برهان غليونصفحات سورية

ماذا بعد الخطاب الثالث؟

 


د. برهان غليون

بعد صمت دام شهرين كاملين، تحدث الأسد للمرة الثالثة، وكعادته لم يتوجه إلى الشعب حتى لا يشك أحد بأنه قرر الاعتراف بوجوده السياسي وحقه في المراقبة والمحاسبة، بل إلى الخاصة من المؤيدين، بعد توسيعها لتتجاوز هذه المرة أعضاء البرلمان أو أعضاء الحكومة وتضم عناصر جديدة من الحزب والدولة. ولم يكن الهدف من الخطاب تخفيف الضغوط الأجنبية المتزايدة بسبب استمرار عمليات القتل والتنكيل بالأبرياء والمتظاهرين السلميين العزل فحسب، وإنما -قبل ذلك- إعطاء أمل لقاعدة النظام الاجتماعية، وللفئة التي لا تزال صامتة وتنتظر جلاء الوضع حتى تتخذ موقفها. وكان النظام يراهن من أجل ذلك على قدرة الخطاب المليء بالوعود على أن يثير رضى قطاعات من الرأي العام، وأن يؤدي إلى الانقسام والبلبلة (ولو لدرجة قليلة) في أوساط الشعب وحركته الاحتجاجية.

ولا يخفى على أحد أن الجزء السياسي الأهم في الصراع القائم اليوم يدور على كسب هذه الشريحة المهمة من المجتمع، والتي سيكون موقفها حاسماً في الشهر القادم. ويتوقف هذا الموقف على تقديرها للوضع. فإذا شعرت أن النظام لا يزال لديه القدرة على السيطرة على الأوضاع، ستميل إلى مسايرته ثم الالتحاق به، سواء أثبت قدرته هذه عن طريق الانتصار العسكري أو القيام بالإصلاحات التي ترضي قسماً كبيراً من الرأي العام. وبالعكس، سوف تلقي بثقلها لصالح التغيير إذا أدركت أن النظام زائل لا محالة، ولا فائدة من التمسك به أو المراهنة عليه.

ومن الواضح أن خطاب الأسد لم يقنع هذه الفئة الاجتماعية المهمة والصامتة حتى الآن بالانضمام لمعسكره. وربما خلق عندها شعوراً متزايداً بعجز النظام عن استعادة المبادرة السياسية، وعدم قدرته على تجاوز أسلوب الوعود المعروف لكسب الوقت، وتجاهله كلياً مسألة الاستخدام المستمر للعنف ضد السكان العزل، ووقف الحرب المعلنة على الشعب، وعدم التطرق إلى وضعه هو كرئيس أبدي، والتلميح على الأقل بأنه لن يستمر في المنصب الذي يحتله إلى الأبد!

كل ذلك عزز الشعور بأن الرئيس لا يملك حلا للأزمة، وبأن ما ستشهده البلاد في الأشهر القادمة لن يختلف كثيراً عما شهدته في الأشهر الماضية، حتى لو تخللت ذلك قرارات وإصلاحات شكلية، والتصويت على قوانين جديدة لا قيمة لها طالما بقيت السلطة الحقيقية مركزة في يد أجهزة الأمن التي تعطل عمل الدستور والقانون منذ عقود، ومادامت سلطة الأمن وسلطة الرئيس المطلقة لا تخضع لرقابة أو محاسبة؛ لا شعبية ولا برلمانية ولا حتى حزبية.

ولامتصاص المفعول السلبي لخطاب الرئيس في الداخل والخارج، كلف وزير الخارجية، بوصفه شخصية تكنوقراطية، بعقد المؤتمر الصحفي الذي أريد له أن يشرح بطريقة أكثر إقناعاً، خطط النظام الإصلاحية، وأن يطمئن السوريين المترددين في أن المخرج من الأزمة لا يزال في يد النظام، وأن السلطة لا تزال تملك المبادرة. وقد حاول “المعلم” أن يؤكد من جهة على أن النظام لديه القدرة على البقاء، وهو ما دفعه إلى استعراض أسماء الدول والمنظمات التي تدعمه واحدة واحدة، من روسيا إلى الصين إلى الهند إلى البرازيل، بعد أن اعلن عن دعم إيران و”حزب الله” له! ومن جهة ثانية حاول أيضاً إقناع الرأي العام السوري بأن الإصلاح قادم بالتأكيد، وكاد يقول حرفياً: جربونا وستجدون أن لدينا ما يسركم، من دون أن يقدم ولو حجة واحدة على جدية التغيير الذي يتحدث عنه النظام والذي يريد له أن يكون تحت سيطرته الكاملة.

لكن لسوء حظ النظام، لم تكن آثار المؤتمر الصحفي لـ”المعلم” أفضل بكثير من آثار الخطاب الرئاسي، وربما فاقم الآثار السلبية بدل أن يحجِّمها. فليس من المطمئن لطبقة رجال الأعمال والأوساط الاقتصادية أن النظام يفكر بمنطق محو الغرب من الخريطة، وهو مثال على التطرف واللاعقلانية وعدم الواقعية. ولا من المتصور أن يردد وزير خارجية دولة تعيش أزمة كبيرة أن “القافلة تسير والكلاب تعوي”! والمعلم نفسه لم يعود الرأي العام على مثل هذه المبالغات المثيرة التي هي من مصطلحات منطق الحرب. كان من الواضح إذن أن هناك مشكلة، وأن أصحاب النظام بدؤوا يفقدون أعصابهم، وأنهم غير مقتنعين بما يريدون أن يقنعوا به الرأي العام السوري والعالم.

إن فشل النظام في إقناع الرأي العام بمشروع الانفتاح السياسي الجديد الذي لوح به، بعد وصول حملته القمعية المنظمة إلى طريق مسدود، جاء ليفاقم من أزمة السلطة وضياعها. وعلى صعيد العمل الميداني، سوف ينعكس هذا الإخفاق في إقناع الرأي العام السوري، خاصة الفئة المترددة، بأن لديه مخرجاً للأزمة، في تطور متزايد لحركة الاحتجاج. وهو يفتح الطريق لانضواء فئات جديدة تحت لواء التغيير، بعد فقدانها الثقة بمقدرة النظام على معالجة الأزمة، أو ربما برغبته في تقديم التنازلات اللازمة للخروج منها.

وهذا ما يرتب على قادة الحركة الاحتجاجية وقادة المعارضة الديمقراطية مهام جديدة، تتلخص في ربط الخيوط مع هذه الشرائح السورية التي ستتطلع أكثر فأكثر نحوها بوصفها الوحيدة التي تملك المفتاح لحل الأزمة وحسم الصراع القائم. وتعني هذه المهام أولاً بلورة خطاب يتجاوب مع حاجات هذه الشريحة ومصالحها. كما تعني ضرورة ارتفاع قادة المعارضة والاحتجاج إلى مستوى المسؤولية فيما يتعلق برسم تصور واضح للمستقبل وتقديم خطة طريق للانتقال نحو الديمقراطية من دون زعزعة أسس الاستقرار الكلي وتدمير النظام العام أو المساس بسلامة الدولة ووحدة الشعب.

المهم أن شرائح الرأي العام السوري التي كانت لا تزال تتردد حتى الآن في الانخراط في فعاليات التغيير، رغم إيمانها بشرعية التحول الديمقراطي وحتميته، أصبحت الآن مستعدة للتفاعل مع الثورة، وعلى المعارضة أن تحول هذا التفاعل إلى مراهنة فعلية على التغيير، وانخراط جدي وعملي في المسيرات السلمية الاحتجاجية. ومن أجل النجاح في ذلك ينبغي العمل على محورين: أولا تأكيد الاتساق والانسجام داخل الصفوف، وثانياً إبراز شخصيات سياسية من الشباب ومن المعارضة الحزبية، متناغمة ومستقرة ومطمئنة، مرتبطة بالتغيير وبقواه الفاعلة وعلى معرفة بخطط عملها وبرامجها واستراتيجياتها وتكتيكاتها.

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى