيل التهديد والوعيد. هذا وقد نجح البارزاني في تحقيق إجماع ضد الاستفتاء بين الزعامات الطائفية الشيعية في العراق، من التابعين لإيران أمثال نوري المالكي وعمّار الحكيم إلى المناوئين للهيمنة الإيرانية أمثال مقتضى الصدر، مروراً بصديق واشنطن حيدر العبادي. وإن حرص الولايات المتحدة، عرّابة استقلال كردستان العراق الفعلي منذ عام 1991 التي لولا حمايتها العسكرية لما نعم الإقليم بالازدهار الذي عرفه بينما كان سائر العراق يغرق في محنة عظيمة لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، إن حرص واشنطن على تدعيم العبادي إزاء منافسيه من حلفاء إيران وعلى إرضاء حليفها التركي قد جعلها تنضمّ إلى المندّدين بقرار البارزاني المضي في إجراء الاستفتاء.

ولو أضفنا إلى كل ذلك الانشقاق في الصفّ القومي الكردي الذي أنجزه قرار البارزاني، ولا سيما معارضة الحزب المهيمن سياسياً في أكبر أقسام الأمة الكردية، ألا وهو حزب العمال المهيمن في كردستان تركيا، وجدنا في المحصّلة أن كردستان العراق خرجت من لعبة الاستفتاء «غير الملزم» أضعف وأكثر عزلة مما في أي مرحلة من تاريخ الإقليم، تواجه تكالباً ضدها يُبعد حلم الاستقلال من التحقيق بدل أن يقرّبه.

٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

 

 

 

عن الانفصال والوحدة الكرديّين/ حازم صاغية

ليس الانفصال نعيماً مضموناً لمن ينفصل. وهناك انفصالات كثيرة، آخرها جنوب السودان، لم تؤسّس دولاً مستقرّة تليق بمواطنيها. لكنْ ليست الوحدة نعيماً مضموناً لمن يتّحد، أو يُوحّد. ووراءنا من التجارب ما يكفي لإصدار حكم كهذا، حكمٍ كفيل بأن يكذّب ألف مرّة كلّ ما قاله ساطع الحصري وميشيل عفلق وأنطون سعادة وزكي الأرسوزي. وفي هذه التجارب الفاشلة تندرج الدول الاستبداديّة المركزيّة كالعراق وسوريّة، والتجارب الوحدويّة العابرة للدولة، كـ «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة» المصريّة – السوريّة في 1958–1961.

وحين لا تكون المفاضلة مطلقة بين الوحدة والانفصال، بين الدولة الكبيرة والدولة الصغيرة، تصبح الحالات قابلة للدرس حالةً حالةً. أمّا المقياس النظريّ الشامل فيوضع على رفّ المكتبة أو يُرمى من الشبّاك إذا فاضت الكتب عن ضيق البيت.

في هذا المعنى لا يمكن غضّ النظر عن إرادة السكّان المعنيّين، أو اعتبارها زائدة بلا لزوم. وحتّى حين يخطئ هؤلاء السكّان فإنّهم، والحال هذه، يتحمّلون مسؤوليّة الخطأ الذي ارتكبوه بحقّ أنفسهم. وهذا معنى التعامل مع كائنات ناضجة وراشدة يُفترض أن تكونها الشعوب.

لكنْ لئن بات يستحيل الشكّ برغبة الأكراد في الانفصال، شاع التركيز على أنّهم إمّا متآمرون أو قُصّر.

أمّا في صدد المؤامرة على المنطقة، فتكفي معرفة الحدّ الأدنى لما يجري في العالم كي تُستبعد حصريّة التآمر علينا. ففي إسبانيا أيضاً، وفي بلاد الكاتالان تحديداً، «مؤامرة» أخرى مشابهة. وبات معروفاً جدّاً أنّ مسألة الانفصال باتت مطروحة على جدول أعمال بلدان عدّة، من اسكتلندا وبلجيكا إلى كندا. وهناك من يربط هذه الوجهة بالعولمة، وهناك من يربطها بصعود الهويّات أو انتهاء صلاح الدولة المركزيّة، لكنْ حتماً لا يوجد من يربطها بالمؤامرة.

وأمّا في صدد التعامل الإمبراطوريّ– العنصريّ مع الأكراد بوصفهم قاصرين، فتواجهه مشكلة حادّة: فهذه المرّة تفتقر السرديّة الإمبراطوريّة لقصّة نجاح واحدة يمكن التذرّع بها لكي ندلّ الأكراد إلى «مصالحهم الحقيقيّة». والبائس أنّ العرب (والأتراك والإيرانيّين) الذين ينصحون الأكراد باتّباع «مصالحهم الحقيقيّة» يتصرّفون كمن رسب في امتحانات الثانويّ فقرّر أن يؤلّف كتاباً عن التعليم الجامعيّ. وكما الحال غالباً، لا يلبث الناصح الأبويّ أن يكشّر عن أنيابه مقاطعةً ومحاصرةً وخنقاً وحشوداً عسكريّة!

لقد قيل مراراً إنّ المشكلة تكمن في أنظمة طوّرت أسوأ ما في الاجتماع الوطنيّ لبلدانها، وبدل أن تضيّق الفجوات الموروثة وسّعتها وأكسبتها طابعاً مراتبيّاً خشناً وماهويّاً. وفي حالة العراق تحديداً، كان التعثّر الداخليّ سبباً في عدوانيّة خارجيّة عبّرت عن نفسها مع عبد الكريم قاسم حين هدّد الكويت، ومع صدّام حسين حين غزاها، وفي الحرب مع إيران، وفي التنازع الدائم مع سوريّة التي كانت تبادل العراق العدوانيّة نفسها، لأنّها تعاني التأزّم الداخليّ نفسه الذي يعانيه العراق.

وهذا، في العمق، ما انتفضت ضدّه أغلبيّات الشعوب العربيّة، طالبةً الحرّيّة التي لا بدّ أن تفضي إلى مفاوضة اجتماعها الوطنيّ القائم والقامع. وهذا أيضاً ما أراده ويريده الأكراد في شمال العراق بعدما انهزم الطلب الأوّل على الحرّيّة. أمّا الطلب الثاني عليها فينبغي ألاّ يُهزم، وإلاّ صارت المنطقة كلّها مرادفاً للطغيان والعسف.

الحياة

 

 

 

الأكراد و «داعش»: لماذا هذان الإجماعان؟/ حازم صاغية

استفتاء الأكراد هزّ العالم ووحّده ضدّ الأكراد. في إسبانيا، تحرّكت حكومة مدريد، المعنيّة مباشرة بالأمر، ضدّ مشروع الاستفتاء الكاتالاني. في العراق، العالم كلّه بدا معنيّاً. بعضه اعترض وبعضه ندّد وبعضه لجأ إلى التهديد المباشر.

يمكن فهم كلّ واحد من الأطراف على حدّة. لكنّها حين تؤخذ معاً يصير واضحاً أنّ تغيير صورة الشرق الأوسط لا يزال أمراً مرفوضاً. لا يغيّر في ذلك أنّ هذا الشرق الأوسط يستمرّ في عرض «مفاتنه» الدمويّة على العالم، اقتتالاً وحروباً أهليّة وانكشافاً للعجز عن إدامة الاجتماع الوطنيّ بأشكاله القائمة.

الذين كانوا يندّدون بـ «خريطة سايكس– بيكو» تمسّكوا بها. الذين كانوا يرحّبون بمبدأ «حقّ تقرير المصير» تحفّظوا عليه. أصوات سنّيّة في العراق استنفرت «العروبة». أصوات شيعيّة راعها الانفصال عن سلطتـ «ـنا».

هناك انتقادات كثيرة صائبة توجّه لقيادة أكراد العراق. لنوع النظام الذي ينوون إنشاءه. لقلّة الحساسية التي أبداها الاستفتاء حيال خصوصيّة كركوك. لكنّ أكراد العراق، وفي ما هو أساسيّ، تصرّفوا كمن يريد أن يدفن الميّت الذي شبع موتاً وأشبعنا عفونة. الآخرون متمسّكون بجثّة الميّت، يغسلونها مرّةً بعد مرّة من دون أن ينجحوا في إزالة رائحة العفونة.

الميّت الموقّر ليس دول الواقع القائم فحسب، بل أيضاً خطاب هذا الواقع: ففي معارضة حقّ تقرير المصير، لم تظهر فكرة واحدة لامعة، أو جملة واحدة مفيدة. الكلام هو إيّاه: «وحدة العراق. إسرائيل ثانية. التصدّي للإرهاب».

الحكومة العراقيّة، وهي أكثر المعنيّين مباشرة بالمسألة، كانت الأضعف خيالاً والأشدّ بكماً. هنا، في المقابل، بدت قيادة الإقليم الوحيدة التي طرحت في سوق التداول السياسيّ فكرة جديدة: دولة غير قوميّة تشمل غير الأكراد من سكّان إقليم كردستان، ولا تشمل الأكراد من غير سكّان الإقليم. إنّها الفكرة الوحيدة ربّما التي سمعناها في السنوات الأخيرة والتي تحاول اللحاق ببعض مستجدّات المنطقة، أي بتفسّخ الدول وتعفّن العلاقات الأهليّة في كلّ منها. أمّا أن يكون أحد أهداف هذه الفكرة طمأنة دول الجوار حيث يعيش أكراد، فهذا لا ينتقص من جدّتها وجدّيّتها. إنّه، فوق هذا، يمنحها مزيداً من حسّ السياسة الذي تستدعيه الأفكار. بيد أنّ الإجماع ضدّ الاستفتاء الكرديّ، وتالياً ضدّ الكيان الكرديّ المستقلّ، يذكّر بإجماع آخر تعيشه المنطقة: الإجماع ضدّ «داعش». وهذا، للوهلة الأولى، يبدو غريباً، إذ الأكراد و «داعش» خصمان في العراق وخصمان أيضاً في سوريّة.

لقد سبق أن رأينا شيئاً من هذا في التعاطي مع الثورة السوريّة. لقد قيل للسوريّين: كونوا ضدّ «داعش» واصمتوا.

فكأنّ الإجماعين، ضدّ الأكراد وضدّ «داعش»، مأخوذين معاً، يشيران إلى انعدام أيّ صورة تحرّر الشعوب لدى صنّاع القرار في الشرق الأوسط والعالم، ولكنْ أيضاً إلى انعدام أيّ صور عن المنطقة ومستقبلها: من جهة، تُختَصر الأوضاع والتعقيدات في نظريّة «الحرب على الإرهاب» بوصفها حدّاً أدنى يلتقي حوله متخاصمون ومتنافسون، كما يتستّرون على خصوماتهم ومنافساتهم. ومن جهة أخرى، عدم السماح بفتح ملفّات الاجتماع الوطنيّ وأنظمته السياسيّة، ما يضمن وحده مخرجاً سياسيّاً ممّا نحن فيه، مخرجاً أغنى وأبعد أثراً من «الحرب على الإرهاب». بلغة أخرى: المنطق السائد يقوم على إطلاق القتال وكبت السياسة. لهذا ضُرب أكراد العراق على يدهم حين حاولوا أن يفتحوا ملفّهم المزمن والمحتقن.

المؤلم أنّ إسرائيل الطرف الرسميّ الوحيد الذي أيّد الاستفتاء الكرديّ. والمؤلم أكثر أنّها، هي التي تمتنع عن حلّ مشكلة الفلسطينيّين ومشكلتها هي نفسها بالتالي، تملك التصوّر الأعرض لحلّ مشاكل جيرانها. وهذا بالتأكيد ينطوي على نفاق، لكنّه أيضاً ينطوي على تصوّر. ويُخشى أن يولّد ذاك الموقفُ الإسرائيليّ حبّاً كرديّاً للدولة العبريّة سبق للعرب أن اتّهموا به الأكراد قبل أن يصير حبّاً، ثمّ مضوا في التنديد دافعين الأكراد إلى ولهٍ بإسرائيل. وطبعاً سترتفع الأصوات العربيّة (والتركيّة والإيرانيّة) مستغربةً: لماذا يكرهنا الأكراد ويحبّون إسرائيل؟

الحياة

 

 

 

عن تناول المعارضة السورية القضية الكردية/ ماجد كيالي

تثير الانتخابات التي أجريت في مناطق سيطرة «قوات سورية الديموقراطية»، التي يقودها حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي)، أخيراً، والتي يستهدف من خلالها تشكيل «المؤتمر الديموقراطي الشعبي» لفيديرالية شمالي سورية (بداية العام القادم)، ثلاث قضايا: الأولى، تفيد بوجود مسألة كردية في سورية. والثانية، تفيد بوجود مسألة كردية في إطار المعارضة. والثالثة تفيد بضرورة التوافق على شكل سورية المستقبل، لا سيما مضمون نظامها السياسي.

المسألة الأولى معروفة، باعتبارها نتاجاً للسياسات التي انتهجها نظام الاستبداد، الذي يحكم سورية منذ قرابة نصف قرن، كسلطة طاغية، همّشت الدولة، باعتبارها دولة مؤسسات وقانون، ومحت المواطنة، بإنكارها حقوق كل السوريين، انطلاقاً من شعار: «سورية الأسد إلى الأبد»، واعتبارها البلد مزرعة أو ملكية خاصة لتلك العائلة. لذا، فما ينطبق على السوريين هنا ينطبق على كل مكونات الشعب، ويأتي ضمن ذلك التنكّر للأكراد كمواطنين وكجماعة قومية، وطمس هويتهم، وإنكار حقوقهم الفردية والجمعيّة.

أما المسألة الثانية، فتفيد بوجود «مسألة كردية» في المعارضة، أيضاً، تبعاً لمسائل عدة، أولاها، افتقاد معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، لا سيما كيانها الرسمي (الائتلاف)، لتصورات مناسبة أو لمقاربة سياسية في شأن كيفية حل المسألة القومية في سورية، ضمن قصور رؤاها في شأن سورية المستقبل. وثانيتها، التعامل مع المسألة الكردية بطريقة جزئية أو إنكارية، إن باعتبار الأمر يتعلق بحقوق المواطنين فقط، مغطية ذلك بطرحها فكرة دولة مواطنين مدنية وديموقراطية، علماً أن حتى هذه الفكرة ما زالت مشوّشة، بل وموضع تساؤل لدى بعض أوساط المعارضة، بحكم ضعف إدراكات هذه الأوساط لمعنى ومكانة المواطنة في فكرها السياسي، في ما يتعلق بالكرد فقط وحتى في ما يتعلق بالمواطنين العرب السوريين ذاتهم. أو بنفي وجود مسألة كردية، مع حظر طرح هكذا قضية، إن باعتبار الكرد، كجماعة، ليس لهم حق في سورية، كأنهم هبطوا بالبراشوت وكأن لا تاريخ ولا ثقافة لهم في المنطقة، أو تحّسباً لما يعتقد أنه محاولة لتقسيم سورية، في رؤية ساذجة، تنطوي على إعلاء شأن تقسيم الأرض والاستهانة بتقسيم المجتمع، أي من دون إدراك أن لا وحدة لأرض أو لنظام سياسي من دون وحدة المجتمع، الذي يتكوّن من مواطنين أفراد، على تنوعهم وتعدديتهم، الإثنية والدينية والثقافية واللغوية.

وينطوي ضمن ذلك، أيضاً، الحديث عن حقوق تاريخية ووافدين في قرون ماضية، كأن القوميات أو الأوطان هي تنزيل سماوي، من الأبد إلى الأبد، وليست معطى تاريخياً حديثاً، وهنا يبدو مناهضو سايكس – بيكو بوصفهم أكثر المؤمنين بهذه الاتفاقية، التي رسمت حدود معظم بلدان المشرق العربي مطلع القرن الماضي. وثالثتها، تتأتى من ضعف تمثيل الأكراد في كيانات المعارضة الرسمية، إذ إن كيانهم الأكبر، والأكثر نفوذاً (حزب الاتحاد الوطني)، الذي أضحى يسيطر على حوالى 20 في المئة من سورية، مع قوات كبيرة، ما زال خارج حسابات المعارضة، التي تعتبره خصماً وربما حليفاً للنظام، في نظرة قاصرة، ناجمة عن ضعف حساسية بعض أوساطها لمكونات الشعب السوري، وحاجاتها، وأولوياتها. ورابعتها، تنبع من التعامل مع المسألة الكردية وفقاً لحسابات إقليمية خارجية، وليس باعتبارها مسألة وطنية سورية، وتخصّ التحول الوطني والديموقراطي في سورية. وخامستها، تلاحظ من تعامل معظم أوساط المعارضة وفقاً لمعايير مزدوجة، إذ يتم السكوت عن الرايات الخاصة لمعظم الفصائل العسكرية الإسلامية، وممارساتها الهيمنية على السوريين في المناطق التي تسيطر عليها، وضمن ذلك فرض تصوراتها الأيديولوجية المتطرفة عن الإسلام بالعسف والإكراه، في حين يتم توجيه اللوم والإدانة لمواقف وممارسات «قسد» وحزب الاتحاد الوطني، الذي يقودها.

ومعلوم أن هذا السكوت يشمل حتى «جبهة النصرة»، التي ظلت بعض أوساط المعارضة تجاملها، مع أنها لا تحسب نفسها على المعارضة، وعلى رغم أنها ركّزت على تصفية الجيش الحر، وتطفيش النشطاء السياسيين، ومعاداة مقاصد الثورة الأساسية (الحرية والمواطنة والديموقراطية)، ما أضر بالثورة وبالشعب وبالتيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة، مقدمة خدمة للنظام، الذي ظل يروج لاعتبار أن الأمر يتعلق بالصراع ضد الإرهاب والجماعات الدينية المتطرفة.

أخيراً، المسألة الثالثة، المتمثلة في افتقاد معظم أوساط المعارضة لرؤية جمعية بخصوص سورية المستقبل، ومضمون نظامها السياسي، فهذه ظهرت بعد إزاحة المقاصد الأساسية للثورة (التي ذكرناها)، وتصدر الجماعات المسلحة المتغطّية بالإسلام، مع خطاباتها السياسية المتطرفة والمتعصبة. وقد نجم عن ذلك أن هذه الأوساط نظرت بطريقة عدائية لنشوء الإدارات الذاتية في المناطق التي سيطرت عليها «قوات حماية الشعب» الكردية، وفيما بعد قوات سورية الديموقراطية، مع أنها سكتت عن تدهور الأحوال في «المناطق المحررة» الأخرى، كما تعاطت مع بعض أطروحات حزب الاتحاد الوطني باعتبارها تصدر عن جهة عدوة، ومؤامرة تستهدف تقسيم سورية.

فمع كل ملاحظاتنا، وإدانتنا، للممارسات التعسفية التي انتهجتها القوات التابعة لهذا الحزب ضد الأكراد والعرب، في المناطق الخاضعة لها، وتحفظاتنا على السياسات الإقصائية والهيمنية التي انتهجها الحزب المذكور، وتعامله كجزء من المسألة الكردية في تركيا، وكامتداد لحزب العمال الديموقراطي، فإن كل ذلك لا يمنع المعارضة من بناء سياسات تأخذ في اعتبارها المسألة الكردية في سورية، وتوق الكرد للخلاص من الاستبداد، ومن عمليات المحو القومي، والتعبير عن ذاتهم كشعب، وكجزء من أمة أكبر. كما أن ذلك لا يمنع من البناء على بعض المواقف والممارسات التي ينادي بها هذا الحزب، الذي يدعو لبناء دولة واحدة ديموقراطية وفيديرالية. وفي الواقع، فإن النظرة القاصرة والساذجة لطرح الفيديرالية، القائمة على أساس جغرافي (ليس إثنياً أو طائفياً)، واعتبارها دلالة على التقسيم، أو مؤامرة خارجية، تتناسى أن أهم دول العالم فيديرالية، وأن الحكم المركزي صنو الاستبداد، أو يفضي إليه، وأن وحدة المجتمع، المؤلف من مواطنين مختلفين، هو الذي يعزز وحدة الأرض والدولة، وليس العكس.

المعنى أن قصور رؤية المعارضة للمسألة الكردية ناجم عن قصور رؤيتها لسورية المستقبل ولشكل نظامها السياسي، وبالعكس، لذا لابد من استعادة مقاصد الثورة الأساسية، وهذا لا يتأتّى إلا برؤية وطنية جمعية تتأسس على دولة مواطنين أحرار ومتساوين ودولة ذات نظام فيديرالي وديموقراطي.

الحياة

 

 

كَذّب وصدق كذبته!/ نهلة الشهال

لو أن كل مجموعة ثقافية أو لغوية أو عرقية.. قررت الاستقلال بنفسها عن الإطار الذي انتمت إليه، سواء تاريخياً أو بحكم الظروف، لتفتتت كل الدول القائمة اليوم في العالم. ثم لعاد كل كيان جديد الى التفتت من داخله لحد التذرر، بناء على اختلافات قبلية وجهوية ودينية و”طموحات” فردية وأطماع.. مما لا حصر له ولا آخر، مثلما في مسرحيات الأخوين رحباني الاولى حيث هناك دوماً حارتين متصارعتين في أصغر قرية..

سوى أن الدول لا تقوم على أساس التجانس، اياً كان، حتى يكون لكل جماعة الحق الدائم في اختيار الانسحاب منها ساعة تشاء. في الكتب، الدولة الحديثة هي نتاج عقد توافقي بين المواطنين (الافراد)، يستولد تلك “الوطنية” المجسَّدة في علم ونشيد ومؤسسات سيادية، مهما تفاوتت الصيغ وتغيرت درجة الانصهار المطلوب. وفي الواقع، فهي نتاج سياق اقتصادي ــ اجتماعي استُولِد بشكل قسري وعنفي في الاغلب، توحيداً للمقاطعات.. وللاقطاعيات.

تزامُن الاستفتائين، الكردي العراقي والكاتالوني، يستحضر تلك الحقيقة، بل ما نعرفه من نزعات للاستقلال لمجموعات شتى في فرنسا وايطاليا على سبيل المثال، وهما جارتا إسبانيا الاقرب.

وبخصوص إصرار مسعود البرزاني على تثبيت “رغبة” الكرد في الانفصال عن العراق (بنسبة 92.7 في المئة من المشاركين في الاستفتاء!)، وسواء أعلن ذلك الانفصال أو ابقاه تحت إبطه مستقوياً

بنتائجه. فهناك عدة فرضيات، أرجحها أن الرجل إنما يبتز سلطة بغداد ليفاوضها على مزيد من المغانم. يبقى أنه يمكنه “التفرعن” هنا مستغلاً تعاقب المآسي على البلاد منذ عقود، وآخرها الحرب الطويلة ضد داعش، ومستغلاً  التفاهة المديدة للسلطة المركزية التي جاء بها الاحتلال الامريكي وراحت تتصرف كعصابة نهب فحسب، بلا أي انشغال بالبلاد وبأهلها، متوسلة استنفار أحط الغرائز المذهبية كستار على سوئها: “باسم الدين باكونا الحرامية” (أي سرقونا) كما قالت تظاهرات في جنوب العراق منذ عامين.

بارزاني يتوسل أيضا تواطؤاً مديداً بينه وبين تركيا، قام على “البزنس” من جهة، الذي كشفته رسمياً السلطات التركية نفسها منذ أيام إذ سلمت بغداد حسابات النفط المهرب المخبئة في بنوكها. وهو تواطؤ يقوم أيضاعلى صفقة الدعم التركي له مقابل تضييقه على حزب العمال الكردستاني، عدو السلطة المركزية التركية منذ عقود.. وهنا لا بد من استحضار أنه حتى أمس قريب كان الإعدام نصيب من يقول “أنا كردي” في تركيا أو ينطق بالكردية، وكانت حرب عسكرية مستعرة، ذهب ضحيتها الآلاف على مدى سنوات طويلة، عدا أعداد هائلة من المعتقلين. والكرد في تركيا أكثر من 14 مليون، وهم بعيدون بُعد السماء عن الأرض من نيل أي حقوق لهم كجماعة، وبالكاد جرى الاعتراف بوجودهم.

.. وحالهم في إيران (وهم فيها أكثر من 6 ملايين) ليست أفضل من ذلك بكثير. فيما الكرد العراقيون يستمتعون منذ زمن بالاعتراف بهم بصفتهم تلك، وهو حق لهم بالطبع. وفي زمن صدام حسن كان أحد نائبي الرئيس كردياً حكماً، واليوم فرئيس الجمهورية في العراق كردي، واللغة الكردية معترف بها كاللغة الوطنية الثانية في البلاد منذ عقود طويلة، وإدارتهم الذاتية لشؤون مقاطعتهم متقدمة الى حد تجاوز ما ينص عليه الدستور من تجنب للشؤون السيادية. وهم على ذلك يَذْكرون بمناسبة أو من دونها “حلبجة” وكأنها مظلمة “عربية” بحقهم، وكأنهم وحدهم من تعرض لمذابح في ذلك العراق..

وقد توجوا كل ذلك باقامة علاقات متقدمة مع إسرائيل، التي تشجعهم ــ طبعاً ــ على الانفصال، وحدها دوناً عن سائر العالم، وهي التي اعتبرت العراق عدوها الاول، بغض النظر عمن يحكمه، إذ ترى فيه امكانات متضافرة. وقد عملت بلا كلل، في السر وفي العلن، وبكل الوسائل الحربية والسياسية والاستخبارية، على تدمير تلك الامكانات وعلى تدمير العراق نفسه.. وها هو البارزاني، باسم الكرد العراقيين، يمنحها وسيلة جديدة تضاف الى ما سلف، وهو ما لا يُغتَفر.

 

يعلم البارزاني علم اليقين أنه لا دولة كردية مستقلة ستقوم في شمال العراق، وأن الاستفتاء ليس خطوة أولى باتجاهها. وأن ازدهار أربيل الكرتوني ــ أو ما تبقى منه ــ  سيذهب أدراج الرياح عند استقرار الأزمة التي صنعها بيديه. وأنه لن يسيطر على كركوك، ولا على ما يسميه “المناطق المتنازَع عليها”، وتلك التي استغل أزمة داعش للتمدد اليها.. وأنه لو أمعن وتسبب بمواجهة عسكرية فسيجر الويل على الاكراد المساكين قبل غيرهم. وهو سيسبب للكرد العراقيين، حتى من دون مواجهة عسكرية، مصاعب حياتية تعيدهم الى البؤس المعيشي المريع الذي بدا أنهم تخلصوا منه. بل هو سيجلب مصيبة عامة على كل اكراد المنطقة الذين سيعانون المزيد من التضييق من دولهم، والخضوع للريبة والتنكيل. فتباً له من سياسي فاشل، وتباً له من “وطني” كردي فاشل!

السفير العربي

 

 

 

 

التوافق الأميركي – الإيراني حول الاستفتاء يصدم أربيل/ راغدة درغام

لن يفيد أكراد العراق العناد القاطع في وجه الغضب العارم من قبل الحكومة العراقية وتركيا وإيران والاستياء الأميركي أيضاً من إصرار القيادة الكردية على إجراء استفتاء على قيام دولة مستقلة يؤدي عملياً الى تقسيم العراق. في المقابل، لن تكون حكمة من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن ينفذ توعده بإرسال قوات الى منطقة كركوك النفطية وفرض حظر جوي على كردستان العراق، ما لم يسلّم رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني السيطرة على مطاري أربيل والسليمانية الى بغداد. ثم أن تعهد العبادي للبرلمان العراقي أن الحكومة لن تدخل في حوار ومحادثات مع القيادة الكردية ما لم تقم بإلغاء الاستفتاء وما يترتب عليه، إنما يغلق الباب على التفاهمات السياسية الممكنة ويشرِّعها على المواجهة العسكرية بين أهالي العراق من أكراد وعرب ويستدعي تدخل تركيا وإيران ضد الأكراد.

تراكمات أخطاء القيادات الكردية وعنادها أدّت الى الوضع الراهن الخطير حيث زج الأكراد أنفسهم في زاوية صعبة لن يكون سهلاً الخروج منها بأمان. رأي الداعمين قرار إجراء الاستفتاء في موعده هو أن التراجع عن إجرائه «انتحار سياسي» لمسعود بارزاني من دون ضمانات دولية وموعد حاسم للاستقلال. الناقدون لقرار بارزاني يلومونه على المجازفة في وجه كل النصائح والتوسلات لتأجيل الاستفتاء كي لا يكون الأكراد مفتاح تقسيم العراق، وهم يقولون إن الأكراد الآن ينتحرون بين أنياب تركيا وإيران ودولة العراق بسبب الإصرار على الاستفتاء. لا مناص الآن من تراجع جميع اللاعبين وهناك ضرورة قصوى لدور أميركي وروسي استباقي وآني لمنع التدهور والمواجهة العسكرية.

الانفتاح الخليجي، السعودي خصوصاً، على العراق في الآونة الأخيرة يمكن أن يمهّد لدور إيجابي في إطار الموازين الداخلية، لا سيـــما أن العلاقات مع حـــيدر العـــبادي تتحسن. فما يقوله أكراد العراق هو أن دولة العراق باتت مذهبية تسيطر عليها فعلياً الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأن أحد أهم أهداف الاستفتاء هو الدخول في حوار جدي مع بغداد واستخدام نتيجة الاستفتاء كورقة ضغط نحو دولة كونفدرالية ديموقراطية، بدلاً من المضي بإخضاع العراق للإرادة الإيرانية. لكن ماذا الآن بعدما وصل التشنج الى درجات خطيرة وجرى توجيه الإنذارات ليس فقط بإلغاء الاستفتاء الذي تعتبره بغداد غير شرعي وغير دستوري، بل أيضاً إمهال القيادات الكردية 72 ساعة لتسليم المطارات والمعابر وإعادة الحقول الشمالية في كركوك والمناطق المتنازع عليها الى إشراف وسيطرة وزارة النفط الاتحادية في بغداد.

لعل أسهل التنازلات وأصعبها يكمن في تعريف مهمة الاستفتاء بما يجعله أقرب الى استبيان الرأي بدلاً من اعتباره وثيقة تخويل للمضي الى دولة كردية مستقلة في العراق. هكذا يمكن شراء الوقت لبدء المفاوضات مع الاحتفاظ بواقع لا يمكن التراجع عنه هو أن 92 في المئة من الناخبين الأكراد صوتوا لمصلحة الاستقلال. وهكذا يمكن الحكومة العراقية أن تتراجع بلطف عن طلبها التعجيزي واللامنطقي وهو إلغاء استفتاء تم إجراؤه بكل الأحوال. أوساط أميركية عدّة شجعت أكراد العراق على المضي الى الاستقلال واعتبرت أن قيام الدولة الكردية المستقلة في العراق بات واقعاً لا عودة عنه. هذه الأوساط باركت انتزاع الدولة الكردية لكركوك باعتبارها المصدر النفطي الرئيسي لها، وعلى أساس أن فرض الأمر الواقع على بغداد سيجعلها ترضخ له، وهي التي زرعت في أذهان القيادات العراقية أن الوقت المناسب لفرض الدولة الكردية المستقلة هو الآن، وهي التي ضخّت فيها الإصرار والعناد باعتبار أن الاستثمارات الكردية العسكرية في الشراكة مع الولايات المتحدة لإلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش» لها مردودها الذي حان قطفه الآن.

المفاجأة أتت بالنسبة الى القيادات الكردية بمواقف إدارة ترامب التي صدمت القيادات وجعلتها تعتقد – ربما – أنها للاستهلاك وغير جدية. فالقيادة الكردية كانت عارمة الثقة بالدعم الأميركي لمشروع الاستقلال الذي هو عملياً مشروع البدء بتقسيم العراق. فهي حقاً وضعت الأكراد في الصف الأول من الحرب على «داعش» عبر «البيشمركة» في العراق واعتقدت أن ذلك الاستثمار وضعها في مرتبة مميزة لدى واشنطن.

ثم هناك عنصر الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي كان مطاطياً في اعتبارات أكراد العراق إذ تارة تلقوا الدعم العسكري من إيران أثناء عمليات الحرب على «داعش» ومعظم الأحيان اعتبروا أن «الحرس الثوري» الإيراني يصدّر نموذجه عبر «الحشد الشعبي» في العراق ليستفرد بالسلطة. مأسسة «الحشد الشعبي» أخاف الجانب الكردي واعتبر أنه إذا لم يتحرك الآن، لفات الأوان، ولن يكون للأكراد مكان غداً.

«نحن عائق المشروع الإيراني في المنطقة» وفق تعبير مصدر كردي معني، «والقيادات الكردية رفضت جعل المناطق الكردية ممرات للأسلحة الإيرانية الى سورية». لذلك صُدِمت القيادات الكردية عندما أتى الموقف الأميركي ليدعم عملياً المشاريع الإيرانية للعراق «فأثبتوا الولاء لحليفهم الأكبر، وهو إيران، على رغم ما يدّعون بأنه يشكل خطراً على أصدقائهم ويصدّر الإرهاب».

الأكراد خائفون من إخضاع العراق لهيمنة إيران وهم يشعرون بالتهميش والإقصاء. لذلك ينظرون الى ردود الفعل الأميركية والتركية والإيرانية والعراقية بأن فيها «ظلماً وغدراً؟ حدة مواقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ضد إجراء الاستفتاء أدهشتهم. ردود الفعل الديبلوماسية والسياسية ربما كانت ضمن حساباتهم بأنها مجرد زوبعة لفترة قصيرة، ثم تهدأ، إنما الإجراءات العملية التي توعّد بها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والقيادات الإيرانية المختلفة هي التي دفعت أكراد العراق الى كابوس اليقظة.

علاقات الأكراد مع واشنطن تبقى في غاية الأهمية وهناك حاجة لتتوقف إدارة ترامب عن تكرار اللوم على عدم تأجيل الاستفتاء والإقدام على «تنفيسه» – إذا شاء التعبير – ليكون الوسيلة الى الحوار والمفاوضات حول كامل المسائل العالقة بين بغداد وأربيل كي يكون استقلال إقليم كردستان لاحقاً جزءاً من كونفيديرالية عراقية وطنية بدلاً من أن يكون نقطة الانطلاق الى تقسيم العراق الى ثلاثة أجزاء منفصلة.

في هذه الأثناء، يمكن الديبلوماسية الأميركية لو شاءت – أن تلعب دوراً لاحتواء الهيمنة الإيرانية على العراق برمته وفرض حكم ديني عليه على نسق الحكم الثيوقراطي في إيران. هذا يتطلب من واشنطن تبني استراتيجية شاملة وجدية ومتماسكة نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية – وهذا ما يبدو حالياً بأنه بعيد المنال رابضاً في الخيال. إذا بقيت السياسة الأميركية الخارجية مبعثرة تعتمد من البلاغة في الخطاب rethoric والمجاملة اللفظيةLip Service، لن يكون أمام العراق سوى التقسيم ليس لأن هذا ما يريده الأكراد وإنما هو تماماً ما تريده إيران لتتمكن من فرض القوس أو الهلال الفارسي الممتد من طهران الى بيروت عبر الأراضي العراقية والسورية التي تتركها واشنطن تستولي عليها بلا احتجاج.

روسيا شريك لكل من إيران وتركيا في سورية تحت عنوان الضامنين لوقف النار وهي كانت حريصة على صيانة الأكراد من الأتراك مع أن «القوات السورية الديموقراطية» حليف أميركي في الساحة السورية. بعض أكراد العراق يعتبرون أن ابتعاد الولايات المتحدة عنهم يشكل فرصة لروسيا أن تكون البديل الشريك، وهم يشيرون الى أهمية أن يكون لروسيا موطئ قدم في العراق علماً أن العراق ما زال مغلقاً أمام روسيا وأن روسيا كانت تعتبر العراق لها في الموازين الجغرافية – السياسية قبل حرب جورج دبليو بوش في العراق – وبحسب تقويم هؤلاء، أن روسيا قد تحبذ وحدة العراق لكنها «تفهم وتتفهم الإرادة الوطنية الكردية» وهناك حوار قائم مع حكومة إقليم كردستان يشمل صفقات نفط وغاز للأتراك دور فيها أيضاً.

الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يُعد من أصلب المعارضين للاستفتاء اليوم فيما كان في الماضي القريب أقل انتقاداً له. فجأة انه يتعهد بتجويع الأكراد في الإقليم وبالعمل العسكري المشترك مع العراق إذا تطلب الأمر وهو ينسق مع إيران لاحتواء الطموحات الوطنية للأكراد في كل من تركيا وإيران. انه يهدد بإرسال قوات لإنشاء ممر عازل بين أكراد سورية وأكراد العراق عبر «درع دجلة» ليكون مشابهاً «لدرع الفرات» في شمال سورية.

الأجواء المشحونة خطيرة جداً والحاجة ماسة الى مبعوث أميركي أو دولي مهمته استباق التدهور عبر مقترحات عملية وعادلة تعالج التدهور الآني وتتقدم بآليات وإجراءات واقعية عبر حلول خلاّقة. فلا يكفي الاستياء من إجراء الاستفتاء أو من التهديد بغلق الحدود والأجواء. ذلك أن الاشتباك العسكري ليس مستبعداً وهو سيكون حقاً الكارثة حيث قوافل الجثث والجنائز تعود الى العراق مرة أخرى بسبب أخطاء القيادات المتراكمة.

الحياة

 

 

الأكراد مكون أصيل في المنطقة… ودولة كردية ليست «إسرائيل ثانية»/عماد شقور

لا سابق في التاريخ الحديث لمثل التحالف الذي نشأ في الاسابيع القليلة الماضية بين إيران وتركيا والعراق. الإسمنت الذي بنى هذا التحالف هو العداء لفكرة اقامة اول دولة كردية في المنطقة، وخشية تركيا وإيران ان يشكل الاستفتاء على الاستقلال في «اقليم» كردستان العراق شرارة تشعل نيران رغبة (وحق) الاقليات الكردية الكبيرة في كلا البلدين، وفي سوريا ايضا بطبيعة الحال، في الاستقلال، الذي تسميه تلك الدول، زورا وتلفيقا وظلما، انفصالا.

هذا الاسمنت ذو طبيعة سلبية. فهو لا يستند إلى قناعة اصحابه بانه تحالف «من اجل» مصلحة شعوبهم، وانما هو تحالف «ضد» تطلعات شعب آخر، هو الشعب الكردي. وهذا ما يجعله ينشر رائحة كريهة، وصورة مكفهرة، وطاقة سلبية تعكر الاجواء.

قبل التقارب الحالي للاقطاب الثلاثة: تركيا والعراق وإيران، وبدء تشكيلها لحلفها الحالي، (الذي لم يترسخ بعد، واستبعد كثيرا احتمال نجاحه وتعميره طويلا)، حاولت بريطانيا، مدعومة من أمريكا وحلف شمال الاطلسي، في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، تشييد حلف يجمع هذه الرؤوس الثلاث على مخدّة واحدة، واخترعت له اسم «حلف بغداد». كان إسمنت ذلك الحلف ايضا ذا طبيعة سلبية، هدفه الاساسي الوقوف في وجه مد التحرر والاستقلال القومي العربي بزعامة مصر عبد الناصر اولا، وفي وجه المعسكر الشرقي بقيادة موسكو ثانيا.

لم يكن بين اهداف بناء «حلف بغداد» أي حرص بريطاني، او غير بريطاني، على مصالح وازدهار وتطور وتقدم شعوب إيران والعراق وتركيا. كانت مصالح تلك الشعوب ابعد ما يكون عن أي موقع متقدم في سُلّم اولويات الشاه في إيران، ونوري السعيد في العراق، وجنرالات الانقلابات والادوات التي ينصبونها على رأس الدولة في تركيا. ونذكر في هذا السياق ان الانقلاب في بغداد يوم 14 تموز/يوليو 1958، الذي اسقط حكومة نوري السعيد، واطاح بالنظام الملكي هناك، دفن ذلك الحلف في مهده. ولم يحصل بعدها أي تقارب بين هذه الاطراف الثلاثة حتى إلى ما قبل ايام معدودة. واكثر من ذلك: نشبت حرب بالغة الدموية بين ورثة النظامين في بغداد وطهران، اضافة إلى حروب بالاصالة وبالوكالة بين طهران وانقرة على الاراضي السورية. وحتى لا نذهب بعيدا في التاريخ، ولو حتى لسنين او لاشهر قليلة ماضية، يكفي ان نذكر التلاسن بين المسؤولين في بغداد وانقرة، قبل ثلاثة اسابيع فقط، مثل تهديد رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، بانه «سيُعِيد جنود الجيش التركي المرابطين في العراق إلى تركيا في التوابيت»، وان نذكر رد الرئيس التركي، طيب رجب اردوغان، المهين للعبادي، وضرورة «ان يعرف حجمه ومستواه».

لا مصلحة حقيقية لشعوب تركيا وإيران والعراق وسوريا، في العداء للطموحات المشروعة للاقليات الكردية الكبيرة فيها للاستقلال، (وليس للانفصال)، وإقامة دولة كردية واحدة تجمع كل ابناء الأمة الكردية، ضمن حدود المناطق الكردية، والبحث والتفاوض حول بعض المناطق الحدودية المتنازع عليها، وحلها من خلال هذا التفاوض، او من خلال التحكيم الدولي. وحتى إذا تعذر اقامة دولة كردية واحدة في المراحل الاولى، فان الحل المنطقي هو اقامة عدة دول كردية تدير شؤونها وتحدد سياساتها ومستقبلها بنفسها.

لم يُعمِّر في كل منطقة الشرق الاوسط على مدى التاريخ الحديث أي حلف بين شعوبها (داخل الأُمة الواحدة)، او بين أُممها الاربع الاصيلة: العرب والاتراك والفرس والاكراد، والطارئة: اليهود. ذلك إذا استثنينا تجربة الخليج العربي التي تتعرض لاهتزازات قوية هذه الايام. سبب ذلك، في اعتقادي، انها جميعا اعتمدت اسمنتا ذا طبيعة سلبية، يركز، بل ويقتصر، على معاداة ورفض لطرف او لاطراف خارجية مجاورة. ويتأكد هذا الاعتقاد عندما نلاحظ النتائج الايجابية للتحالفات التي بنيت على اسس ايجابية، اهمها التكامل والتعايش والتعامل بايجابية مع المكونات الاخرى لتلك التحالفات، كما هو الحال في الولايات/الدول المتحدة الأمريكية، وكما نشاهد في ايامنا ما يحصل من تطورات ايجابية واضحة في اوروبا (الغربية اساسا)، رغم بعض لا يذكر من تطورات سلبية في تلك الساحات، مثل انفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي.

اما اسرائيل، المكوّن الطارئ في الشرق الاوسط، ودورها في الإقليم، فيحتاج إلى دراسة وتدقيق بادوات قياس مختلفة. ذلك ان اسرائيل ذاتها «فعل سلبي». وما ينطبق على اسرائيل، لا ينطبق على أي من مكونات الشرق الاوسط الاصيلة. واوضح مثال على ذلك هو القاعدة التي وضعها «مهندس» الدولة العبرية، دافيد بن غوريون، منذ اقامة اسرائيل، وهي قاعدة «التحالف مع كل مسلم غير عربي، ومع كل عربي غير مسلم». وواضح ان هدف التحالفات التي سعت (وتسعى) اسرائيل لحبكها، هي تحالفات ذات منطلق سلبي وهدف سلبي: اغتصاب فلسطين وطرد شعبها والحلول مكانه، ومحاربة كل من يعارض ذلك، والتصرف بمنطق انها جزء من الغرب، وليست جزءاً من الشرق الاوسط. وهذه القاعدة كانت الاساس الذي قام عليه التحالف مع تركيا المسلمة العضو الاصيل في حلف شمال الاطلسي، وذات نظام حكم الجنرالات، والمعادية للعرب. وكذلك التحالف مع إيران الشاه، المسلمة غير العربية، المعادية للعرب ايضا، تلك السياسة التي عبّر عنها الشاه باحتفالاته الفاقعة العنصرية بمرور الفين وخمسمئة سنة على اقامة اول دولة فارسية.

في هذا السياق جاء استكمال بن غوريون لما بدأته الصهيونية من قبل، من نسج خيوط تحالف مع اكراد العراق، وليس مع اكراد تركيا وإيران. كل هذا يقودنا إلى ضرورة التنبيه، مجددا وتكرارا، إلى ان كل تحالفات اسرائيل، دون أي استثناء، هي بالضرورة سلبية المنطلق والهدف. وذلك في حين ان كل الابواب مفتوحة لجميع المكونات الاصلية للشرق الاوسط، لبناء تحالفات ذات محتوى ايجابي. واذا تعذّر تحالف العرب، ومنهم في الاساس عرب العراق وسوريا، مع هذا المُكوّن الاصيل لنسيج الشرق الاوسط او ذاك، فان مصلحتهم الوطنية والقومية الاولى، هي بناء تحالف مع المُكوِّن الكردي الاصيل، باعطائه الحرية المطلقة المشروعة في تحديد خياراته، والسعي للتعاون والتكامل بين ادوار ومصالح الأُمتين العربية والكردية. واذا كانت الطموحات الكردية المشروعة في الاستقلال جمرة حارقة، فلتبق في الحضن التركي او الحضن الإيراني الذي يرفض استقلال ابناء الأٌمة الكردية.

أي محاولة من كاتب او محلل او مسؤول عربي، بتوصيف اقامة دولة كردية مستقلة في اقليم كردستان العراق، واي مناطق كردية اخرى، على انها «اسرائيل اخرى» في قلب العالم العربي، هو توصيف ظالم وخاطئ: فهو ظالم لأن للاكراد الحق في الاستقلال في وطنهم، الارض التي نشأوا فيها منذ آلاف السنين، وليسوا قادمين ولا «مهاجرين جددا» إلى المنطقة، وخاطئ لأنه يرفع مستوى حق الحركة الصهيونية في اقامة دولة لليهود في فلسطين، من مستوى 0٪، إلى مستوى حق الاكراد في الاستقلال وهو حق بمستوى 100٪.

اما بالنسبة للمحاصِرين لاقليم كردستان العراق من الجهات الاربع، ومن الجهة الخامسة التي هي الحصار الجوي الذي يبدأ ظهر اليوم، كما بالنسبة للمحاصَرين في الاقليم، فانه يجدر بهم جميعا معرفة ان الحصار، مهما كانت حدته ومدته، فانه لم يثمر (حتى الآن على الاقل) على مدى التاريخ المعاصر الا مرة واحدة، هي تجربة حصار نظام الابارتهايد في جنوب افريقيا، وان سبب نجاحه انه استهدف طبقة معينة في المجتمع، هي طبقة المُنعّمين من البيض العنصريين، ولم يلحق أي ضرر بالافارقة السود المحاصَرين اصلا بالفقر والتمييز، بل كان نعمة على هؤلاء. فلا خوف ولا خطر على الاكراد في العراق المحاصَرين هم ايضا بالتمييز والإفقار.

انتهى يوم الاثنين الماضي «عرس» استفتاء الاكراد في العراق. لكن ذلك ليس «شوط الحَلِّة». بقي امام الاكراد عمل كثير يجب ان يتم، وحاجة كبيرة لجهود جدية ومتواصلة لتحقيق هدفهم المشروع في الاستقلال. وهنا يبدأ الامتحان الثاني للقيادات الكردية في العراق. دعنا نأمل ان تكون تلك القيادات على مستوى التحدي، وان تكون مصنوعة من معدن القيادات التي تليق تسميتها بالتاريخية.

٭ كاتب فلسطيني

 

 

 

هل هناك تحالف اسرائيلي مع الأكراد؟

رأي القدس

يقول مقال لصحافي إسرائيلي نشرته «القدس العربي» ضمن قسم الصحف العبرية تعليقا على قضية استفتاء الأكراد في إقليم كردستان العراق إن المقارنة بين الفلسطينيين والأكراد غير واردة معددا الأسباب الضرورية لدعم إسرائيل لانفصال الأكراد.

تل أبيب، حسب المقال، ملزمة بتأييد استقلال كردستان وذلك لأن دولة كردية مستقلة ستكون حليفة مهمة لإسرائيل وبسبب تاريخ التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي بين الطرفين، ولأن أعداء كردستان هم أيضاً أعداء لإسرائيل وبالتالي فإن «عدوهم هو صديقنا» على حد تعبير الكاتب.

أكثر ما يثير السخرية في أطروحة المقال هو الحديث عن «البعد الأخلاقي» الذي يفرض على إسرائيل تأييد الأكراد وذلك لأنهم «أمة عتيقة أقامت ما يكفي من السنين على أرضها، وهي مستقلة وقوية ثقافيا» وهي لذلك يجب أن تحصل على استقلال سياسي، أما لماذا لا يحق للفلسطينيين ذلك، فيجيب الكاتب: لأنهم لا يريدون!

وحسب المقال أيضا فلا يجوز الخلط بين نضال الفلسطينيين للاستقلال مع نضال الأكراد وذلك لأن استقلال الفلسطينيين يمس بأمن إسرائيل، وعليه يمكن لهم الحصول على «استقلال مقلص» أما استقلال الأكراد فسيؤدي إلى «المساهمة في الاستقرار الإقليمي».

والحقيقة أن الاشتغال على ربط القضية الكردية بإسرائيل قائم وفعال ليس من جهة تل أبيب وحدها فهناك بالتأكيد تاريخ من التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي بين الأكراد وإسرائيل، وهناك جهات متحمسة لهذا التعاون والاستثمار الاستراتيجي فيه من قبل نخب سياسية يتم تصريفها ضمن فئات الشعب الكردي على شكل نزعات كراهية ضد العرب والإسلام.

لكن خطاب «التحالف الاستراتيجي» المزعوم بين الأكراد وإسرائيل يخفي إشكاليات سياسية وفكرية فادحة، فهو لا يريد الاكتفاء بحيثيات السياسة التي دفعت تل أبيب لمد يد العون للأكراد خلال قتالهم ضد الدولة العراقية الحديثة ولكنه يريد أيضا أن يلائم بين حيثيات لا تتراكب أبداً، فاليهود ليسوا شعبا كالأكراد بل هم أفراد ينتمون لدين يضم قوميات عديدة، وباستثناء عدد قليل من يهود فلسطين كانوا موجودين قبل عام 1948 فإن الإسرائيليين جاؤوا من أرجاء الأرض كلها ليزيحوا «أمة عتيقة أقامت ما يكفي من السنين على أرضها» (على حد وصف الصحافي الإسرائيلي المتحذلق للأكراد)، وبالتالي فلا وجوه تشابه حقيقية بين الأكراد وسكان إسرائيل، وما «التعاون الاستراتيجي» غير لحظة سياسية تتلاقى فيها الأضداد ولا تلبث أن تتفكك وتنهار عند مواجهة حقائق الواقع والتاريخ والجغرافيا.

أما التفريق بين حق الأكراد في إنشاء وطن قومي، والتركيز على المظالم التي تعرضوا لها، في مقابل إنكار حق الفلسطينيين، وتجاهل حقوقهم ومظالمهم، فهو حيلة إسرائيلية مفضوحة هدفها أن يشتبك الضحايا ويتقاتلوا فيما تضيع المعاني والحقوق وتصبح إسرائيل، ركن الاستبداد في المنطقة العربية، نصيراً للمظلومين الأكراد وعدوا «للإرهابيين العرب المسلمين».

إن مظالم الأكراد وحقهم المشروع في تشكيل دولتهم المستقلة، لا يمكن أن يكون بإنكار العلاقات والوشائج التاريخية مع العرب، أو بجعل الفلسطينيين أعداء لهم.

وإذا كان التعاطف مع حقوق الأكراد مطلوبا، واستنكار المظالم التي تعرضوا لها واجبا، فمطلوب من الأكراد أيضاً عدم السماح لإسرائيل بالاستغلال الانتهازي لقضيتهم وتوظيفها في التنكيل والبطش والقمع ضد الفلسطينيين.

لقد استغلت إسرائيل المظالم الجماعية التي تعرض لها اليهود في أوروبا لاحقا لإعطاء نفسها طابع الضحية العالمية رغم أنها تلبست دور الجلاد بامتياز كبير، وبذلك انقلب أحفاد الضحايا إلى مشاركين في جريمة عالمية لا تقل بشاعة عن الهولوكوست، والواضح أن بعض الاتجاهات السياسية الكردية استطابت هي أيضا الانتقال من دور الضحية إلى احتلال أراض وتمييز عنصري ضد العرب وممارسة القمع والبطش حتى مع معارضيها من الأكراد.

الحقوق المشروعة لا تعطي تفويضا مفتوحا لأصحابها للتحول إلى جلادين.

القدس العربي

 

 

 

أمّة مواطنة عراقية ومشروع دولة جديدة/ سيّار الجميل

هذا جزء مترجم من محاضرتي في 26 سبتمبر/ أيلول الجاري في جامعة ميغيل في مدينة مونتريال الكندية عن مستقبل الشرق الأوسط، ضمن هيئة دراسات المستقبل، مخصصّاً تحديد العلاقة الكردية العربية في العراق الذي يعيش اليوم مخاضاً صعباً يتضمّن قرار الكرد تحديد مستقبلهم عبر استفتاء أجروه لاستقلالهم عن العراق، في “دولة” قومية. دعوني وكانت المحاضرة جزءاً من دراسة موسعة، مستخلصة من حوارات مع المفكر العربي عزمي بشارة، أجراها معه صقر أبو فخر، وضمنها كتاب “في نفي المنفى” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017).

يعيش العراق اليوم معضلاتٍ معقّدة لا حصر لها في كل المجالات. وتمنى العقلاء أن تحظى البلاد بقادة أذكياء وبناة أكفاء يتمتعون بحكمة وعقل ووطنية وخبرة، من أجل إدارة أزماتها ومعالجة أوضاعها وازديادها تهرّؤاً مع توالي الأيام. والعراق منذ 2003 ينتقل من سيناريو صعب إلى سينايوهات الجحيم، ولا حلول لمشكلاته. ولأول مرة في تاريخه، يواجه مسألة انفصال الكرد عنه بعد تعايش اجتماعي بقي مئات السنين. والمسؤولية التاريخية لوحدة العراق الوطنية والجغرافية يتحمّلها النظام السياسي الحاكم، وهو المسؤول الحقيقي عن تفكك العراق وتشرذم نسيج مجتمعه وضياعه، في الإصرار على الأجندة التي جاء يبشّر بها، وضربه النزعة الوطنية، وتفسيخ العراق على أساس بعثرة المكونات وتهميش الأغلبيات على حساب سيادة الأقلية الحاكمة وطغيانها، فكيف سيغدو مستقبله في ظلّ ما قام به نظام يقوم على أسس طائفية ومرجعيات متآكلة، وسيطرة طبقة سياسية متخلّفة، تستمدّ قوتها من مومياءات العصور الوسطى. فالمشكلة بحاجة إلى حلول جذرية. وقد جرى تحالف الشيعة مع الكرد بعد العام 2003، بمباركة أميركية وإيرانية، أقصي العرب السنة وسحقت الأقليات الأخرى، فتهتك المجتمع الذي يعتبر غالبية سكانه من العرب.

يقول عزمي بشارة: “لنأخذ العراق.. فإن معظم أهله عرب.. هذا مكوّن رئيس ومهم في

“سينشئ انفصال الكرد تاريخاً معقدّاً ودموياً من الصراع الإقليمي، وسيمهد الطريق إلى انفصال أجزاء أخرى” تشكيل هويتهم الثقافية.. وفي تميّزهم عن الإيرانيين والأتراك المحيطين بهم.. هذه الهوية هي قاعدة ثقافية مشتركة عابرة للطوائف، بين الشيعة والسنة العرب، وهي غير مصطنعة، ويمكن بسهولة تتبع تاريخ مشترك لها. وفي الوقت نفسه، يمكننا تخّيل أمة عراقية، لا أمة عربية وقومية عربية، من غير الممكن بناء قومية عراقية. وما يمكن أن ينشأ هو أمة مواطنين، وتشمل هذه الأمة العراقية أكراداً لهم قوميتهم المشتركة مع أكراد آخرين، لا يعيشون في العراق، كما تشمل عرباً هم أغلبية سكان العراق، يمكن التوّصل إلى حلول خلاقة للعلاقة بين القوميتين العربية والكردية، على أساس احترام الحقوق الفردية والجماعية” (ص 47- 48).

هذه فكرة موضوعية، اعتبرها قيمة فكرية في تحديد علاقات جديدة بتشكيل “أمة مواطنين عراقيين” تجمع كلّ القوميات والهويّات في كيانٍ يشترط أن يكون مدنياً يحكمه دستور مدني، ربما بالصيغة التي طرحتها أخيرا لما سميتها “الولايات العراقية المتحدة”، يبنى على أساس جغرافي من خمس ولايات، كأن يكون الأساس إداريا أو فيدراليا أو كونفيدراليا.

ويتجاوز عزمي بشارة الحيادية إلى الموضوعية في تحديد رؤية مستقبلية للعراق، سبقت إجراء الاستفتاء بشهور. يقول “.. فالكرد أقرب الشعوب إلى العرب، لكن ثمّة قوميين راديكاليين عرباً لا يعترفون بوجود قومية كردية، وقوميين راديكاليين كردا يسعون إلى الوحدة مع باقي الأكراد في دولة واحدة، ولو أدى ذلك إلى تطهير إثني لتحقيق تجانس في مناطق معينة، وهذا تراجع إلى الخلف، حتى عمّا كان القوميون العرب يفكرّون فيه. الأحزاب الكردية الرئيسة في العراق تفكر في الانفصال، والهوية المشتركة بين باقي العراقيين هي غالباً هوية عربية، وتهميشها قاتل، لأن البديل منها هو العصبيات الطائفية” (ص 48).

نعم، كان تاريخ التعايش الاجتماعي بين العرب والكرد في العراق لابد أن يكون البديل الحقيقي لكلّ من حالات الصراع السياسي، أو التنافر القومي، وفهم كلّ طيفٍ أمنيات الآخر، إذ أثبتت الوقائع التاريخية منذ العام 1959 أن العلاقات التي وصفت بأنها أخوية كانت مزيفة على أشد ما يكون الزيف، ويتوضح جلياً أن الإرادة الجمعية للكرد مع الانفصال.

يتابع عزمي بشارة رؤيته ومعالجته: “دولة عراقية وقومية عربية وقومية كردية، لكن الحالة في العراق تبدو متجهة نحو الانفصال، على الرغم من هذه الإمكانية.. أنا أقول بقومية عربية ودول مواطنين عربية الطابع، مؤلفة من قوميات وإثنيات عدة. هذا إذا نجحت الدولة في بناء أمة المواطنين. والطريق الوحيد إلى الوحدة بينها، كما أحلم، هو اتحاد دول عربية، أو الدول العربية المتحدة”. (ص 48). وللعلم، نادى بهذه “الفكرة” الملك فيصل الأول منذ بدايات العرب النهضوية، واستعادها نوري السعيد في الأربعينيات من القرن العشرين، لكنها قوبلت بالرفض واستعيضت بجامعة الدول العربية. يجدد عزمي بشارة اليوم هذه “الفكرة”، لتكون قيمة نهضوية جديدة من أجل بناء مستقبل العرب، ليس من أجل الكرد وحسب، بل من أجل تعايش العرب، وغيرهم من القوميات والإثنيات والأقليات. وكان على العراق أن يخطو الخطوة الأولى، كونه البلد الأصعب من هذه الناحية، وإن تعقيداته لو جرى حلّها ومعالجة نتائجها، لما وصل الحال إلى هذا المآل، ولكانت الخطوة الأولى على الطريق أمام كلّ العرب.

يستطرد بشارة: “.. يفترض أن يكون العراق أمة مواطنية تتضمّن غير العرب. لكن، لا يجوز أن تنكر عروبة الأغلبية… ومن حق القوميات الأخرى أن تحافظ على هويتها القومية، وأن تتمتع بحقوق جماعية في هذا المجال، مثل الإدارة الذاتية على درجة مختلفة، تصل إلى حد الفيدرالية، وحتى الكونفيدرالية. وفي حالة الإخفاق، سيكلف الانفصال ضحايا أكثر بكثير من الوحدة” (ص 48). ولكن أين المشكلة؟

إن معالجات عقلانية ورؤية موضوعية كهذه لم تجد اليوم أي تفعيلات إجرائية على الأرض، جراء استقطابات الطرفين، ويمكن إيضاحها في الآتي:

أولا: يتحمّل النظام السياسي الحالي في العراق مسؤولية ما يحدث اليوم، جراء تحالفات سياسيّة بعثرت المجتمع، وهمّشت أجزاء منه وسحْق أقليات فيه. ثانيا: سحق سيناريو “داعش” المدن العراقية السنيّة، وتهجير سكانها إلى إقليم كردستان، ما جعل السنة يجدون في الكرد دالةً

“إخفاق التجربة الكردية سيكون كارثة للكرد كلهم” مخلصة في حمايتهم، في حين أغلقت سلطات بغداد أبوابها أمامهم. وهذا ما يترجمه صمت العرب السنة الذين لا حول لهم ولا قوة. ثالثا: مع تسيّد الأحزاب الطائفية السلطات الحقيقية، فإنه لا تأثير لأصحاب مناصب الكرد والسنة العرب، لا في القرار، ولا في صناعة الأحداث. رابعا: إذا كان العراقيون قد خدعهم الكرد، كما يقولون، فإن علاقات الشيعة والكرد السابقة بلا مصداقية، بل لها مصالحها الآنية. كان الكرد يعملون، من خلال تعاقب المراحل، على تحقيق مصالحهم للوصول إلى هدفهم في الانفصال.. وكان الأمر مكشوفاً، لكن الطبقة الحاكمة كانت غبية وغاشمة ومستحوذة. والسؤال: هل سيحقق الكرد طموحهم القومي بتأسيس دولة لهم في المستقبل المنظور أو البعيد؟ خانتهم الجغرافيا البرية، وهم بين ثلاث قوى إقليمية: تركيا وإيران والعرب. خامسا: سينشئ انفصال الكرد تاريخاً معقدّاً ودموياً من الصراع الإقليمي، وسيمهد الطريق إلى انفصال أجزاء أخرى، في ظل وجود نظام سياسي جائر، وغير مدرك أبداً المخاطر المقبلة، كما أن إخفاق التجربة الكردية سيكون كارثة للكرد كلهم. وعليه، أناشدهم التفكير بهذا “المشروع”. سادساً: وعليه، إن رضي العراقيون جميعاً بهذا “المشروع”، وسعوا إلى تطبيقه في فترة انتقالية، ينبغي أن يتساوى الجميع في نيل حقوقهم الوطنية، قبل أن يتفسّخ كلّ العراق.

العربي الجديد

 

 

 

ما قول “الاستشراق” في الأكراد؟/ شادي لويس

شكّك في مسؤولية النظام العراقي عن مذبحة حلبجة.. فلاقى انتقاداً كردياً عنيفاً

تزامنت أخبار الاستفتاء على الاستقلال الكردي في 25 أيلول الجاري، مع الذكري الـ14 لرحيل إدوارد سعيد. ربما تدفعنا تلك المصادفة، التي لا تنتسب إلى حنكة التاريخ بأي صورة، إلى التساؤل عما كان لسعيد أن يقوله في الاستقلال الكردي، لا بدافع الرياضة الذهنية، أو واجب الوفاء لذكراه فقط، بل لاختبار تراث سعيد الفكري، ومساهماته النقدية التي كان لها أن تغير طريقة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، ومدى مناسبتها للتطبيق اليوم.

في كتابه “تغطية الإسلام”، يذهب سعيد في إشارته للتاريخ القريب للعالم الإسلامي الحديث و”نضاله في سبيل تخطي التقسيمات العرقية الدينية وصولاً إلى نوع من الديموقراطية العلمانية” إلى أن “إسرائيل والطائفة المارونية التي تنتمي إلى أقصى اليمين في لبنان قامتا بحملة مستعرة في سبيل العودة إلي هيكل للدولة، يقوم أساساً على تمتع الأقلية العرقية بالحكم الذاتي وترتبط بروابط ثنائية مع قوى راعية أجنبية أو قوى عظمى”. ولو سلمنا بصحة جدلية سعيد المقتضبة، والتي لم يبذل الكثير من الجهد في شرحها، ربما لبداهتها الظاهرية، فليس من الصعب تخيل وضع طموحات الأكراد، جنباً إلى جنب، مع إسرائيل والموارنة، بالمنطق نفسه. ومع أن التأييد الإسرائيلي للاستفتاء الكردي، مع الصور القليلة لأعلام نجمة داود المرفوعة مع الأعلام الكردية في احتفالات الأكراد، دافع إلى ترسيخ تلك العلاقة في الأذهان، فإن ما ذهب إليه سعيد يحتاج إلى بعض الفحص.

فغير أن سعيد يقر، في الفقرة نفسها، بأنه “لم تنجح أي دولة من دول المنطقة في تحقيق ذلك (أي تخطي التقسيمات وإقامه ديموقراطية علمانية)، إلا في دنيا السياسات المعلنة وغير المطبقة في العادة”، وكذا عدم توضيحه متى كان هيكل دولة الأقلية العرقية متحققاً في السابق تاريخياً حتى يمكن “العودة” إليه، فهو يسقط في فخ الممارسات التعميمية ذاتها التي ينتقدها في كتابه والمتعلقة بالتصورات الغربية عن “الإسلام”. فحين يصور “الطائفة المارونية”، كفاعل متجانس، مؤسس على الديني، متجاهلاً الفوارق بين المارونية السياسية والمارونية كانتماء ديني أو عرقي أو اجتماعي، وانقسامات القوى المارونية السياسية والمجتمعية وطبقة الإكليروس، وتاريخ صراعاتها بعضها مع بعض، وتحالفاتها دائمة التغير مع غيرها من القوى اللبنانية وغير اللبنانية، منذ تأسيس الدولة مروراً بالحرب الأهلية وما بعدها، فإن سعيد لا يدع لنا مبرراً لعدم وضع مقولاته عن “الطائفة المارونية” في الخانة نفسها مع التنميطات الاستشراقية المختزلة عن “الإسلام”.

لكن، وإن كان المقطع الذي نستشهد به لا يأتي على ذكر الأكراد مباشرة، ويبدو في اقتضابه غير كاف لتقرير موقف سعيد من معاناتهم وطموحاتهم، فإن إشارات أكثر مباشرة لها أن تكشف عما هو أبعد من مجرد موقف سعيد من قضيتهم. ففي مقال في “لندن رفيو أوف بوكس” العام 1991، تعليقاً على الجرائم الأميركية، في “عاصفة الصحراء”، ينتقد سعيد التأطير الغربي الانتهازي لنظام صدام حسين، والذي لطالما دعمته الولايات المتحدة الأميركية في السابق، بوصفه نظاماً ديكتاتورياً وحشياً، مشككاً في مسؤولية النظام العراقي عن مذبحة “حلبجة” الكيماوية، مدعياً أنه ربما يكون النظام الإيراني هو من نفذها. ومع أن تلك المقالة كانت سبباً في انتقاد كردي عنيف لموقف سعيد، فهو عاد مرة أخرى، بعد ثماني سنوات، إلى إشارة أكثر تعاطفاً مع قضيتهم لكنها لا تقل إشكالية عن سابقتها. ففي محاضرة مشتركة مع نعوم تشومسكي، العام 1999، متعلقة بحرب الناتو على صربيا، ومع إقراره بالجرائم التي ارتكبها النظام الصربي في كوسوفو، يشير سعيد إلى الرياء الأميركي، الذي لا يصعب تبينه في تغاضي الولايات المتحدة عن مذابح الحرب الشرسة والطويلة التي تشنها تركيا ضد الأكراد.

وبالرغم من أن نقد سعيد للتدخل الانتقائي للولايات المتحدة في مناطق الصراعات، يحمل منطقاً متماسكاً، فإن موقفه هو من المذابح ضد الأكراد لا يقل انتقائية، إذ هو يبدو مؤسساً على موقف الولايات المتحدة منها، وعلاقة النظام المعتدي بالغرب. ففي حالة حلبجة، تصبح المذبحة محلاً للشك على خلفية الحرب الأميركية على العراق. بينما تبدو مجازر الأكراد في تركيا، وهي العضو في حلف الناتو والحليف التاريخي للولايات المتحدة، مؤكدة، ومعززة بالإحصاءات الدقيقة لأعداد الضحايا أيضاً. لكن موقف سعيد المتذبذب من المسألة الكردية، وغيرها من القضايا التي تعرض لها، لا ينبغي أن يدفعنا إلى وصمها بالانتهازية السياسية، المؤسسة على هوس بنقد الغرب، فالأمر يتعلق بتعقيد موقع المثقف ودوره وتحولاته كما طرحه هو نفسه.

وإن كان فواز طرابلسي قد رصد ثلاث لحظات تاريخية في إنتاج سعيد الأكاديمي، كل منها يؤرخ لتحولات في موقعه الأبستمولوجي، فإن دور المثقف الذي يراه سعيد، أي “قول الحقيقة للسلطة”، يكشف عن أن الأمر أكثر تعقيداً من مجرد مراحل خطية ومرحلية لتطور أفكار سعيد. فأي سلطة تلك التي كان سعيد معنياً بمواجهتها، وأي حقيقة تلك التي أراد قولها؟ يؤكد سعيد في “تعقيبات على الاستشراق”، أن الحقيقة عصية، إلا أن تفسيرها الممكن يعتمد على شخص مفسرها ولمن يتوجه له بالخطاب، والغرض واللحظة التاريخية. يدفعنا هذا للتساؤل عمن هو سعيد، ولمن كان يتوجه بخطابه، والغرض منه.

يمكننا فهم ما يقوله سعيد عن نفسه: “اعتقد أني شعبان.. واشعر أن لا مقام لي في إي ثقافة”. أو عندما يتحدث ضمناً بصوت لورنس العرب مرة، في “أعمدة الحكمة السبعة”: “الإنسان هو حرب أهلية”، وبصوت خصمه نايبول الذي يكتب عنه بألم وإعجاب في الوقت نفسه: “أن تكون لا هنا ولا هناك، وإنما في ما بين الاثنين”. وحين يكتب عن موقعه بوصفه “ذلك الفرد الذي عبر الانقسام الإمبريالي الغربي -الشرقي، ودخل حياة الغرب، واحتفظ ببعض الروابط العضوية مع البقعة التي تحدر منها أصلاً”. يخبرنا سعيد بوضوح عن موقعه مؤطراً في الغرب، عندما يشير إلى نفسه كأميركي في كتابه “تعقيب على الاستشراق”، حين يقول: “على عاتقنا، كمثقفين ومواطنين في الولايات المتحدة …”، ومرات عدة في “تغطية الإسلام”، يقول نحن (الأميركيين) في مقابل هم (المسلمين)، أو في تأكيده على أن عمله المؤسِّس -“الاستشراق”- قد أسيء فهمه وتوظيفه من قبل القوميين العرب والأصوليين الإسلاميين، لأن “عملي يعد بحق، أوروبي التمركز في نصوصه”…

هكذا كان انتماء سعيد الفلسطيني، الذي لا شك في أصالته، ونضاله الطويل سياسياً وأكاديمياً في سبيل القضية الفلسطينية، جنباً إلى جنب مع حربه الأهلية الداخلية، وحيرته بشأن لا انتمائه الثقافي، بين العبور من وإلى، وسقوطه في هامش المابَين، لا يجب أن تطغي على حقيقة أن إنتاج سعيد الفكري، قد انطلق من موقعه كمثقف ومواطن أميركي، ومتخصص في الأدب الإنكليزي، من داخل الأكاديمية الأميركية، لا بغرض “الدفاع أو حتى مناقشة الشرق والإسلام”، بل كان معنياً بالغرب نفسه كما يقول: “حسناًن الغرب شيء مؤقت، فلنحاول تفكيكيه، ولقد قمت بذلك على الدوام”.

لا يعنى هذا أن سعيد لا يملك ما يقوله لنا عن الشرق، فهو في الأساس لا يثق في تلك التقسيمة بين شرق وغرب، ويرى في الثقافات على تنوعها هجيناً يفتقد للجوهر، يقع فيه “الشرق كنصف الغرب الصامت، والذي يحتاج أن يصبح له صوت”، وهو ما يستدعي “الشروع في إنطاق تاريخ الخسارة والفقدان، الذي ينبغي أن نبوح به ونحرره دقيقة بدقيقة وكلمة بكلمة وإنشاً بإنش”. ومع كل ما يمكن لإنتاج سعيد أن يخبرنا به عن أنفسنا، فإنه يظهر تواضعاً جمّاً في ما يمكن أن يقوله هو نفسه، “لا أمتلك القدرة على إظهار الماهية الحقيقة لكل من الشرق أو الإسلام”، وبل حتى عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. ففي سياق دعوته لشحذ جهود المثقفين العرب في الداخل والغرب، يؤكد أن دوره المحصور في الولايات المتحدة يظل محدوداً بسبب موقعه: “لا أستطيع أن اتحدت عن الضفة لأني لست مقيماً هناك”.

هكذا، فكما تواضَع سعيد في مقاربته للشرق وأنظمته السياسية وقضاياه، مع وعيه العميق بموقعه في الغرب وأمام السلطة التي يقول الحقيقة في وجهها هناك، فهو أيضاً يطرح “الحاجة لتقويم الذات، الهدف هو النقد من الداخل وليس من الخارج”، أمام مثقفي الهامش في استلهامهم لإنتاجه الفكري. ويقول إن هناك “حاجة إلى حس أكثر حدة بدور المثقف في تعريف سياق بعينه وتبديله، إذ من دون ذلك، أرى أن نقد الاستشراق سيكون ببساطة تسلية سريعة الزوال”، فالاستعانة بأطروحة “الاستشراق”، خارج سياق إنتاجها، غير ممكنة من دون حساسية شديدة تجاه سياق تطبيقها المغاير وتفهمه.

في النهاية، ومع أن موقف سعيد من قضية الأكراد يبدو متذبذباً، وبل ربما مشينا أيضاً في بعض أوجهه، وكذلك وبالرغم من أن إنتاجه الفكري في أحيان كثيرة أسيء فهمه وتوظيفه لصالح جوهرانية قومية ومحلية أو أصوليات إسلامية، وحتى في دعم أنظمة “الممانعة” في وجه شعوبها بدافع من هوس بكراهية الغرب، فإن قراءة لتراث سعيد الفكري، أكثر فهماً لموقعه هو شخصياً وسياق إنتاجه، ومخلصة لضرورة تقويم الذات من الداخل، تظل قادرة على فتح إمكانات نقدية هائلة لفحص قضايانا اليوم، ولمدى أبعد من مجرد نقد الغرب. بل ويمكن الزعم بأن ما يخبرنا به سعيد عن الشأن الكردي، لا يبدو متعلقاً بما قاله هو نفسه عن الأمر، بل بما يمكن استقراؤه في أعمال لاحقة، مثل دراسة “ويلات زيدان ليوغلو” البديعة، “عبء الرجل الأبيض التركي”، والتي استلهمت سعيد وكتابه الاستشراق، لفحص الكمالية وأكراد تركيا وآليات قمعهم.

 

 

إيران وكردستان.. الفاعل والمفعول/ إبراهيم الزبيدي

في الدنيا العربية، ولا فخر، رؤساء جمهوريات ورؤساء وزارات وبرلمانات وأحزاب، وكثير من نواب وقادة عسكريين ورجال أعمال، وخطباء في مساجد وحسينيات، وأصحاب صحف وفضائيات، إن لم يكونوا موظفين رسميين في المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، وموضوعين على سلم رواتبها الشهرية، فهم حلفاء وأصدقاء، ولكن مِن “تحت لتحت”.

أما “مِن فوق لفوق” فهم أكثرُ الناس وطنية وغيرة وشهامة، وأشدهم عداوة مع الكيان الصهيوني الغاصب المحتل قاتل أطفال فلسطين الأبرياء ومدنس أرضها المقدسة، وأصلب المقاومين والصامدين، وأعنف المطالبين بتحرير الأرض من النهر إلى البحر، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف. وبالروح والدم نفديك يا فلسطين.

ففي قناعتهم أن النجاسة في السياسة أسلم، وأوفر ربحا، وأكثر أمنا وسلامة، وأن الشطارة هي أن تأكل مع الذئب وتسرح مع القطيع. ولا مَن شاف ولا مَن درى.

أما مسعود البارزاني فقد فعل العكس. لم يؤمن بقاعدة “إذا ابتليتم فاستتروا”، مفضلا عليها سياسة “وأما بنعمة ربك فحدث”.

لم يكن يخاف، ولم يكن يستحِي من علاقته، ولا من علاقة أبيه من قبله، بإسرائيل، من أوائل الستينات وإلى اليوم. يقول للعرب “لكم مشاكلكم مع إسرائيل، أما نحن فليس لنا معها مشكلة”.

وهنا لا بد لنا من الاعتراف بشجاعته وصراحته، فهو لم ينافق ولم يداهن ولم ينكر تلك العلاقة حتى وهو مقيم في قلعة الصمود والتصدي، دمشق، أيام الهرب الدائم من صدام طيلة الثمانينات والتسعينات، وحتى وهو رفيق نضال مع مخابرات الشقيقة إيران المجاهدة التي تتغنى دوما بمحو إسرائيل من الوجود.

وإذا كان المواطن الكردي الكبير والصغير أكثر معرفة من العربي الكبير والصغير، بتلك العلاقة فإن من باب أولى أن يكون أول العارفين بتلك العلاقة هو النظام الإيراني وحرسه الثوري ووكلاؤه العراقيون الذين تحالفوا مع “كاكه” مسعود منذ العام 1990 في “لجنة العمل المشترك” في دمشق، ثم في مؤتمر بيروت 1990، ثم مؤتمر فيينا، ثم مؤتمرات نيويورك ولندن وصلاح الدين، حين كانوا دائما يفضلون معه الخلوة في الطوابق العليا من الفنادق التي يعقدون فيها مؤتمرات المعارضة العراقية، فيتخذون قراراتها، وحدهم، ويُنزِّلونها على الرعية كاللوح المحفوظ.

وحين جاؤوا يدا بيد، مع الاحتلال الأميركي الإيراني للعراق، أفردت له الأحزاب الإسلامية، بوصاية من إيران، أو بتطنيش منه، مكانة أكبر بكثير جدا من أي عضو آخر في الجبهة الكردستانية، وأكثر جدا أيضا من السياسيين العرب السنة الذين تطلبت الطبخة الأميركية الإيرانية السيستانية إلحاقهم بمجلس الحكم، رفعا للعتب، ولتزيين القاعة التي أعدت للمتقين.

حتى غدا، وفي عقر دارها، صاحب حوْل وطوْل، وصوْل وجوْل، في القضايا الكبيرة التي تصنع مصير الدولة العراقية، بدءا بمسألة حل الجيش وتشكيل الميليشيات وتفصيل الدستور، أو انتهاء بتصميم علم الدولة واختيار نشيدها الوطني. لقد كان بيضة القبان في اختيار رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء ورئيس للبرلمان.

صارت الدولة التي كان اسمها العـراق محـافظة من محافظات الجمهورية الإسلامية في إيران، يديرها ويتصرف بخراجها الحشد الشعبي ونوري المـالكي وإيـران، دون شريك

وبرضى حلفائه الإسلاميين، وسرورهم، احتل وزارات سيادية مهمة، كالخارجية والمالية، ومقاعد نيابية وسفارات، ورئاسة أركان، ومنصب نائب رئيس الوزراء، ونائب رئيس البرلمان، ومراكز مهمة حساسة أخرى في المخابرات والدفاع والمالية والموارد المائية ووزارة النفط والدفاع والداخلية، وفي الإعلام وهيئة النزاهة المفوضية العليا للانتخابات والقضاء.

كان هذا كله في الأرباع العربية الثلاثة من العراق. أما الربع الكردي المتبقي منه فقد تنازل له عنه حزب الدعوة ومجلس الحكيم ومقتدى وباقي أعضاء التحالف “الوطني” ملكيةً خاصة خالصة له ولأولاده من بعده، مغمضين عيونهم عما يفعل فيه بلا حساب ولا كتاب.

فلم يطلب منه واحد من شركائه في المحاصصة حماية الحدود، ولا مشاركة رمزية في مراقبتها على الأقل، ولا إدارة مطارات الإقليم. لم يطلبوا منه معرفة ما يدخل في خزانته من موارد، ولا كيف تُنفق، ولا أين، وفوق كل ذلك كانوا يرسلون إليه الجزية، كل عام، سبعة عشر بالمئة من أي دولار يدخل خزينة العراق، بالإضافة إلى رواتب البيشمركة وسلاحها ولباسها وأكلها وشربها، ورواتب موظفي حكومة الحزب الديمقراطي الكردستاني أجمعين. لقد سكتوا عنه جميعا، كل هذه السنين، ولم يغضب أحد منه وهو يؤسس دولته المستقلة، ولا وهو يجيّش جيوشه الخاصة ويسلحها بسلاح الدولة وأمـوالها، ولا وهو يقضم القرى والمدن واحدة بعد واحدة ويطرد سكانها ويؤوي أعضاء حزبه مكانهم، ولا وهو يحتل آبار نفط كركوك ويطرد موظفيها العراقيين، ولا وهو يأمر بإنزال علم الدولة العراقية وبرفع علم كردستان مكانه على دوائر المملكة، ولا وهو يزور الدول العربية والأجنبية ويتحدث كرئيس لدولة مستقلة ذات سيادة.

ويبرر تلك المداراة والمسامحة كثيرون بالقول إن الإسلاميين كانوا يحتاجون إلى سكوته وهم مشغولون بسحق أعدائهم السنة العرب والكلدان والآشوريين والإيزيديين، وتهجيرهم، والاستيلاء على أملاكهم وأموالهم.

وتبعا لكل تلك الموبقات التي ارتكبها الإسلاميون، من عام 2003 وإلى اليوم، أصبح ما حدث في كردستان يوم الخامس والعشرين من سبتمبر ليس خيانة، كما يزعمون، ومسعود ليس خائنا. فمن يزرع الريح لا يحصد سوى العاصفة.

فلو كان الحكم في العراق وطنيا سليما معافى، وشريفا نزيها وطنيا مخلصا يحترم نفسه وشعبه ووطنه لأوقف كل تجاوز على حرمة الوطن وهيبته وثرواته، ولضرب بيد من حديد على يد مسعود من أول جريمة، ومن البداية، تماما كما يفعل حكام الدول المحترمة في الدنيا الواسعة.

وفي جميع المقاييس والمعايير لا يكون استفتاء كردستان، وربما الاستقلال الذي سيليه دون شك، إلا إدانة صارخة لفساد الحكم الديني الطائفي في العراق، ونهجه الانتهازي الخياني المعيب، ووصمة عار على جبين المتباكين اليوم على وحدة الوطن وسيادته وهيبته وشرعيته، ونهاية حقيقية لأكذوبة الشراكة والمحاصصة.

وهو قبل ذلك، وبعده، لطمة قوية على وجه الولي الفقيه، وكسر مبينٌ لأنف القائد الذي لا يقهر، قاسم سليماني، ولجواسيسه حكام العراق الملوثين.

من اليوم وصاعدا صارت الدولة التي كان اسمها العـراق محـافظة خالصة من محافظات الجمهورية الإسلامية في إيران، يملكها ويديرها ويتصرف بخراجها الحشد الشعبي ونوري المـالكي وعمار الحكيم وهادي العامري وأبومهدي المهندس وقيس الخزعلي وإيران، دون شـريك، بعد أن غـادرها الأكراد، وهجـرها العرب السنة، وطُرد منها الكلدان والآشوريون والأرمن والصابئة، وسوف يودعها التركمان عما قريب.

آخر خبر، رئيس الوزراء حيدر العبادي أمهل حكومة الإقليم 72 ساعة لتسليم المطارات والمنافذ الحدودية إلى حكومة بغداد، لأن “منافذ كردستان تخضع لإشراف ورقابة هيئة المنافذ الحدودية”. فهل هذه نكتة من نكات حزب الدعوة وإخوته المجاهدين، أم رماد إسلامي مقدس يذرونه في العيون؟

كاتب عراقي

العرب

 

 

 

استفتاء كردستان.. الدولة الدينية الطاردة/ عبدالجليل معالي

استفتاء أربيل يعري حقائق كثيرة

الحديث عن الدولة الدينية ينطلق أولا من تناقض كبير يحمله اللفظ نفسه، بين الدولة بما تُثقلُ به من معان سياسية حديثة، وما تمثله من كيان قانوني اعتباري، وبين الدين بوصفه إيمانا شخصيا يتعلق أساسا بالأفراد، هو أيضا يؤدي إلى دلالات الهون التي تحملها تلك الدولة المتناقضة في مسماها، والمكبلة في أدائها بمتصورها للعالم وللأفراد القائم على الفرز الديني، والمعتلة في علاقتها بالحاضر والراهن باعتبار ارتدادها إلى لحظة غائرة في التاريخ تنهل منها شرعيتها وإحداثياتها.

في الخامس والعشرين من الشهر الجاري انتظم استفتاء إقليم كردستان العراق، رغم كل ما سبقه من تهديد وتشكيك ومحاولات فتح قنوات حوار متأخر.

وبعد الاستفتاء، لم تبرح المواقف الرافضة للفكرة والقائمين عليها وللمتوجسين من مآلاتها، المواقع التي تنطلق منها. حيث ظلت المواقف نفسها تتحدث عن أهمية الحفاظ على العراق موحدا، وعلى أن خطوة الاستفتاء متسرعة وغير قانونية وغير دستورية، وعلى أنها قد تدحرجُ كرة الثلج الكردية في الأراضي التركية والإيرانية وغيرها.

على أن رفض الاستفتاء أو القبول به، ونقد المساعي البارزانية، بدءا من حلم مصطفى أو جهود مسعود، أو البحث عن الارتباطات الكردية بإسرائيل ومسارات التطبيع التي عُدّت مفتاحا ذكيا مكّن الأكراد الحالمين من ولوج أبواب موصدة، كلها قراءات وإن حاولت توفير بعض الوجاهة إلا أنها أغفلت بعدا أساسيا لا يعفي الأكراد من نزوعهم الانفصالي ولا يبرّئهم، لكنه أيضا ينهل من مناهل غير كردية. المنطلق المنسي في جلّ القراءات مفاده أن الدولة الدينية، كل دولة دينية، هي بالضرورة دولة طاردة للمكونات، نابذة للتعدد، ومانعة للتعايش، طالما أنها تعلي الانتماء الديني والمذهبي والطائفي على الانتماء الوطني الذي توفر قوانينه ودساتيره رحابة تستوعب الاختلاف والمساواة أمام القانون.

الدولة التي تشكلت في العراق بحسابات أعدت خارج العراق بعد العام 2003، صعّدت أحزابا دينية، شيعية وسنية، ثم أتاحت حسابات الخارج نفسها صعود أحزاب شيعية، كانت تستند على مظلوميات غائرة، وعلى سعي لـ“استرداد الحقوق”، ببحثها عن اجتثاث حزب أو حلّ جيش، أو الانتقام لثأر قديم، وكأن “الاستبداد” القديم كان غير عادل في توزيع منسوب استبداده على المستبد بهم.

المهم أن الحسابات الخارجية والمظلوميات العميقة والحزن المعمم، عوامل تضافرت لتنتج أحزابا لا ترى الوطن وطنا ولا المواطنين كذلك. أدى ذلك كله إلى تبلور “دولة” بقيادة مذهب وطغيان طائفة، مع الاعتراف بأسبقية المذهب والطائفة على الأحقاد الجديدة، وبراءتهما من أن يحوّلا إلى سلوك سياسي.

الطائفية لا يمكن أن تنتج سوى ردود مغالية من قبيل داعش، وهذا لا يعني أن نشوء داعش كان فقط إلى ما وفرته الأحزاب الدينية

الأحزاب الدينية الطائفية التي حكمت العراق كانت تتنافس داخل عملية سياسية قوامها الولاء للمذهب وللطائفة، وهي تبعا لذلك عملية سياسية معتلة، لأن كل تلك الأحزاب على اختلافها وتنافرها أحيانا كانت متفقة على مقولات دينية ومذهبية أكثر من إجماعها على تقديم ما ينفع الناس ويمكثُ في الأرض.

الأداء السياسي للأحزاب الدينية العراقية كان يدفع رأسا نحو سؤال عميق: هل كانت الدولة العراقية، خاصة بعد مفصل العام 2003، دولة تسمح بالتعدد؟

علاقة الدولة بالتعدد تنبع من القوانين التي تشرّعها والتي تنظم من خلالها العلاقات بين الناس وبينها وبين الناس، والتي تقوم فقط على التساوي أمام القانون.

أداء الدولة العراقية بعد مفصل أبريل 2003 لم يكن منطلقا من قوانين، على الرغم من وجودها النظري، ولم يكن باحثا عن تحقيق المساواة ولو من خارج القوانين، بل كانت سياسة بمفعول رجعي، أي أنها كانت تنهض على محاسبة الماضي وهندسة السياسة والعلاقات من خلال تلك المحاسبة.

ماض سحيق يسترجع عبر شعارات من قبيل أن “الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، ها هم اليوم موجودون.. أنصار يزيد وأنصار الحسين يصطدمون مرة أخرى في مواجهة شرسة وعنيدة”، التي صرح بها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، أو ماض قريب يسمح للفاعل السياسي العراقي أن يقسّم الشعب العراقي بين بعثي وغير بعثي.

التقاء الثارات القادمة من ماض سحيق مع الثارات المعاصرة، أنتج فرزا عميقا للمجتمع، وسمح بصعود منسوب الطائفية والمذهب على حساب الوطن والمواطنة، وفرض أيضا تراجع القوانين. هل كان ممكنا بمثل هذه العقلية وهذا التصور أن تنهض دولة تستوعب اختلاف مواطنيها، وتحوّله إلى عامل ثراء وتنوّع؟

لم تخرج اعتصامات السنة في مدن عراقية عديدة عن هذا الإطار، وحتى إن اصطبغت أحيانا بمنطلقات طائفية، فإنها كانت تمثل نتائج من نفس جنس الأسباب، فالطائفية غير الطائفة، الطائفية لا يمكن أن تنتج سوى تشنج وتوتر أو ردود مغالية من قبيل تنظيم داعش أو سواه، وهذا لا يعني أن نشوء داعش كان يعود فقط إلى ما وفرته الأحزاب الدينية العراقية من مقدمات، إلا أن تلك المقدمات كانت عاملا مؤثرا ومحددا في نشأة تنظيم تضافرت عوامل عديدة في إنتاجه.

كل دولة دينية، هي بالضرورة دولة طاردة للمكونات، نابذة للتعدد، ومانعة للتعايش، طالما أنها تعلي الانتماء الديني والمذهبي

لم يخرج السعي نحو انفصال كردستان العراق عن هذا الإطار، وإن كان محفوفا كغيره من الظواهر والأحداث السياسية بالعديد من الحيثيات التاريخية والسياسية والاقتصادية الأخرى (الداخلية والخارجية) التي تضافرت بدورها ووجدت في العملية السياسية العراقية المرتبكة أرضية خصبة، بل مبررا ودافعا ومحفزا.

جدير تأمل حصاد “التجارب المقارنة” في الدول الدينية (المعاصرة على الأقل) التي قامت أو حاولت القيام في أكثر من أرض عربية، لتأمل ما أنتجته وما تركته من خراب. والحصاد ليس مترتّبا عن بذور الدين، بل هي مستنبتة من استعمال تعسفي في حقول سياسية لا تحتمل غير النسبية وتطارح الأفكار والبرامج، عكس ما يقدمه الدين من أجوبة إطلاقية ومن خلاصات إيمانية للذوات والأفراد.

هنا تبدو تجربة العراق منذ العام 2003 مفيدة لدراسة ظاهرة الدولة الدينية، وما قد تؤدي إليه، كما قد تبدو تجارب السودان والصومال وباكستان وإيران وغيرها من التجارب المقارنة مفيدة أيضا في قراءة مآلات التنوع في ظل حكم أحزاب دينية أو أيديولوجيات أصولية.

قد يقول قائل إن المساعي الانفصالية ليست مقتصرة فقط على الدول التي تعيش تحت حكم ديني، وأمثلة إسبانيا وأسكتلندا وغيرهما مفيدة للحجاج، لكن الدولة الدينية طالما أنها تعلي من نسق الانتماء إلى الطائفة أو المذهب، فإنها تحفز ضحاياها على الخروج من الانتماء الوطني والبحث عن انتماءات وأشكال تنظم غير وطنية، والرد على الظلم الطائفي بردود أفعال طائفية ومن ضمنها الانفصال أو الثورة أو حتى الحروب الأهلية. هذا إضافة إلى الخصوصيات الدينية والثقافية للمجتمع العراقي وهي خصوصيات مختلفة حتما عن التجارب الانفصالية الأخرى.

استفتاء كردستان حدث مهم في تاريخ العراق والمنطقة، وأيّا كانت مآلاته القادمة، فإنه حدث لا يفترض أن نتعامل معه فقط بمنطق الرفض القاطع أو المساندة المطلقة، وإنما يفترض أيضا بحث أسبابه من داخل العملية السياسية العراقية، أو على الأقل العوامل التي سرّعت من نسق إنجازه.

استفتاء كردستان العراق سيصبح عملية قابلة للاستنساخ إذا لم ندرك أن المواطنة وحدها هي التي توقف مصانع التشدد والغلوّ. فدولة ديمقراطية في العراق كانت ستعفي الشعب من كل نتائج وتبعات التشدد والغلو بشتى أنواعهما، بدءا من عربدة تنظيم داعش، وصولا إلى استتباعاته المتشنجة من قبيل تنامي النزوع الانفصالي.

عبدالجليل معالي

العرب

 

 

 

استفتاء كردستان والحقيقة المجردة/ أمير طاهري

تحول استفتاء كردستان العراق إلى حالة من الأمر الواقع على الرغم من المحاولات الكثيرة والجهود المضنية لإيقافه أو حتى تأجيله حتى بات من الواجب أخذه في الاعتبار عند صياغة التطورات السياسية المستقبلية في المنطقة، كما أن مسعود بارزاني، قائد أوركسترا الاستفتاء الأخير بلا منازع، يبدو أنه يعيش في غمرة من السعادة الهائلة.

ومن الأهمية بمكان معرفة ما نتحدث عنه بالضبط عند التفكير والنظر في شؤون المستقبل. فلقد ربط مؤيدو الاستفتاء الكردي راية بلادهم بمفهومين أساسيين؛ الاستقلال وحق تقرير المصير.

إنهم يقولون إن أكراد العراق يسعون وراء الاستقلال. ولكنهم، أي أكراد العراق، على غرار المواطنين العراقيين الآخرين، يعيشون بالفعل في دولة معترف بها دولياً، دولة مستقلة ومن الأعضاء كاملي العضوية في منظمة الأمم المتحدة.

إن مفهوم السعي وراء نيل الاستقلال ينسحب بالأساس على الأراضي التي هي جزء من إمبراطورية أجنبية، أو تلك التي تحولت إلى حيازة إحدى القوى الاستعمارية. ومن الناحية القانونية، ومنذ عام 1932 على أدنى تقدير، لم يكن الأمر كذلك في العراق. وإذا لم يكن العراق مستقلاً بصفته دولة، فينبغي افتراض أن مسعود بارزاني – والمعروف أيضاً باسم كاك مسعود، بدلاً من أن يكون قائداً بارزاً من المساهمين في تطوير العملية الديمقراطية الجديدة وربما الهشة في العراق – ليس إلا «مرزبان» أو حاكماً لإمبراطورية مجهولة أو والياً تابعاً لقوة استعمارية أجنبية غامضة. بيد أن كاك مسعود ليس كذلك على وجه التحديد، لأن بلاده، وهي العراق، دولة مستقلة وذات سيادة.

ثم نتحول إلى مفهوم تقرير المصير والمعترف به بصفته حقاً من الحقوق بموجب القانون الدولي. ولقد صيغ هذا المفهوم أول الأمر في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطوريتين الكبيرتين آنذاك، العثمانية والنمساوية. وتكمن الفكرة في أن سكان الأجزاء المختلفة والمكونة لكيان هذه الإمبراطوريات ينبغي عليهم تحديد مستقبلهم بأنفسهم، ولا سيما من خلال اتخاذ القرار بشأن تشكيل الدول القومية الخاصة بهم من عدمه.

ويتأسس مفهوم حق تقرير المصير باعتباره حق جميع الشعوب في اختيار الحكومات، وسن التشريعات الخاصة بدلاً من الخضوع والإذعان للحكام الأجانب ومشرعي القوانين من بلدان أخرى بعيدة.

وفي ضوء ذلك الطرح، فإن الأكراد العراقيين يتمتعون فعلاً بحق تقرير المصير، نظراً لأنهم اختاروا بأنفسهم حكومتهم المحلية الوطنية والمشرعين في البرلمان الوطني.

وأول ما ينمو إلى فهمنا أن الاستفتاء الأخير يتعلق بمطلب الاستقلال وتقرير المصير، وهو فهم خاطئ، على أدنى تقدير.

ولذا، ما الهدف الذي أجري لأجله الاستفتاء في حقيقة الأمر؟ إنه يتعلق بالانفصال عن العراق الذي لا علاقة له بحق تقرير المصير أو السعي للاستقلال. فإن منظمي الاستفتاء الكردي يرمون إلى «فصل» المناطق التي يشكل السكان الأكراد فيها الأغلبية بغية إقامة دولة كردية منفصلة وجديدة. ومع ذلك، ورغم أن تقرير المصير من الحقوق المعترف بها دولياً، فإن الانفصال ليس كذلك.

غير أن السعي للانفصال، وإن كان غير قانوني بموجب القوانين الوطنية أو الدولية، فهو لا يعد جريمة.

والأمر المهم أنه في حالات الانفصال، تعلن الأطراف المؤيدة للانفصال عن رغبتها في ذلك بكل صراحة، ونادراً ما تحاول إخفاء نيتها وراء ستار حق تقرير المصير والسعي للاستقلال. ولذلك، فإن أول ما ينبغي على مسعود بارزاني فعله هو التوقف عن اللعب بورقة «التقية»، وأن يسمي الأمر باسمه، والإعلان الصريح بأن ما يسعى له هو الانفصال عن العراق. وينبغي عليه أن يقول إن هدفه الحقيقي هو تفكيك العراق، الجمهورية متعددة الأعراق، حتى يتسنى له إقامة الدولة الكردية أحادية العرق. ومن المثير للاهتمام، أن لفظة «العراق» التي تعني «الأرض المنخفضة»، هي مصطلح جغرافي من دون أي دلالات إثنية تُذكر.

وهناك العديد من بلدان العالم سُميت على اسم المكون الإثني الغالب على سكانها. وفي منطقة الشرق الأوسط، هناك تركيا وهي أرض الترك، وأرمينيا وهي أرض الأرمن، على سبيل المثال.

وعلى الرغم من ذلك، فليست هناك دولة شرق أوسطية من التي ظهرت في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، تحمل مسميات الهويات العرقية الغالبة فيها. بل إنها تحمل أسماء ذات دلالات تاريخية أو ربما جغرافية، وتتعامل مع وجود مختلف الطوائف والجماعات الإثنية و/أو الدينية كأمر مسلم به.

كانت منطقة الشرق الأوسط موئل الإمبراطوريات متعددة الإثنيات على مدى 25 قرناً من الزمان، إذ ظهرت فيها الحضارة الآشورية، والبابلية، والفارسية، والرومانية، والبيزنطية، والأموية، والعباسية، والعثمانية، وما إلى ذلك. ولذا، فإن الدولة الكردية، التي يسعى مسعود بارزاني لإقامتها، سوف تكون الحالة الأولى خلال 2000 سنة كاملة في منطقة الشرق الأوسط التي تطالب بهوية إثنية محضة.

ودعونا نضرب مثالاً بالفوارق بين الاستقلال، الذي هو حق لكل الشعوب الخاضعة للحكم الاستعماري أو الإمبريالي الأجنبي، وبين الانفصال. كانت كل من المغرب وتونس خاضعتين لنير الاستعمار الإمبراطورية الفرنسية تحت اسم الحماية الاستعمارية. وفي خمسينات القرن المنصرم، مارستا حقهما الطبيعي في تقرير المصير وحصلتا إثر ذلك على الاستقلال من دون الحد الأدنى من المتاعب. بيد أن الجزائر، على صعيد آخر، كانت تعتبر مقاطعتين من الجمهورية الفرنسية ذاتها، وانتخبت نوابها في البرلمان، وكانت تتمتع بحقوق الجنسية الفرنسية الكاملة.

وفقاً لذلك، فإن مطالبة الجزائر بالاستقلال كان يعتبر انفصالاً مباشراً عن الجمهورية الفرنسية الأم، ولا يمكن الموافقة عليه إلا بإبرام الاتفاقات مع الدولة الفرنسية، الأمر الذي يستلزم التصديق عليه لاحقاً عبر استفتاء وطني في جميع أرجاء فرنسا. ولكن قبل حدوث ذلك، كان على الشعب الجزائري أن يخوض حرباً مستعرة لمدة خمس سنوات، مع سقوط ما يقرب من نصف مليون قتيل، ثم المرور بفترة من التفاوض تجاوزت العامين الكاملين.

ولقد تعاملت بلدان أخرى مع مطالب الانفصال بأساليب مختلفة تماماً.

نظمت كندا والمملكة المتحدة الاستفتاءات الشعبية في كل من كيبيك واسكوتلندا، مما أتاح للسكان المحليين الفرصة لرفض الانفصال. وفي تشيكوسلوفاكيا، وما بين ماليزيا وسنغافورة، جاء الانفصال عبر قنوات التفاوض الذي أسفر عن «الطلاق» السياسي المتفق عليه. كما تم التصديق على انفصال جنوب السودان عن شماله من قبل حكومة الخرطوم بعد عشرين عاماً من الحرب وستة أعوام من المفاوضات.

ولا يعترف المجتمع الدولي بنتيجة أي انفصال إلا إذا تحقق بموافقة الدولة المعنية.

وإجراء الاستفتاءات لا يعني إضفاء الصفة الشرعية التلقائية على المشاريع الانفصالية. ولقد أجرت روسيا الاستفتاء الشعبي في شبه جزيرة القرم، التي انتزعتها بالقوة من أوكرانيا، وكذلك في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا التي انتزعتهما من جمهورية جورجيا. ورغم ذلك، لم تعترف أي دولة أخرى بهذه الحالات الانفصالية.

والسبب وراء ذلك هو عدم وجود آلية في القانون المحلي أو القانون الدولي بشأن الاعتراف بحالات الانفصال غير التوافقية. ولقد أعربت محكمة العدل الدولية في لاهاي عن ذلك الأمر بمنتهى الوضوح حال رفضها التصديق على استقلال إقليم كوسوفو. وفي العراق، فإن دستور البلاد، الذي شارك مسعود بارزاني بنفسه في صياغته بكل حماس، يستبعد تماماً فكرة الانفصال من جانب واحد بموجب المواد 107، و116، و13.

وأخيراً، فإن فكرة الانفصال ليست واضحة في أي من برامج الأحزاب الاثني عشر النشطة بين الأكراد الذين يعيشون في العراق، وتركيا، وسوريا، وإيران، وأرمينيا، وأذربيجان. وبالتالي، فإن الخطوة المقبلة التي يتعين على مسعود بارزاني اتخاذها هي تكريس فكرة الانفصال أحادي الجانب في ميثاق وبيان حزبه بالنسبة للانتخابات العامة العراقية المقبلة في عام 2018، وإذا ما اتخذ هذه الخطوة، وحصل على التفويض المطلوب لمواصلة الانفصال، يمكنه حينها مطالبة الحكومة المركزية في بغداد بالدخول في مفاوضات ثنائية حول مسألة الانفصال.

وبعبارة أخرى، فإن أي محاولة لإعلان الاستقلال الكردي من جانب واحد قد تسفر عن مأزق سياسي كبير يؤدي إلى طريق مسدود.

الشرق الأوسط

 

 

 

مستقبل كردستان/ عبد الجليل زيد المرهون

استكمالاً للحديث عن استفتاء أكراد العراق، حول الانفصال، الذي جرى في الخامس والعشرين من أيلول سبتمبر 2017، من الحري العودة للتأكيد على أن هذه الخطوة لا تخدم أي من الفرقاء في المنطقة أو خارجها. هذا ما قلنا به قبل الاستفتاء، وهو رأينا بعده أيضاً.

قلت في الأسبوع الماضي، إنني أتحدث عن كردستان بصفتي صديقاً للأكراد، قبل كوني كاتباً أو محللاً.

يعتبر واقع كردستان العراق، منذ حرب الخليج الثانية، أقرب إلى الدولة المستقلة منه إلى الإقليم الفيدرالي. وبعد سقوط حكومة الرئيس العراقي، صدام حسين، وارتكازاً إلى دستور 2005، أصبح العراق دولة فيدرالية، وبات إقليم كردستان الإقليم الفيدرالي الوحيد فيها. ووفقاً لهذا الدستور، منح الأكراد وضعاً متقدماً على مستوى الصلاحيات، لا نظير له في أية دولة فيدرالية أخرى في العالم، بما في ذلك الهند والولايات المتحدة الأميركية. وهل هذا وضع فيدرالي أم كونفدرالية معدل؟ يُمكن لأي محلل أن يطرح على نفسه هذا السؤال.

هذا الوضع، أتاح للأكراد جل ما يفترض أن يحصلوا عليه، دون أن يحملهم أعباء دولة مستقلة يجري إقامتها من جانب واحد. وأي تحليل أولي سيقود صاحبه لهذا الاستنتاج.

المصالح العليا للأمم لا ترتبط دائماً بالشكل بل بالمضمون، ولا اعتقد أن أحداً يختلف في ذلك.

المطلوب الآن الابتعاد عن سياسة الحافة (حافة الهاوية)، لأنها قد تأخذ المنطقة برمتها إلى وضع خارج سيطرة الجميع. في الأصل، فإن استفتاء كردستان لا يُمكن البناء عليه إلا بمصادقة الهيئات الدستورية ذات الصلة داخل العراق. وما دام هذا لم يحدث، فقد يكون البديل الواقعي هو دخول أربيل وبغداد في مفاوضات طويلة لتصويب ما يبدو خللاً بالنسبة للأكراد، وعدم الدوران حول الاستفتاء نفسه.

في الوضع الراهن، هذه المفاوضات لا يبدو ثمة أفق لها، إلا أن هذا لا يجوز أن يغدو سبباً لليأس. وفي وضع كهذا، لا بد من التحلي بالنفس الطويل.

الأمر الأكثر مغزى، يرتبط بالتبعات الإقليمية، وهي تبعات عميقة على ما يبدو الآن.

الأمر هنا، خرج من نطاقه العراقي، وباتت مقاربته أكثر تعقيداً، إن بالنسبة للأكراد أو المجتمع الدولي عامة.

بالطبع، يُمكن توّقع وساطات دبلوماسية، أو بالأصح مضاعفة المساعي الرامية لتطويق التبعات، بعد أن استحالت منع الاستفتاء ذاته.

من وجهة نظري، فإن أية دولة لديها رؤية يُمكن أن تساعد على الحد من الاحتقان الراهن، عليها أن تبادر للحديث مع أربيل وبغداد، لأن المفاوضات الثنائية انتهت، ومن الصعب استئنافها في ظل المواقف الراهنة.

بالطبع، هناك قضايا عالقة، فاقمت التوترات، وهناك مشكلات على أكثر من صعيد، الجميع يعرفها، وهذه جميعها قد تكون قضايا ضاغطة، إلا أن الصبر عليها، ريثما تجد حلاً مجمعاً عليه، يُعد أقل ضرراً من تبعات الاستفتاء بالنسبة لعامة من يقطنون كردستان، ونحن هنا نتحدث عن تداعيات اقتصادية وقانونية بدأت منذ الآن.

إذا كنت في إقليم فيدرالي الصفة، منفتحاً على العالم بأكمله، فهذا خير لك من أن تكون في دولة محاصرة. وربما هناك بين الأصدقاء الأكراد من لا يتخيل الآن، على نحو كامل، ما الذي يعنيه مثل هذا الحصار، إلا أن العراقيين أنفسهم لديهم تجربة ما بعد حرب الخليج الثانية، واعتقد أن دروسها واضحة، على الرغم من إننا نتحدث في سياق مغاير، وربما تكون تبعات الاستفتاء أكثر وقعاً من عقوبات الأمم المتحدة على عراق ما بعد حرب الخليج الثانية.

هذا الشرق، فيه من الأزمات ما يفوق طاقته، وإضافة أزمة جديدة تعني زيادة الوضع تعقيداً. والعبرة في التحلي بالصبر والتزام الواقعية في مقاربة القضايا المختلفة.

الرياض

 

 

كيف فشلت تركيا وإيران في اختراق وحدة القوى السياسية الكردية قبل الاستفتاء؟/ وائل عصام

حاولت أنقرة تقريب بارزاني… وسعت طهران للتأثير على حزب طالباني

اسطنبول ـ «القدس العربي» :كردستان العراق، مسعود بارزاني واصفا إياه بـ«الخائن»، في موقف يعكس خيبة الأمل الكبيرة التي مني بها الأتراك من تنظيم استفتاء الاستقلال، ويكشف إلى أي مدى كانت تقديرات أنقرة خاطئة باستبعادها الخطوة الكردية، وهو ما قاله أردوغان نفسه في كلمة هدد فيها الإقليم الناشئ بـ«الحصار الجوع».

ولعل أكثر ما أغضب الأتراك، هو ضياع «استثماراتهم» السياسة الطويلة في العلاقة مع الحزب «الديمقراطي الكردستاني»، بزعامة بارزاني، باعتباره حليفا كرديا وحيدا لاسطنبول، بوجه المعارضة الكردية في البلاد، وبالنظر اليه كطرف كردي صديق، مقابل حزب «الاتحاد الكردستاني» بزعامة طالباني الأقرب لطهران، والأقرب أيضاً للقوى الكردية الانفصالية شمال سوريا.

هذا التحالف بين انقرة وأربيل، منح الحكومة التركية نفوذا كبيرا في شمال العراق، تعزز بعلاقات إقتصادية وعسكرية وطيدة، وصلت لنشر قوات تركية في كردستان العراق، الأمر الذي أغضب بغداد وطهران.

مصدر تركي مطلع، قال لـ«القدس العربي»، إن «المسؤولين الأتراك غاضبون من خداع نظرائهم الأكراد في حزب بارزاني، اذ طمأنوهم أن الاستفتاء قد يلغى بأي وقت وأن رئيس الإقليم يسعى فقط للحصول على تنازلات من بغداد، ليتفاجأ المسؤولون الاتراك بأن الأمر لم يكن سوى محاولة لكسب الوقت وصولاً لموعد الاستفتاء المقرر».

وحسب المصدر المطلع على محادثات الجانب التركي والكردي خلال الأيام الأخيرة، أن «الاتراك ألحوا على أصدقائهم في حكومة كردستان بضرورة إلغاء الاستفتاء، وقدموا لهم وعودا بالنظر برفع التبادل التجاري وزيادة الاستثمارات التركية، فضلاً عن مرونة تركية في ملف كركوك وبيع النفط الكردي».

لكن، هذه المحادثات لم تسفر سوى عن قرار لم يتوقعوه من بارزاني (كما قال أردوغان نفسه في تصريحاته) بتأكيد إجراء الاستفتاء قبل موعده بيومين، وهذا ربما ما أغضب القيادة التركية ودفع أردوغان لتصريحات عدائية ضد صديقه السابق، بارزاني.

هكذا، باءت بالفشل، محاولة تركيا كسب إحدى القوى الكردية العراقية إلى صفها، في سبيل تهدئة النزاع مع الأكراد ولجم طموحاتهم الانفصالية التي قد تذكي التمرد جنوب تركيا. وتوحد موقف بارزاني مع بقية الزعماء الأكراد شمال العراق المناوئين لأنقرة، وساروا قدماً في إجراء الاستفتاء.

ولا يختلف ما جرى مع أنقرة، عما حصل مع طهران، فقد عولت طهران كثيرا على علاقاتها بحليفها الطالباني وحزب الاتحاد الكردستاني، من أجل شق الصف الكردي بخصوص القرار من الاستفتاء.

ورغم شيوع أنباء عن وجود شخصيات من الحزب كانت أقرب للموقف الإيراني بضرورة تفادي إجراء الاستفتاء، لكن أغلبية قيادة الحزب انحازت بالنهاية للقرار الكردي الموحد بالمضي بالاستفتاء، والذي توحدت عليه قوى الكردية رغم نزاعاتها.

وشهدت الأيام الأخيرة السابقة للاستفتاء، محاولة حثيثة من طهران للتأثير على حلفائها الأقرب في حزب الطالباني، خصوصا ًمع تدخل المرشد الأعلى، علي خامنئي، بنفسه وتصريحه بمعارضة طموحات كردستان العراق.

حاولت السلطات الإيرانية اللعب على خلافات الأحزاب الكردية المتصاعدة ضد بارزاني، فإضافة لحزب «الاتحاد الكردستاني» بزعامة الطالباني، فإن حزب التغيير «كوران»، المنشق عن الأخير، يعارض أيضاً الكثير من سياسات الحزب الديمقراطي الحاكم الذي بات يهيمن على كردستان لدرجة أن سماها بعض المعارضين له «بارزانيستان».

وكانت أهم لقاءات الإيرانيين مع القوى الكردية المعارضة لبارزاني برعاية علي شمخاني، مسؤول المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، حيث تم استقبال عدة مسؤولين من «الاتحاد الوطني الكردستاني» في طهران، وقدمت عروضا بالتعاون والتنسيق مع طهران، ودعم سياسي كبير لحزب الطالباني، ولكن الطالبانيين أعلنوا بالنهاية دعمهم للاستفتاء.

ما يعني أن القوى الكردية المعارضة لبارزاني، كانت تسعى للحصول على المزيد من التنازلات من حزب بارزاني، مقابل حشد جماهيرها للاستفتاء وهو ما حصل بالأيام الاخيرة فعلاً..

الأستاذ الجامعي الكردي، زمكان سليم من جامعة السليمانية، يقول إن إيران أخطأت في تقدير المناورات والمصالح السياسية المحلية للاتحاد الوطني الكردستاني».

ويضيف في أحد مقالاته المنشورة: «في النهاية، إن الاتحاد الوطني الكردستاني حزب سياسي كردي علماني قومي يتّسم بالتزامه القوي بحق الأكراد العراقيين في تقرير المصير وإقامة دولة، وهو ليس مدينا لإيران كحزب الله مثلا. ولم يكن، لا هو، ولا الحزب المنشق عنه حزب غوران، المعارض الشرس للحزب الديمقراطي الكردستاني، قد عارضا استقلال كردستان عن العراق بشكل فعلي».

في الخلاصة، محاولات الأتراك والإيرانيين، بالتأثير على حزبي البارزاني والطالباني لإعاقة القرار الكردي باجراء الاستفتاء، لم تتكلل بالنجاح، وهذا ربما ما دفعهم لإظهار ردة فعل عنيفة ومعارضة شرسة بوجه الاستفتاء الكردي العراقي، الذي يعتقدون أنه سيتسبب في ضرر على مصالحهم القومية الداخلية، بتقوية النزعة الكردية الانفصالية في تركيا وإيران.

القدس العربي

 

 

 

 

ربيع الأكراد خريف الشرق الأوسط/ مصطفى زين

الحديث عن العلاقة بين الاستخبارات الإسرائيلية وزعماء في إقليم كردستان ليس جديداً. ولم يكن مستغرباً احتفال يهود في شوارع تل أبيب بانتصار بارزاني في الاستفتاء على الانفصال عن العراق، ولا رفع الأعلام الإسرائيلية في أربيل، ولا تشبيه بارزاني الابن ببن غوريون. العلاقة بين الطرفين تعود إلى ما قبل إعلان الدولة العبرية، عندما كانت الحركة الصهيونية تنشط في الشرق الأوسط وتتصل بزعماء الأقليات العرقية والدينية لتحريضها على المطالبة بالاستقلال في دويلات، بمساعدة الدولتين المستعمرتين فرنسا وبريطانيا لتبرير مطالبة اليهود بوطن قومي على أساس ديني. وتطورت العلاقات بين الطرفين طوال عشرات السنين، توجها الملا مصطفى بارزاني بزيارة تل أبيب عام 1968 حين التقى أبا إيبان ووزير دفاعه موشيه دايان، وعقد اتفاقات مع قادة الموساد، ولم يكن ذلك غريباً على الرجل الذي كان يشبّه نفسه بشحاد أعمى على باب الجامع لا يرى من يتصدق عليه ولا يهمه من يكون.

تطورت العلاقات بين الطرفين منذ ذلك التاريخ، ولعبت الاستخبارات الإيرانية، أيام الشاه، والتركية دوراً كبيراً في تعزيزها وتسليح الأكراد وتدريبهم لمواجهة المد القومي العروبي وإضعاف بغداد. وأصبح وجود «الخبراء» الإسرائيليين مسألة طبيعية في شمال العراق، حيث «البيشمركة». وجاء في كتاب شلومو «نكديمون «انهيار الآمال الكردية – الإسرائيلية» أن بارزاني الأب احتفل مع الإسرائيليين في جبال كردستان باحتلالهم القدس».

تغيرت إيران بعد الخميني، وتغير العراق بعد الاحتلال الأميركي، ووجدت إسرائيل فرصتها الذهبية «لتثأر من بابل»، فكثّفت وجودها في الإقليم الكردي، بعدما استقل عملياً عن بغداد بمساعدة واشنطن والحكام الجدد الذين تقاسموا الحكم و «الغنائم» والمناصب مع الأكراد. وأصبح لدى بارزاني مستشارون من كل الجنسيات يستثمرون في السياسة، ويخططون معه لإبقاء بغداد ضعيفة. كما وجدوا فرصة في الربيع العربي وبروز «داعش» لنشر المزيد من الفوضى والدمار، فأعادوا طرح مشروع جو بايدن الذي اقترح تقسيم العراق إلى ثلاث دول، حتى قبل أن يصبح نائباً للرئيس. وبدأ بارزاني يستولي على «الأراضي المتنازع عليها»، وهي في معظمها خليط من الأقليات الدينية والعرقية فهجر منهم من هجر، وأقام مراكز لقواته، ورفع شعاره المعروف: لن نتخلى عن الأراضي التي حررت بالدم، مختلقاً قضية يجب أن تحل بالحوار، بناء على المادة 140 من الدستور. ولتأكيد ضم هذه المناطق إلى إقليمه أصرّ على إجراء الاستفتاء فيها، علماً أن سكانها المهجرين لم يعودوا إليها بعد، وهي شبه خالية.

ولكن لماذا الاستفتاء الآن؟ في ظن بارزاني أن الظروف الحالية لن تتكرر. في الإقليم لا تستطيع القوى المناهضة له الوقوف ضده لأنها ستبدو في نظر الشعب خائنة. العراق منهمك في محاربة «داعش» وهو أضعف من أن يواجه الانفصال بالقوة، فضلاً عن أن الولايات المتحدة التي ترعى حكومته لن تسمح له بذلك. إيران شبه معزولة في محيطها العربي. وأميركا جاهزة لمواجهتها عسكرياً إذا اخترقت الحدود، فضلاً عن أنها لا تريد إثارة أكرادها ومواجهتهم في مدنها المتاخمة للعراق، وربما امتدت المواجهات إلى المدن الأخرى. تركيا رجب طيب أردوغان هي الأخرى تخشى أكرادها الذين يخوضون حرباً ضد أنقرة منذ عام 1984، ولديها علاقات قوية مع بارزاني الذي استقبله الرئيس قبل عامين، وعلم كردستان إلى جانبه، وجال معه في المنطقة الكردية طمعاً في تهدئتها وأصواتها الانتخابية، إضافة إلى غضّ نظره عن تهريب النفط عبر الحدود، ودفاعه المستمر عنه ومعاملته أربيل عاصمة، ليس لكردستان وحدها بل للعراق كله، متجاهلاً كل احتجاجات بغداد. تبقى سورية الغارقة في دماء أبنائها ولا تستطيع حتى الاعتراض على الخطوة.

أما إسرائيل التي لا تنفك تسعى إلى زعزعة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط فوجدت في الخطوة الكردية فرصة تاريخية، خصوصاً بعدما بدأ «داعش» ينهار وبدأ العراق يتخلص من إرهابه. وهي فرصة تنتهزها كي تشكل مع الإقليم الكردي قاعدة عند الحدود الإيرانية والعراقية إذا خطر لحكام بغداد يوماً إشهار العداء لها. في هذا السياق جاءت احتفالاتها بانتصار مؤيدي الانفصال، وهي حكماً لن تكتفي بالاحتفال.

ربيع الأكراد خريف الشرق الأوسط .

الحياة

 

 

 

من تعريب الأكراد إلى تكريد العرب/ عدنان عبدالرزاق

انقلبت جل الموازين، بعد الاستفتاء بإقليم كردستان العراق وموافقة نيف و92% من المستفتين على الانفصال عن العراق، بداية لتأسيس دولة يعتبرها الأكراد حلمهم وحقهم التاريخييّن، فبدأ تراخٍ بموقف هذه الدولة وربما قبول بالأمر الواقع من تلك، مع تشجيع وتحريض، وإن بالخفاء، ممن يهمهم إبقاء شعوب المنطقة برمتها، غارقة في الحروب وتدور بفلك أحلام الحرية والعيش كمواطنين.

 

وبدأت الاصطفافات الكردية، في المنطقة والمهجر، إلى جانب مسعود البرزاني، رئيس الإقليم الحالي، حتى ممن كان قبل الاستفتاء يراه متهوراً أو ديكتاتورياً، استأثر بحكم الإقليم منذ أكثر من عقدين، ووزع المناصب على أولاده وأقربائه، وأعطى للموارد والثروات، وبمقدمتها صادرات أكثر من 300 ألف برميل نفط يومياً، هالة من السرية والأمن الوطني، في سلوك، رآه كثيرون، يتشابه مع الديكتاتوريين العرب الذين يعتبرون زيت الصحاري هبة الطبيعة لأسرهم الحاكمة، يمنون ببعض عائداته على الشعوب والمشاريع التنموية.

 

بداية القول: لا يحق ربما لأي مطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية أن يقف بوجه حلم الأكراد، بجغرافيا ودولة تلملم شعبهم وتاريخهم، بعد عقود من النضال والظلم والسعي لوطن واحد موحد.

 

بيد أن ثمة خلطاً بالأمر، على نحو ما نعتقد، فأن يسعى الأكراد لحقهم المشروع من نظر كثيرين، فهذا لا يعني أن يهضموا حقوق الآخرين، إن بمناطق “كردستان العراق” التي اتسعوا برسم جغرافيتها، لتطاول مناطق تركمان وعرب ومسيحيين، وكانت حتى الأمس القريب خارج الحلم الكردستاني، أو متنازعاً عليها على أقل تقدير، وكأن منابع النفط هي الدليل الوحيد على حدود “كردستان التاريخية”.

 

أو أن يتغاضوا، وهم طلاب الحرية، عن التغيير الديموغرافي وقضم الأراضي السورية، في شمال شرق البلاد، وإخضاع السكان والجغرافيا لمنطق الاستقواء، بعد دعم الولايات المتحدة، والمراهنة عليهم وإن إلى حين.

 

وبواقع الاستفتاء والمشاريع الانفصالية، وإن التمهيدية التي لاحت بسورية، ربما جدير بالذكر والتذكير، أن نسبة الأكراد بسورية، وكما تقول الكتب والمؤرخون، وحتى عام 1925، لم تكن تزيد عن 5%، والتي تعاظمت بعد انتفاضة الزعيم الكردي سعيد بيران في تركيا على نتائج الدولة التركية ومؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، وقت فرّ من تركيا زهاء 300 ألف كردي لسورية “عين العرب وعفرين” وزادت نسبتهم جراء ذلك لنحو 10% من السكان.

 

وإن أتينا على القامشلي التي يسميها الإخوة الأكراد “قامشلو” والتي كانت حتى عام 1933 موطن السريان والآشوريين والأرمن، وقت دخلها الأكراد مرحباً بهم من سكانها التاريخيين، وكذلك من خلاف واختلاف، لما يتعلق بعين العرب التي يقال إن الأرمن من بناها عام 1892 ودخلها الأكراد بالتزامن مع تأسيس الجمهورية التركية، أو منبج وعفرين والمالكية.

 

قصارى القول: ربما لا استدامة لحدود يتم رسمها بالدم، بحسب وصف رئيس إقليم كردستان العراق، لأن التداخل الجغرافي والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين مكونات دول المنطقة، تجعل من حدود الدم سطحية، يمكن أن تتلاشى بعد أول فلاحة للأرض أو محاكمة عقلاء يرون باستعداء دول الإقليم سجناً ترتفع جدرانه كلما زادت الأطماع وتأجج الصراع.

 

وقد يكون الأهم بالمسألة، وفضلاً عن تخلي الإخوة الأكراد عن مطالبهم السابقة بتحصيل الحقوق والمساواة ضمن دول ديمقراطية، والسعي لدولة على اعتبار قومي، بواقع بطلان هذا المبرر والتأكد أن مقومات استمرار الدول وغناها، يتأتى عبر التعددية وسيادة القانون، لا صفاء العرق والدم.

 

إن الأكراد يردون على مظلمة التاريخ والحكام لهم بظلم سكان المنطقة الذين كانوا إلى جانبهم في الظلم وفي النضال، إذ لم يكن للسوريين من قرار بفرض العربية على الأكراد وسلبهم حقوقهم بالتجنيس والملكية والوظائف، حتى يرد الأكراد، وفي أول منعطف، على السكان وحقوقهم بالجغرافيا والعيش، فيفرضون قانونهم وتحالفاتهم ولغتهم على سكان المنطقة، ويتغافلون ربما عن ظلم الحكام.

 

على الأرجح، أرّخ 25 سبتمبر/ أيلول لمرحلة جديدة في منطقة الشرق الأوسط برمتها، فإن تغلب الأكراد في العراق على الحصار ومعارضة دول الجوار لاستفتائهم وإعلان الدولة، وهذا من الصعوبة وربما من الاستحالة بمكان، بعد اجتماع “الخصوم” على مشروع الأكراد، فسيفتح هذا التاريخ لحروب وخصومات وربما تفتيت، إن أتى بالتزامن مع إنهاء “فزاعة داعش” فلن تكون كمثلها، لجهة استدامة الصراع وربما دفع الأثمان التي سيتكبدها الشعب المتطلع للحرية، من عرب وأكراد.

 

نهاية القول، مرة أخرى، من أبسط حقوق الأكراد، بل أي شعب بالعالم، أن يسعى للحرية والمواطنة والعدالة، وخاصة أن الحكام الديكتاتوريين بالمنطقة العربية سلبوا حقوق الأكراد كمواطنين، عبر عقود من الزمن، فحولوا أحلامهم من الحكم الذاتي إلى الفيدرالية وأخيراً للانفصال وتأسيس دولة كردستان العراق تمهيداً لكردستان الكبرى.

 

وربما بتغافل حكومة بغداد المركزية عن مطالبهم التي نص عليها القانون، بل وبتحكم أنصار طهران وبيادقها في بغداد، بمصير العراق والعراقيين، يعطى مبرر إضافي لسعي الأكراد إلى اقتناص فرصة ومرحلة تاريخية قد لا تتكرر. بيد أن كل ذلك لا يبرر للبعض على الأقل، الشوفينية التي بدأنا نراها ونلمسها، وهم من يعيبون تاريخياً على “البعث القومي” أو التنكر لحقوق الشعب العربي وحريته، وهم طلاب حقوق وحرية على مدى التاريخ.

العربي الجديد

 

 

إعصار كردستان وخرائط الإقليم/ راجح الخوري

كل الدعوات العراقية والتركية والإيرانية إلى إلغاء نتائج الاستفتاء، الذي جرى يوم الاثنين الماضي، وسط حماسة طاغية، في كردستان، تبدو بلا معنى، على الأقل لأن هذا الاستفتاء حصل أخيراً وفي حضور مراقبين من الخارج كما أُعلن، ولأن مسعود بارزاني بات الآن مدججاً بنتيجته الساحقة أي 87 في المائة‏ من سكان الإقليم الذين أيدوا استقلال دولة كردستان.

لا يمكن إلغاء الاستفتاء الذي حصل وسط كل هذا الدوي، لكن من المؤكد أنه يمكن الحديث عن تفاهم على ترجمة نتائجه على المستوى السياسي والسيادي في العراق، بمعنى هل سيذهب الإقليم مباشرة إلى إعلان الاستقلال، أم سيفتح الأبواب للذهاب إلى طاولة الحوار للتفاهم على صيغة العلاقة المستقبلية، سواء كانت انفصالاً يستدعي ترتيب العلاقات بدلاً من الانخراط في الحرب، أو كونفدرالية متفقاً عليها تنظم العلاقات بين الجانبين؟

هنا لا بد من أن نلاحظ أن مسعود بارزاني وبعد أقل من 48 ساعة على إعلان النتيجة، بدا هادئاً يبحث عن التفاهم، في مواجهة الهياج وقرقعة التهديد والتصعيد، فقد دعا بغداد إلى فتح حوار للاتفاق على المستقبل بعيداً عن لغة التهديد بالحصار والتجويع، كما يلوّح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي وصف الاستفتاء بأنه خيانة، مع أنه جرى خارج الأراضي التركية!

حيدر العبادي هدد بفرض حظر جوي وبري على كردستان، وقال إنه لن يتفاوض مع القادة الأكراد ما لم يعلنوا إلغاء الاستفتاء ونتائجه، وهو ما لا يمكن حذفه بعدما بات واقعاً، لكن كما أشرت أعلاه يمكن الانطلاق من هذه النتائج إلى حوار ينظم العلاقة المستقبلية بين بغداد وأربيل، التي كانت دائماً موضع خلافات وصراعات.

قبل الحديث عن المواقف النارية التي سمعناها من أنقرة وطهران يتعين التوقف عند بيان الخارجية الأميركية، التي أعربت عن «خيبة أمل عميقة» بسبب الاستفتاء، لكنها حرصت على التأكيد أن العلاقات التاريخية بين الولايات المتحدة والشعب الكردي لن تتغيّر على ضوء الاستفتاء غير الملزم الذي سيزيد من انعدام الاستقرار، ولهذا «يتعيّن على جميع الأطراف أن ينخرطوا بطريقة بناءة في حوار يدعم العراق الموحد الفيدرالي والديمقراطي».

الموقف الروسي الذي يرفض فكرة الانفصال، يدفع أكثر في الدعوة إلى الحوار، فقد تجنّب نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف انتقاد الاستفتاء قائلا: «هذا أمر داخلي لكن هذا لا يعني أننا سنعترف بنتائجه»، ثم أعلنت الخارجية الروسية يوم الأربعاء أنها «تنظر باحترام إلى التطلعات الوطنية للأكراد، وأن كل القضايا العالقة يمكن حلّها بالحوار».

وفي السياق ذكرت التقارير أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعمّد في الاتصال الهاتفي يوم الاثنين مع إردوغان الذي يهدد بالغزو، التذكير بأن موسكو تدرس الانعكاسات التي قد تنجم من انفجار الوضع عسكرياً، على خطط وضعها عملاق النفط الروسي «روس نفط» لمد أنابيب النفط إلى أوروبا عبر الأراضي العراقية فالكردستانية فالتركية، بما يعني ضمناً تذكير إردوغان بأنه إذا كانت خسائره السنوية من إغلاق صنبور النفط الكردي تصل إلى أربعين مليار دولار، فإن الوضع سيكون أسوأ إذا تعطل مشروع الأنابيب الروسي!

عملياً هذه ليست مسألة استفتاء على استقلال كردستان. لقد فتحت الأبواب على قرع طبول التهديدات العسكرية، مناورات على الحدود وتلويح بالغزو، إنها في النهاية بوابة تفتح على طريقين:

إما عقلانية تنزل على الرؤوس الحامية في أنقرة وطهران وبغداد وحتى دمشق، بحيث يمكن التفكير بضرورة تطوير النظم السياسية على قواعد من الفيدرالية التي تحترم خاصية الجماعات وحقوقها، وإما الذهاب إلى صدام عسكري لن يكون من نتائجه سوى المزيد من الكوارث، وفي مقدمها طبعاً عودة «داعش» والإرهابيين الذين خرجوا من بوابات المدن ويمكنهم العودة من نوافذ الصراع الجديد، وهذا أمر يعرفه العبادي جيداً.

هكذا تبدو دعوة بارزاني إلى الحوار شرفة هادئة تطل على ساحة من الصخب وقرع طبول الحرب، لكن ربما على حيدر العبادي أن يتوقف أمام العرض الذي قدمه قاسم سليماني إلى بارزاني، أي أن تقوم طهران بالوساطة بين بغداد وكردستان لحل المشاكل العالقة وفقاً للدستور العراقي والاتفاقيات الثنائية، لكن بارزاني رفض في ضوء يأسه الطويل من تجاوب بغداد مع مضمون هذه الاتفاقيات، ولهذا عندما هدد قاسمي بتحريك «الحشد الشعبي» في كركوك جاء الرد بأن البيشمركة ستتصدى لأي تحرك من هذا النوع!

هذا العرض يؤكد أن الحكومة العراقية تمادت في تعطيل المادة 140 من الدستور العراقي لجهة التحكم بكيفية حق تقرير المصير والتملص من حلّ الخلاف على المناطق المتنازع عليها، والامتناع عن دفع رواتب قوات البيشمركة وعن دفع مستحقات الشركات التي عملت في التنقيب عن النفط في الإقليم، ثم بدأت تدعم ميليشيا «الحشد الشعبي» وتدفعها للوقوف في مواجهة البيشمركة في مناطق شنكال وعلى حدود الموصل وأربيل وكركوك.

طهران ليست بعيدة عن كل هذه التحركات، لكن المراقبين يطرحون سؤالاً يستحق التأمل: ما الذي يمكن أن يضير إيران من انفصال كردستان في شمال العراق، إذا كان هذا يمهّد الطريق إلى انفصال أو بالأحرى فصل جنوب العراق وإلحاقه بها، وهي تقريباً التي تديره وتضع يدها على ثرواته النفطية، وهذا لن يغيّر من مسار مشكلتها مع ثمانية ملايين كردي تضطهدهم عند حدودها الشمالية الغربية؟

مملكة كردستان عاشت عامين بعد الحرب العالمية الأولى [1922 – 1924] ثم تقاسمتها تركيا وإيران والعراق وسوريا، وجمهورية مهاباد التي أعلنها الأكراد في إيران عام 1946 بدعم من الاتحاد السوفياتي سحقها الشاه، ومنذ ذلك الحين يتوزع 40 مليون كردي في الدول الأربع (20 مليوناً في تركيا قُتل منهم أكثر من مليون ونصف أيام أتاتورك، 8 ملايين في إيران يتعرضون للتنكيل والاضطهاد، 7 ملايين في العراق تعرضوا للقتل بالكيميائي في حلبجة أيام صدام حسين، 3 ملايين في سوريا كانت آخر عمليات القمع التي تعرضوا لها في القامشلي قبل أعوام قليلة).

انطلاقاً من هذا الواقع تتجاوز دول الإقليم كل خلافاتها والتناقضات، وتلتقي في معارضتها الحاسمة لقيام أي كيان أو دولة كردية مستقلّة في أي بلد من البلدان الأربعة، لأنها ستشكّل منطلقاً لتحركات ومطالبات في الدول الأخرى.

وعلى هذا يبدو الاستفتاء على الاستقلال في كردستان وكأنه الفالق الزلزالي الذي يمكن أن يضرب عميقاً في المنطقة، لأنه سيؤجج طموح وأحلام الكرد في تركيا وإيران وسوريا للمطالبة بحق تقرير المصير، وإذا تحققت أحلامهم فذلك يعني على سبيل المثال لا الحصر، أن تركيا ستخسر 32 في المائة من مساحتها، أما إيران فلن تكون في مواجهة طموحات الكرد وحدهم، وخصوصاً مع وجود الحركات المطالبة بالانفصال في سيستان – بلوشستان وأيضاً في خوزستان العربية.

لهذا يبقى السؤال دائماً، لو كانت الأنظمة تحترم الديمقراطية والحقوق في أطرها التعددية، هل كانت المسألة الكردية ستتحوّل فالقاً يزلزل المنطقة كلها؟

الشرق الأوسط

 

 

 

 

هل نحن اليوم أمام ثورة الأقليات؟/ محمد الحدّاد

بين استفتاءين، أحدهما في كردستان العراق والآخر في منطقة كاتالونيا الإسبانية، تظهر بوادر خطيرة بانتقال العالم إلى محنة جديدة. لقد بدا في لحظة ما أنّ العالم يتوحّد حول محاربة الإرهاب، بما يبشّر بنهاية قريبة لأقاليم الإرهاب التي ترعرعت في السنوات الأخيرة مستفيدة من اختلاف المواقف الدولية واضطرابها، وبتراجع العمليات الإرهابية التي استفادت من سوء التنسيق العالمي في هذا الموضوع. لكن من الواضح أنّ الأمل في الاستقرار لن يستمرّ طويلاً، فضلاً عن أن يتحقّق الاستقرار ذاته في الأمد المنظور. فحروب الأقليات ستحلّ مستقبلاً محلّ حروب الإرهاب.

كما ضرب الإرهاب الجميع، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فإنّ ثورة الأقليات ليست محصورة في منطقة بعينها. تزامن الاستفتاءان الكردي والكاتالوني مجرد مصادفة، لكنها مصادفة تؤكّد الطابع «المعولم» للقضية. وما يحدث في كاتالونيا لا يهم إسبانيا وحدها، فجزء من هذه «الأقلية» يمتدّ إلى فرنسا، بما يعني أنّ الانفصال إذا ما تحقّق يوماً فإنه سيشجع على عودة الروح لحركات كانت قد صنّفت في السابق على لوائح الإرهاب في أوروبا. يمكن أيضاً أن يستعيد الكورسيكيون في فرنسا مطالباتهم بالانفصال وهم الذين لم ينضموا إلى فرنسا إلا في بداية التاريخ المعاصر. بلجيكا أيضاً مهدّدة بصراع متجدّد بين مكوّنيها العرقيين واللغويين، وقد لا يترتب على هذا الصراع مجرد تعطيل تشكيل الحكومة كما حصل في السابق لمدّة تجاوزت السنة، بل فرض الأمر الواقع وتقسيم البلاد. وللتذكير، فإن بلجيكا ذاتها انفصلت عن هولندا بسبب الاختلاف الديني (بلجيكا ذات غالبية كاثوليكية وهولندا بروتستانتية). أما إيطاليا، حيث الجميع من الدين والعرق نفسَيهما، فهي تعيش تقابلاً حادّاً بين الشمال المصنّع والجنوب الفقير، وفي ظلّ عودة الروح للمطالب الانفصالية، بالإضافة إلى تصاعد اليمين المتشدّد في أوروبا، فلن تكون مستبعدة عودة قوية لرابطات الشمال التي كانت تدعو للانفصال وتقسيم البلاد.

وكل هذه السيناريوات، وغيرها أيضاً، ليست من قبيل الخيال العلمي لأنها ترتبط بحركات احتجاجية أو مسلحة نشطت في السابق على مدى عقود ولم يتراجع حضورها وتأثيرها إلاّ في السنوات الأخيرة، من دون أن تتراجع مطالبها وآمالها. فيمكن أن تعود في أية لحظة إذا ما رأت الفرصة سانحة، لا سيما أنّ الوضعين الاقتصادي والاجتماعي الضاغطين، بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، يمثلان باستمرار عاملاً مناسباً لتنامي مثل هذه الحركات.

لقد أشرنا إلى أوروبا بدل الشرق الأوسط لنؤكد أن القضية أبعد من أن تكون مناورة أو مؤامرة ضدّ شعوب بعينها، كما يتبادر إلى الأذهان عندنا، مع أنّ الوضع في أوروبا والشرق الأوسط متفاوت، إذ قد ينتج فائض عنف أكبر بكثير هنا ويكون أقلّ ضرراً هناك. والقضية الكردية الموزعة على بلدان عدّة في المنطقة تشهد على التعقيدات البالغة والأخطار المحتملة، وكذلك الشأن في ليبيا التي قد تؤدّي إلى تعقيدات في المغرب العربي كله. لكن جوهر الموضوع واحد وهو ضغط العولمة على نموذج الدولة الوطنية من دون أن تقدم العولمة بديلاً لهذا النموذج سوى الانفصال.

إن منطق تقسيم الدول يمكن أن يكون ضرورياً في حالات خاصة، لكنه في الغالب يؤدي إلى تواصل مسلسل التقسيمات، فلا توجد مجموعة بشرية «نقية» عرقياً ودينياً ولغوياً كي تضمن تماسكها الأبدي، فضلاً عن كون الخلافات السياسية قادرة بدورها على تفجير المجتمعات ولو كانت متجانسة.

الإدارة الديموقراطية حلّ لتعايش مكونات مختلفة في بلد واحد، وهذا ما فشل في العراق بعد 2003، وليبيا بعد 2011، لكن من الواضح أيضاً أن الديموقراطية ليست شرطاً كافياً، فهي موجودة في أوروبا ولم تحلّ المشكلة. يبدو حالياً أنّ البلدان ذات التنظيم الفيديرالي أو شبه الفيديرالي العريق، مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، هي الأبعد عن مواجهة أخطار الحركات الانفصالية، فقد خبرت منذ فترة طويلة إدارة التعددية في مستوى المجموعات أو الأقاليم، عكس الديموقراطيات المركزية («اليعقوبية») التي تلغي كل اعتبار لخصوصيات المجموعات والأقليات ولا تعترف إلا بعلاقة مباشرة بين الدولة والفرد المواطن. والفارق واضح بين الاندماج الطوعي للمواطنين في دولة واحدة ومجتمع واحد مع الاعتراف بالتعددية والتنوع، وبين أن يُحمل المواطنون قسراً على الاستجابة لمقاس ما تريده الدولة من المجتمع.

وفي أوروبا، يمكن الاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور احتواء الصراعات عبر الاضطلاع بالدور الإدماجي للأقليات، أما في الشرق الأوسط فلا توجد حلقة وسطى يمكن أن تضطلع بهذا الدور، بما يمثل أيضاً عامل تأزيم إضافي. لذلك ينبغي على دوله أن تكون الأكثر حرصاً على الانفتاح على مختلف المكونات الاجتماعية والاعتراف بها، منعاً لانفجارات يصعب التحكم فيها إذا ما حصلت، فلا تطرح المشاريع الانفصالية إلا في الحالات القصوى التي تتأكد فيها استحالة التعايش، فتكون الاستثناء لا القاعدة.

الأكيد أن ثورات الأقليات ستكون محور السياسات الوطنية والدولية في العقود المقبلة، وعلينا أن لا نكتفي بالمتابعة أو التنديد، بل يتعين أن نراجع أيضاً نظرياتنا وقناعاتنا في مجال تحديد هويات المجتمعات والدول، وأن ندفع باتجاه إصلاح الدول الوطنية حماية لها من أخطار الانفجار.

الحياة

 

 

نعم… الأكراد انتهازيون!/ خيرالله خيرالله

 

بات واضحا بعد أسبوع على الاستفتاء في كردستان العراق أنّ هناك ما يمكن وصفه معطيات جديدة. تتخذ هذه المعطيات شكل أسئلة من نوع ما انعكاسات خروج الأكراد من اللعبة السياسية الدائرة في بغداد ومدى قدرة بغداد على الذهاب إلى النهاية في محاصرة كردستان من أجل إخضاعها؟

 

من بين الأسئلة الأخرى التي تطرح نفسها بإلحاح هل سيتأثر وضع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي يمكن اعتبار الاستفتاء ضربة قويّة موجّهة إليه شخصيا وإلى مستقبله السياسي؟ مثل هذه الضربة يمكن أن يستغلّها خصومه، على رأسهم نوري المالكي الذي يعدّ نفسه، بدعم إيراني، للعودة إلى موقع رئيس الوزراء بعد الانتخابات النيابية المتوقعة السنة المقبلة.

 

الثابت أن التوازنات السياسية في بغداد ستتخذ شكلا جديدا في غياب المكوّن الكردي الذي سيجد نفسه منهمكا في إعادة ترتيب وضع الإقليم من منطلق أن الاستفتاء خطوة على طريق قيام الدولة المستقلة في يوم من الأيّام.

 

 

على مفترق طريق الاستفتاء

قبل كلّ شيء، ليس الاستفتاء سوى خطوة أولى، لكنّها حاسمة، في رحلة لا تزال طويلة من أجل قيام دولة كردية في العراق. لا تزال هذه الدولة تبحث عن حدودها النهائية وتحاول في الوقت ذاته، عبر مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان، عدم إقحام نفسها في قضايا متعلّقة بأكراد إيران وتركيا وسوريا.

 

تبدو مشكلة مستقبل كركوك أكثر من كافية كي ينشغل أكراد العراق لسنوات طويلة بقضية معقدة مرتبطة بأمور كثيرة في مقدّمها وجود عدد كبير من التركمان والعرب وأقلّيات أخرى في المدينة من جهة وموقعها الاستراتيجي وثرواتها من جهة أخرى.

 

لعلّ من أكثر الظواهر المثيرة للاهتمام التي رافقت الاستفتاء في كردستان العراق، ذلك الفرح الذي عبّر عنه أكراد إيران الذين يعانون ظلما كبيرا، خصوصا منذ قيام “الجمهورية الإسلامية”. كان تعبير أكراد إيران عن فرحهم بالاستفتاء دليلا على مدى كرههم للنظام الذي أقامه الخميني في إيران، فضلا عن توقهم إلى الاستقلال أيضا.

 

تبيّن في ضوء الاستفتاء في كردستان العراق أن النظام في إيران لم يتمكن يوما من استيعاب الأكراد، ولن يتمكّن من ذلك يوما. لم يكن لدى هذا النظام سوى القمع للتعاطي مع أكراد إيران.

 

يمكن العودة إلى جريمة اغتيال عبدالرحمن قاسملو زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في الثالث عشر من تموز – يوليو 1989 للتأكد من مدى حساسية النظام في إيران حيّال أي بروز لقيادات كردية إيرانية تمتلك حيثية ما على الأرض. ذهب النظام إلى حدّ قتل قاسملو ورفاق له في فيينا!

 

يظلّ أخطر ما في قرار إجراء الاستفتاء في كردستان العراق، انعكاساته على دول الجوار، خصوصا في إيران وتركيا التي فيها ستة عشر مليون كردي. هذه الانعكاسات تفسّر القلق الشديد في تركيا وإيران وسوريا وفي العراق نفسه حيث ذهب العبادي إلى اتخاذ كلّ الإجراءات من أجل تعطيل مطاري أربيل والسليمانية وسدّ كل المنافذ البرّية لكردستان العراق.

 

لا يمكن فصل الإجراءات التي اتخذتها تركيا والكلام الصادر عن الرئيس رجب طيب أردوغان عن القلق الذي يعاني منه الرئيس التركي الذي دخل في السنوات الأخيرة مرحلة التفرّد بالسلطة وإعادة تركيب تركيا بما يتّفق مع توجهاته الشخصية بصفة كونه مؤمنا بفكر الإخوان المسلمين وتخلّفهم.

 

لم يتردد أردوغان في اللجوء إلى العلاقة المعروفة، وهي علاقة تاريخية، بين الأكراد العراقيين وإسرائيل لتبرير موقفه المعادي للاستفتاء.

 

يلجأ أردوغان إلى الورقة الإسرائيلية لتبرير سياساته تجاه كردستان العراق في مرحلة ما بعد الاستفتاء، علما أنّه اضطر إلى التخلي عن المزايدات التي لجأ إليها في الماضي القريب وأعاد العلاقات مع إسرائيل بعد فشله في فكّ الحصار عن غزّة عن طريق استعراض بحري مرتجل لم يؤد إلى أي نتيجة على الأرض.

 

على العكس من ذلك، تابعت إسرائيل ممارسة سياستها القائمة على فرض حصار على غزة وتحويلها إلى سجن كبير في الهواء الطلق، وهو أمر لا تعترض عليه “حماس” التي أخذت القطاع رهينة منذ السيطرة عليه منتصف العام 2007، إلى أن وجدت في 2017 أنّه بات عليها البحث عن طريقة للخروج من مأزقها.

 

تكمن مشكلة أكراد العراق حاليا في أنّ للحكومة المركزية في بغداد وتركيا وإيران مصلحة في إجهاض الاستفتاء. سيعني نجاح الاستفتاء نهاية العبادي، سياسيا، في العراق. وسيعني أن كلّ الإجراءات القمعية والدموية التي لجأ إليها نظام الملالي في إيران لم تجد نفعا في المدى الطويل.

 

وسيعني أن أردوغان لم يستطع تقديم نموذج يمكن أن يقنع الأتراك بأن سلسلة الانقلابات التي قام بها، بما في ذلك الانقلاب على رفاقه في “حزب العدالة”، تصب في مصلحة البلد. حتّى النظام السوري المتهالك، الذي صار في مزبلة التاريخ، بدأ يتحدّث عن “حكم ذاتي للأكراد”، لعلّ ذلك يجعل منه صاحب كلمة في تقرير مستقبل سوريا… أو الظهور في مظهر من لا تزال لديه سياسة ما خارج ما يقرره الوصيّان الروسي والإيراني.

 

لم يعد سرّا أن معركة الاستقلال الكردي ستكون معركة قاسية. الرئيس فلاديمير بوتين زار أنقرة وذهب بعيدا في مراعاة رجب طيّب أردوغان، حليفه الجديد، بتأكيد تمسّكه بـ”وحدة العراق”. صارت وحدة الأراضي العراقية فجأة همّا إيرانيا وتركيا… وروسيا.

 

يبقى الموقف الأميركي. الأكيد أن القيادة في إقليم كردستان تفاجأت بالاعتراض الأميركي على إجراء الاستفتاء يوم الخامس والعشرين من أيلول – سبتمبر الماضي.

 

هناك رفض للاعتراف بأن الأمور في كردستان العراق ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه لو كان هناك نظام ديمقراطي طبيعي في العراق قادر على تطوير نفسه

ربّما كانت تفضل التأجيل في وقت تعتبر أن كلّ الجهود يجب أن تنصبّ على الانتهاء من “داعش”. ولكن، يبدو أن واشنطن استدركت نفسها، ربّما بتأثير إسرائيلي، واتخذت موقفا أكثر ليونة من الاستفتاء وعرضت نفسها وسيطا بين إقليم كردستان والمعترضين على الاستفتاء. اتخذت واشنطن هذا الموقف المرن على الرغم من إعلانها، عبر وزير الخارجية ركس تيلرسون، عدم الاعتراف بنتيجة الاستفتاء.

 

إذا كان من أزمة في كردستان العراق، وهناك بالفعل أزمة، فإنّ هناك أزمات لدى الحكومة العراقية وفي كلّ من إيران وتركيا. هناك بكلّ بساطة رفض للاعتراف بأنّ الأمور في كردستان العراق ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه لو كان هناك نظام ديمقراطي طبيعي في العراق قادر على تطوير نفسه.

 

لم يكن الأكراد يتصورون يوما أن ما سيخلف البعث نظام أسوأ من البعث، أي نظام الميليشيات المذهبية التي يعبّر عنها تشريع “الحشد الشعبي”. وهذا نجاح كبير في حدّ ذاته. إنّه نظام التفوّق في التخلّف على البعث الذي استُخدم كشعارات لتبرير الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها في كلّ من سوريا والعراق.

 

لم يكن الاستفتاء الكردي سوى نتيجة طبيعية لما آلت إليه الأوضاع في العراق، خصوصا بعد هبوط أسعار النفط واستشراء الفساد الذي أدى إلى تبديد مئات مليارات الدولارات في مرحلة كان فيها نوري المالكي رئيسا للوزراء.

 

لم يعد لدى الأكراد حتّى مصلحة في مراعاة الحكومة في بغداد في ضوء ظهور علامات الإفلاس ومظاهره على هذه الحكومة. الأكراد انتهازيون؟ نعم إنّهم انتهازيون. هل من سبب كي لا يكونوا كذلك عندما لم يعد يوجد من يريد مشاركتهم لا في السلطة ولا في الثروة، هذا إذا كانت هناك بقية من ثروة؟

 

 

إعلامي لبناني

العرب

 

 

إيران والأكراد.. ماذا يعني استفتاء كردستان لطهران؟/ أريان طبطبائي

ترجمة وتحرير أسامة محمد – الخليج الجديد

عشية استفتاء يوم الاثنين الماضي حول مستقبل كردستان العراق، قامت القوات المسلحة الإيرانية بتدريبات عسكرية كبيرة على الحدود بين إيران والعراق حيث حذرت طهران الأكراد من المضي في الاستفتاء. وفي الوقت نفسه، أعلن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الجهة المسؤولة عن صياغة الاستراتيجية الأمنية للبلاد، أنها ستوقف جميع الرحلات الجوية من وإلى المطارات الرئيسية في إقليم كردستان والسليمانية وأربيل. وقالت طهران أن المجلس اتخذ هذه الخطوة بعد أن طلبت منه بغداد القيام بذلك. كل هذا النشاط ليس من المستغرب؛ ففي منطقة تعاني من الصراع والإرهاب، قد يكون الاستفتاء الكردي أكبر من مجرد تحد لإيران والآن وبعد أن صوت الأكراد لصالح الاستقلال رغم المعارضة الإقليمية والدولية، سيبدأون ما سيصبح على الأرجح عملية تفاوض طويلة ومتعددة المراحل لتحقيق الانفصال.

 

لدى إيران علاقة طويلة الأمد مع الأكراد العراقيين. وقد شهد الدعم الإيراني للأكراد مزيدا من الاهتمام منذ عام 2014، عندما أيدت إيران بعض الجهود الكردية ضد الدولة الإسلامية، ولكن العلاقات تعود إلى عقود. حتى قبل الثورة الإسلامية عام 1979، قدم الشاه الدعم للأكراد في العراق. في تلك السنوات، أيدت إيران، التي انضمت إليها (إسرائيل) والولايات المتحدة، تمردا كرديا في العراق. في ذلك الوقت، كان دعم طهران للأكراد يخدم غرضين رئيسيين. أولا، الانسجام مع مخاوف الولايات المتحدة من انتشار الشيوعية في الشرق الأوسط، في ظل دعم الاتحاد السوفيتي للحكومة في بغداد. ثانيا، أراد الشاه التحقق من إضعاف العراق.

 

أدى النزاع في نهاية المطاف إلى الحرب الإيرانية العراقية في 22 سبتمبر / أيلول 1980. وخلال تلك الحرب، واستهدف نظام «صدام حسين» الأكراد بالأسلحة الكيميائية. بعد عقود من الزمن، وجدت إيران والأكراد أنفسهم مرة أخرى على نفس الجانب من المعركة: هذه المرة ضد تنظيم الدولة، حيث قاتلت البيشمركة الكردية جنبا إلى جنب مع نخبة قوات القدس، فيلق الحرس الثوري الإسلامي، والميليشيات الشيعية العراقية المدعومة من إيران.

 

ولكن إذا كانت التهديدات والمصالح المشتركة جعلت إيران والأكراد العراقيين معا لعقود من الزمن، فقد جعلت العلاقة مع الأكراد الإيرانيين أنفسهم أكثر تعقيدا. ويتركز سكان إيران الأكراد البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة تقريبا في المناطق الشمالية الغربية والغربية من البلاد، ويشملون عددا كبيرا من السنة. ولا تزال المناطق التي يسكنها الأكراد من أكثر المناطق تخلفا في البلد؛ فقد فشلت الحكومة باستمرار في الاستثمار هناك، ولم يأتي الاستثمار الخاص أيضا. ليس من المستغرب إذن أنه حتى مع قتال البيشمركة لتنظيم الدولة في العراق، فقد انضم بعض الأكراد الإيرانيين إلى التنظيم. وهذا لم يغب عن التنظيم الذي استهدف السكان الأكراد في إيران للتجنيد. وكان مسلحو تنظيم الدولة الذين قاموا بهجمات يونيو / حزيران 2017 في طهران من الأكراد الإيرانيين.

 

على الرغم من كل هذا، مثل الكثير من الأقليات الإثنية والدينية واللغوية الأخرى التي طالما ربطت بقايا الإمبراطورية الفارسية، فإن الإيرانيين ينظرون إلى الأكراد كجزء طبيعي من تكوين بلادهم. لكن الاستفتاء الكردي يعقد الأمور. وبدلا من اعتباره حدثا واحدا، فإن طهران تنظر إليه على أنه يفتح الباب أمام جهد أشمل لشق الطريق نحو الأراضي الكردية في إيران وسوريا وتركيا من أجل إنشاء بلد جديد في المنطقة. وهذه الفكرة ليست بعيدة. إن النقاد والسياسيين في المنطقة وفي الخارج كانوا يفكرون منذ وقت طويل في القيام بذلك كحل لما يعتبرونه جوهر انعدام الأمن في الشرق الأوسط: وهي حدود المنطقة، التي رسمتها القوى الاستعمارية في الغالب. وبالنسبة لإيران، وهي بلد شهد أراضيه التاريخية تقلبا لعدة قرون، فإن كردستان ليست مجرد خطرمحتمل، بل إنها تهديد وجودي.

 

تهديد قديم

هذا التهديد تعرضت له إيران من قبل. في عام 1946، أسس الأكراد الإيرانيون والعراقيون دولة مستقلة قصيرة الأجل تعرف باسم جمهورية مهاباد. تأسست جمهورية مهاباد في إيران وشملت الأكراد العراقيين، ولا سيما أبرز زعيم كردي في التاريخ المعاصر، «مصطفى برزاني». كانت الجمهورية مدعومة من الاتحاد السوفيتي، لكنها انهارت في أقل من عام. وقد استمر بارزاني والشاه في إقامة علاقة مضطربة، واستمرت الشراكة المرتابة حتى يومنا هذا، ففي الفترة التي سبقت الاستفتاء الكردستاني، التقى قائد قوة القدس الإيرانية « قاسم سليماني» مع «مسعود بارزاني»، نجل مصطفى برزاني، رئيس إقليم كردستان، ومهندس الاستفتاء، حتى مع تزايد الضغوط الإيرانية على الأكراد.

 

وإذا نجح الأكراد العراقيون في خلق وإدامة دولة، فإن إيران سوف تتأثر بالتأكيد. أولا، إن نجاح حركة الاستقلال في العراق من شأنه أن ينشط الجهود الكردية المماثلة في إيران. وهذا بدوره يمكن أن يقود أقليات أخرى إلى الدفع نحو الاستقلال. ثانيا، كانت المنطقة الكردية المشتركة بين إيران والعراق منذ فترة طويلة منطقة سهلة للعبور يقدرها المهربون والمنشقون على حد سواء. في الواقع، في ذروة العقوبات الدولية ضد إيران، كانت مدينة مهاباد مركزا للشركات التي جلبت البضائع من كردستان العراق إلى المنطقة الكردية الإيرانية قبل إرسالها إلى أجزاء أخرى من البلاد. ثالثا، يعرف الأكراد في الولايات المتحدة كقوى اعتدال، وقد كانوا عادة إلى جانب الولايات المتحدة في العديد من المعارك ضد «صدام» ثم تنظيم الدولة، ولكنهم لديهم مجموعات مشكوك فيها داخل صفوفهم. وتعتبر المناطق الكردية في إيران موطنا لعدد من الجماعات السلفية، بما في ذلك بعض الجماعات التي لها صلات بتنظيم القاعدة. وأدت جهود التجنيد التي قام بها تنظيم الدولة في المنطقة إلى إضافة الوقود إلى الحريق، ويمكن أن يؤدي الاستفتاء إلى تمكين هذه الجماعات.

 

آثار على العلاقات

ويمكن أن يكون للاستفتاء أيضا آثار على العلاقات الإيرانية مع بقية المنطقة. في الواقع، قد يكون التطور الأول في وقت طويل لجلب اللاعبين الرئيسيين معا. ويؤكد «بارزاني» وغيره من القادة الأكراد أن هدف الاستفتاء ليس البدء في إعادة رسم الحدود الآن. بل بدء المفاوضات بين الأكراد وبغداد. ولكن بالنسبة لإيران (ودول أخرى في المنطقة)، فإن الاستفتاء سيفتح آفاقا جديدة و سيكون من الصعب وقفها ونتيجة لذلك، تعهدت ايران وتركيا بالفعل باتخاذ اجراءات لعرقلة الجهود الكردية من أجل الاستقلال.

 

وفي هذا الصدد، فإنهم سيتعاونون مع العراق، أحد الشركاء الاستراتيجيين الرئيسيين لإيران في المنطقة. وفي الواقع، من المرجح أن يعزز الاستفتاء العلاقات بين إيران والعراق. من جانبها، فإن المملكة العربية السعودية التي تختلف مع إيران في معظم المسارح في المنطقة، من أفغانستان إلى سوريا إلى اليمن انضمت إلى جوقة القادة الإقليميين الذين دعوا الأكراد إلى تأجيل الاستفتاء. كما ذكرت الولايات المتحدة أنها قد تحد من دعمها ومساعدتها للأكراد إذا ما مضوا قدما في الاستقلال. واليوم، لا تزال الولايات المتحدة تحافظ على موقفها الرسمي بأن وحدة أراضي العراق هي من أولوياتها العليا. وهذا يترك لاعب إقليمي رئيسي وهو (إسرائيل) كداعم وحيد. وربما كان رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو»، هو الزعيم الوحيد في المنطقة الذي دعم إنشاء دولة كردية يعتبرها حصنا محتملا ضد التوسع والعدوان الإيراني.

 

وبعيدا عن الإجابة النهائية على المسألة الكردية، فإن الاستفتاء هو مجرد بداية لعملية طويلة. وسوف تتكشف هذه العملية حيث أن اللاعبين الرئيسيين في المنطقة يستعدون لوقف الاستقلال الكردي. وقد ذكر الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» بالفعل أن القوات المسلحة لبلاده مستعدة على الحدود. من جانبها، عززت إيران وجودها على الحدود ونشرت الحرس والجيش التقليدي فضلا عن مجموعة كاملة من أنظمة الأسلحة، بما في ذلك الصواريخ والطائرات بدون طيار. وقد حاولت أيضا العمل عبر بعض القنوات الدبلوماسية الخلفية. في الواقع، قد تواجه إيران أكبر تحد إقليمي لها منذ الحرب الإيرانية العراقية، وهو تطور تعتقد إيران أنه لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشهد الأمني المتردي أصلا في المنطقة.

 

فورين أفيرز

 

 

 

الورقة الكردية في حسابات موسكو الإستراتيجية/ سامر إلياس

وحدة العراق وتطلعات الأكراد

وجود إستراتيجي طويل المدى

هندسة روسية جديدة للمنطقة

 

غرّدت روسيا خارج سرب النداءات الإقليمية والدولية المحذرة لإقليم كردستان العراق من تبعات الاستفتاء والمطالِبة بتأجيله أو إلغائه. وشكّل الموقف الروسي استثناء واضحا في ثباته خلال ما قبل وبعد الاستفتاء.

 

وبنت روسيا مواقفها من الاستفتاء الكردي بعناية فائقة انطلاقا من رغبتها في تعزيز وجودها المتعاظم في المنطقة، وتمكين وضعها في سوريا والمحافظة على التوازنات الدقيقة التي وطدت وضعها كقوة أمر واقع، يجب أن يؤخذ برأيها ومصالحها بعد نحو سنتين على بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا بشكل مباشر.

 

ويجب عدم إغفال عامل مهم هو أن روسيا لا تستطيع رفض تنظيم استفتاء حول انفصال كردستان العراق، وهي التي بادرت في ربيع 2014 إلى تنظيم استفتاء لضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية إلى روسيا.

 

وحدة العراق وتطلعات الأكراد

دأبت موسكو قبل الاستفتاء على التشديد على ضرورة مراعاة وحدة الأراضي العراقية، مع الأخذ بعين الاعتبار طموحات الأكراد القومية. وبعد الاستفتاء، صاغت موسكو موقفها بالتأكيد على تجنب كل ما يمكن أن يعقّد ويزعزع استقرار منطقة الشرق الأوسط.

 

ومع دعمها سلامة ووحدة أراضي العراق، قالت موسكو -في المقابل- إنها تحترم الطموحات القومية الكردية، وتدعو لحل نقاط الخلاف عبر الحوار. واللافت أن بيان الخارجية الروسية -الذي تضمن ذلك الموقف- فرّق بوضوح بين المناطق الواقعة إداريا ضمن الحكم الذاتي في الإقليم، ومناطق تسيطر عليها التشكيلات العسكرية الكردية في محافظات نينوى والتأميم وديالى.

 

وتواصل موسكو الدعوة إلى حل كل المسائل المختلف عليها بين السلطات الفدرالية وقيادة منطقة الحكم الذاتي الكردية، عبر حوار بنّاء واحترام متبادل يقود إلى وضع معادلة مقبولة من الطرفين للتعايش في إطار دولة عراقية موحدة.

 

وتنظر روسيا إلى إقليم كردستان العراق كشريك مهم في محاربة الإرهاب، ودعمت -عبر الحكومة المركزية في بغداد- الإقليم بعتاد عسكري قيمته مئات ملايين الدولارات.

 

ورغم الحذر الشديد الذي تتسم به السياسة الروسية؛ فقد بدأت تنسج علاقات سياسية مع الإقليم وصلت إلى حد عقد لقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس حكومة وزراء كردستان العراق نيجيرفان البارزاني، على هامش منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي بداية الصيف الحالي.

 

واقتصاديا تطمح الشركات الروسية إلى ولوج قطاع الطاقة بالإقليم الذي يمتلك احتياطيات قابلة للاستخراج تقدر بنحو 45 مليار برميل من النفط و5.66 تريليونات متر مكعب من الغاز.

 

وقد بدأت “غازبروم نفت” العمل بالإقليم منذ 2012 في عدة حقول نفطية، ووطدت “روس نفت” -وهي الذراع القوية للكرملين- علاقاتها مع الإقليم، ووقعت اتفاقات كثيرة لإقراض شركات الطاقة فيه مليارات الدولارات مقابل شراء النفط.

 

كما رفعت هذه الشركة استثماراتها هناك إلى ما يزيد على أربعة مليارات دولار، كان آخرها الاتفاق على بناء وتشغيل خط لتصدير الغاز الطبيعي من الإقليم عبر تركيا بطاقة تصل إلى 30 مليار متر مكعب سنويا، واللافت أن الإعلان عن الاتفاق الأخير جاء قبل أيام من تنظيم الاستفتاء على انفصال الإقليم عن العراق.

 

ولم يُثر عمل الشركات الروسية حفيظة الحكومة المركزية في بغداد، وفي الوقت ذاته تعمل “لوك أويل” في “حقل غرب القرنة 2” النفطي العملاق، وتنشط “غازبروم” في حقل بدرة. ويرتبط العراق بعقود تسليح بمليارات الدولارات للحصول على مقاتلات ومدرعات روسية.

 

وتسعى موسكو للحفاظ على علاقات في مجال الطاقة مع الطرفين، حتى تكون شريكا في أي مشروعات لنقل الغاز والنفط إلى أوروبا من العراق وإيران، سواء عبر سوريا أو تركيا.

وجود إستراتيجي طويل المدى

وتكشف ردود أفعال بغداد وطهران وأنقرة أنها ليست غاضبة من الموقف الروسي، فيما يصفه الأكراد بـ”الموقف المشرف جدا”. ويبدو أن موسكو وجدت موطئ قدم لها في كردستان العراق ينافس الوجود الأميركي المتزايد هناك منذ حرب تحرير الكويت 1991، ولاحقا الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين في غزو العراق عام 2003.

 

ويواصل الكرملين نسج شبكة علاقات مع جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة، رغم تشعب الخلافات وتعقيداتها بين مصالح إيران وتركيا وبغداد وأربيل. وتبني موسكو علاقاتها بالاستفادة من تخبط سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ 25 عاما، وانسحابها التدريجي من المنطقة في عهد الرئيس السابق باراك أوبامابعد فشل مشروعات الشرق الأوسط الكبير أو الواسع.

 

ورغم عدم قدرتها عسكريا واقتصاديا على منافسة واشنطن؛ فإن روسيا تستغل الظروف الإقليمية من أجل التأسيس لوجود إستراتيجي طويل الأمد في المنطقة، تكون قاعدته الرئيسية سوريا بعدما أفلحت في جمع إيران وتركيا ضمن مسار أستانا، واستغلت الأزمة بين قطر والبلدان الأربعة (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) لتعزيز مكاسبها على الأرض ودعم نظام بشار الأسد.

 

وواضح أن روسيا تتعامل مع القضية الكردية كورقة إضافية لتعزيز مكاسبها في سوريا، والحصول على تنازلات من طهران وأنقرة، انطلاقا من تحليل دقيق لردود الأفعال الإقليمية والدولية التي تترتب على الاستفتاء في كردستان العراق.

 

وتنطلق السياسة الروسية من أن الاستفتاء على الانفصال ليس ملزما، وأن هناك فرقا بين نتائج الاستفتاء وتنفيذه على الأرض. وتسود قناعة في موسكو بأن رئيس الإقليم مسعود البارزاني سيستخدم نتائج الاستفتاء ورقة ضاغطة لتحسين الوضع التفاوضي مع بغداد فيما يخص المناطق المتنازع عليها، وحصة الإقليم من الموازنة.

 

وبالنظر إلى المواقف الروسية المعلنة؛ فإن موسكو يمكن أن تلعب دور الوسيط في حوار لحل الأزمة بين أربيل وبغداد، خاصة في ظل القبول الكردي، والتأثير الإيراني على صناعة القرار العراقي، وفقدان مصداقية واشنطن لدى الطرفين وداعميهما.

 

ومن جهة أخرى؛ تعتقد موسكو أن هناك أصواتا متزايدة داخل العراق وخارجه بدأت تتقبل قيام دولة كردية، وأن الدولة قادمة لا محالة لكن الخلاف حول التوقيت وحدود هذه الدولة، ولهذا كان الحرص دائما في البيانات الروسية على تأكيد ضرورة التفاهم مع بغداد حول المناطق المتنازع عليها.

 

وأخيرا؛ تدرك موسكو أن الاستفتاء يمكن أن يحافظ على وحدة الأراضي العراقية عبر توسيع صلاحيات الحكم الفدرالي الحالي للإقليم، أو حتى بناء حكم كونفدرالي يمنع تفتت العراق ويجنب الأكراد نقمة بغداد والجيران.

 

وفيما يخص المواقف الإقليمية؛ تعلم موسكو حساسية كل من تركيا وإيران من قيام دولة كردية في شمال العراق، لكنها تقلل من خطر اجتياح جيوش البلدين للإقليم، وتأخذ في الاعتبار حجم العلاقات الاقتصادية والتجارية التي تربط كلا من أنقرة وطهران بإقليم كردستان العراق.

هندسة روسية جديدة للمنطقة

في مقابل دعم تطلعات الأكراد القومية في العراق؛ فإن موسكو ترسل إشارات بالنار إلى “قوات سوريا الديمقراطية” لوقف تقدمها في دير الزور، وتمكين الجيش السوري وداعميه من تحقيق نصر مهم في المحافظة يوازي النصر الذي حققوه في الرقة، مما سيؤدي إلى قطع الطريق على مساعي أكراد سوريا لإيجاد تواصل جغرافي مع العراق، ومنح هذه الفرصة للجانب الإيراني تعويضا عن سحب المليشيات الإيرانية واللبنانية من جنوب سوريا بضغط من تل أبيب.

 

وتجنبا لاعتراض تركيا؛ فإن موسكو تنسق مع القوات التركية لحسم الأمور في إدلب، وتمكين أنقرة من التوغل في قاطع عسكري يتجاوز مئة كيلومتر وبعمق يصل حتى 40 كيلومترا، رغم اعتراض الحكومة السورية. وإذا تمكنت تركيا من السيطرة على هذه المناطق في إدلب فإنها ستضمن محاصرة عفرين ذات الأغلبية الكردية من الغرب والشرق، مانعةً أي تواصل من جهة البحر أو الشرق مع المناطق ذات الأغلبية السكانية الكردية في شمال سوريا.

 

ومنعا لتعطيل الخطة؛ تدرس موسكو إقامة منطقة لخفض التصعيد في عفرين لمنع الاحتكاك مع الأتراك، وعدم تعطيل مشروعها للحل السياسي بعد القضاء على خطر تنظيم الدولة الإسلامية الذي بات وشيكا في العراق وسوريا.

 

ومن المهم التأكيد على أن موسكو ترى في أي أزمة تنشب بالمنطقة فرصة لزيادة نفوذها على حدودها الجنوبية، ومزاحمة واشنطن. ومن المؤكد أن موسكو لا ترغب في نشوب حرب واسعة تعطل مشروعاتها في المنطقة، لكنها تدعم المحافظة على بؤر توتر يمكن احتواؤها والاستفادة منها في التعامل مع القوى الإقليمية.

 

ويمنح موقف روسيا الحذر والمدروس بعناية فائقة من استفتاء كردستان العراق فرصةً لبناء هندسة إقليمية تضمن بقاءها طويلا في المنطقة، ولعب دور الحكم والوسيط في النزاعات ما بعد دحر تنظيم الدولة الإسلامية.

 

ولعل الأهم هو أنها باتت قادرة على توسيع فكرة “سوريا المفيدة”، لتضمن بذلك هيمنتها على أهم مناطق سوريا الاقتصادية في الجزيرة الغنية زراعيا وبمواردها من النفط والغاز، وضمان بناء أو تعطيل أي خطوط لإمدادات الطاقة إلى أوروبا من إيران والشرق الأوسط، بعدما أفلحت في الهيمنة على خطوط النقل القادمة إليها من بحر قزوين وآسيا الوسطى.

 

ونظريا؛ تلعب موسكو بمهارة وصبر لاعب الشطرنج في رقعة الشرق الأوسط المليئة بالصراعات والتناقضات، وتحقق نقاطا إضافية بالاستفادة من العملية العسكرية في سوريا والانفتاح على جميع القوى المؤثرة، لكن المنطقة ما زالت عمليا تقف على برميل بارود يمكن أن ينفجر ويطيح بمخططات الكرملين في بناء نظام عالمي جديد، تلعب فيه روسيا دورا مركزيا بعد نحو ربع قرن من التهميش.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى