صفحات العالم

ماذا بعد سقوط العسكر وسقوط الإسلاميّين؟/ حازم صاغية

إمّا العسكر أو الإسلاميّون. هذه المعادلة التي باتت معروفة جدّاً هي التي طوّرها عدد من المؤرّخين والمستشرقين بعد استلهامهم التاريخ المصريّ الحديث خصوصاً، وتجربة العالم الإسلاميّ في القرن العشرين في صورة عامّة.

إلاّ أنّ المنطقة اليوم، ولا سيّما منها البلدان التي شهدت ثورات “الربيع العربيّ”، تجد نفسها وجهاً لوجه وهي تختبر هذه المعادلة. فقبل ثلاث سنوات ونيّف، بدأت أكثريّات شعبيّة وازنة تنتفض في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريّا ضدّ أنظمة أمنيّة – عسكريّة. ذاك أنّ هذه الأخيرة، وهي كلّها جمهوريّة إسماً، لم تكتف بمبدأ التوريث، المعلن أو الضمنيّ، المباشر أو المؤجّل، بل تعاملت مع شعوبها كلّها بوصفها مملوكة وبالتالي مُورّثة.

كذلك كان المشترك بين الأنظمة المذكورة، وإن على نحو متفاوت في القمع بين بلد وآخر، فشلها المطنطن في مسائل التنمية، وما يتّصل بها من تعليم وإعداد للطاقة البشريّة، ناهيك عن تخريجها أجيالاً من المكبوتين والمقموعين في زمن يشهد انتشار قيم الحرّيّة والديمقراطيّة كما يُسجَّل للفرد وإبداعه ومبادرته مساحات أوسع. وفضلاً عن ذلك، كانت المواجهات العسكريّة التي خيضت وتخاض، وغالباً ما تخاض بسبب افتعال تلك الأنظمة لقضايا تبرّر لها تسلّطها وتحوّل الأنظار عنه، تأتي بنتائج هزيلة إن لم يكن مدمّرة على البلد بأجمعه. يصحّ هذا في مروحة عريضة من الأحداث الكبرى، كالحرب الليبيّة في التشاد أو الحروب السوريّة – الإسرائيليّة المباشرة منها والمداورة عبر “الساحة اللبنانيّة”.

بكلمات أخرى، تبيّن عقداً بعد عقد أنّ تلك الأنظمة العسكريّة – الأمنيّة إنّما فقدت قدرتها على الاستمرار مثلما فقدت شعوبها كلّ قدرة على ممارسة التحمّل والصبر حيالها. فإذا صحّ أنّ الحقبة الناصريّة (1952 – 1970)، وهي التي أسّست لهذا النمط من الأنظمة، كانت حقبة تصعيد الأوهام وتعميمها، فإنّ الأنظمة المذكورة إنّما مثّلت الاصطدام بتلك الأوهام في صورتها العارية، ومن ثمّ الإحباط العميق بها وبما آلت إليه من نتائج مُرّة.

في هذه الغضون كان يتراءى أنّ تيّار الإسلام السياسيّ هو الذي يحمل البديل الجاهز عن الأنظمة تلك. فهو يقف في طليعة القوى التي عانت من بطشها، واستحقّت للسبب هذا تعاطف قطاعات عريضة من السكّان في البلدان المعنيّة. وهو أيضاً الطرف الذي يمثّل النقيض الجذريّ لها، إن لم يكن في التصوّر الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ففي أساس مبدأ الشرعيّة السياسيّة، أو الحاكميّة بحسب القاموس الإسلامويّ. وهذا فضلاً عن أنّ صلة تلك التيّارات بالإسلام إنّما يُكسبها شرعيّة المقدّس عند كثيرين لا زالوا يرون في القداسة شرطاً شارطاً للسياسة.

لكنْ لا. فما إن صعدت قوى الإسلام السياسيّ إلى سطح الحياة السياسيّة المعلن حتّى ظهر جليّاً افتقارها إلى كلّ برنامج للمستقبل، وعجزها عن الاندراج في أيّ تصوّر حديث ومعاصر للسياسة وإدارة الدول وحدود التفويض الديمقراطيّ، ناهيك عن فهمها البالغ البدائيّة للعلاقات الدوليّة المعاصرة. وهذا ما فاقم الشكوك في ما يتّصل بمدى جدّيّة احترامها للّعبة السياسيّة وتداول السلطة تبعاً لما تريده الإرادة الشعبيّة. أمّا الجماعات الإسلاميّة الأكثر نضاليّة وتطرّفاً، وعلى ما نشهد اليوم في سوريّا وفي ليبيا، فينتهي بها الأمر أداة ردع للحرّيّة والتعدّد والحقّ في الخيار. وهذا ما يرشّحها لواحد من احتمالين، أو للاحتمالين معاً: إمّا أن تكرّر، في زيّ دينيّ، تجربة الاستبداد العسكريّ والأمنيّ للأنظمة المتساقطة، وإمّا أن تستكمل شروط الاحتراب الأهليّ الذي يطيح بما تبقّى من علامات تعايش المجتمعات، إن لم يكن بوجود هذه المجتمعات ذاتها.

لقد دار الزمن دورته ليُسقط هذين الخيارين: الإسلاميّة الدينيّة والتسلّطيّة العسكريّة – الأمنيّة. لكنْ ماذا بعد هذا الاكتشاف الكبير، وما البدائل التي يحبل بها بطن هذه المنطقة التعيسة التي هي منطقتنا؟

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى