صفحات الرأي

ماذا تعني سوريا بالنسبة للـ «جهاديات» السنية؟/ عبد الفتاح نعوم

 

 

الآن وبعد مرور زهاء السنوات الست على بداية الأزمة السورية، قد يكون من المفيد إعادة فتح باب التأمل في الدوافع الفكرية التي جعلت هذا الكم الهائل من المقاتلين المتطرفين يتدفقون نحو سوريا. فمثلاً استعاد الداعية المعروف محمد حسان، منذ بداية الأزمة، إحدى مواد حلقاته التي كان يقدّمها في «قناة الناس» بعنوان «أحداث النهاية»، وكانت تلك الحلقة تتناول موضوعاً في غاية الحساسية والإثارة بالنسبة لبعض التيارات السلفية الوهابية، والذي لم يكن سوى موضوع المعركة التي ستدور في «آخر الزمان» على أرض سوريا، والتي لا بد من «الإقبال عليها» إعمالاً لـ «مشيئة الله» كما يتصورها العقل السلفي الوهابي، انطلاقاً من نصوص تراثية لا تسلم من الانتقائية في الاعتداد والتأويل.

تتمحور تلك الحلقة، كما هو شأن إطلالات الكثير من شيوخ الوهابية كالعريفي وغيره، على سرد بعض الأحاديث النبوية التي تتحدّث عن «الشام» باعتبارها مسرح حروب آخر الزمان، منها الحديث المرويّ في صحيح مسلم: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق…» في إشارة إلى مروج دابق الموجودة قرب حلب شمال سوريا. والحديث المروي في سنن أبي داوود: «فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يُقال لها دمشق من خير مدائن الشام»، وغيرها من الأحاديث التي تتحدّث عن معركة يتّحد فيها المسلمون مجدداً بـ «الروم»، وهؤلاء في عرف تلك السلفيات ليسوا سوى أسلاف «الناتو».

في حقيقة الأمر لا يُجمع الوهابيون على السردية نفسها حينما يتصل الأمر بإسقاط هذه المرويات على سوريا، فمنهم من يستدعي أحاديث أخرى كحديث «عمران بيت المقدس خراب يثرب»، للتدليل على أن الوقت لم يحن بعد للإقرار بوقت «الملحمة الكبرى» التي تكاد جميع العقائد أن تكون متوفرة على صيغة معينة حولها، وربما لهذا التيار أسبابه الخاصة لتفــضيل هذا المسار في فهم التوفيق بين أحاديث «الملحــــمة» وبين الحدث السوري الراهن، لا سيما أن بعض رموزه قريبـــون من المؤســـــسة الدينية الرسمــــية في المملكة العربية السعودية، ولا يخدمهم مطــــلقاً التناغم مع التيار الداعي إلى تحشيد المقاتلين نحو سـوريا.

يعود أصل هذه السردية إلى ما انطبعت به علاقة المسلمين مع الروم منذ البدايات الأولى للدعوة الإسلامية، فسورة «الروم» في القرن الكريم تبدأ بالحديث عن هزيمة للروم بقيادة هرقل أمام جيوش الفرس بقيادة سابور. على أن السورة تَعِد بأن الروم سيعودون إلى الانتصار في معركة أخرى في زمن غير بعيد، وربطت نصر الروم بمناصرة المسلمين لهم، لأنهم كانوا يوالونهم حينئذ باعتبارهم أهل كتاب، في حين كان خصوم الحركة الإسلامية الوليدة يناصرون الفرس. وهكذا يجادل الشيوخ المدافعون عن السردية المذكورة بأن التحالف القديم بين المسلمين والروم سيعود كما بدأ، والأحلاف والتكتلات الماضية نفسها سيُعاد تشكيلها، مسوّغين لذلك بأن الفرس كما كانوا أعداء في الماضي باعتبار العقيدة الزرادشتية أو المجوسية بالتعبير القرآني، فإنهم أعداء اليوم باعتبار المذهب الشيعي الذي تراه الوهابية «كفراً ومعاداة للإسلام».

طبعاً هناك الكثير من المرويات النبوية حول اقتتال المسلمين مع بعضهم البعض، وحول اقتتال المسلمين مع اليهود، واقتتال المسلمين مع الروم. لكن كل تيار يولف بينها ليستخرج تسلسلاً زمنياً يتماشى مع خلفياته، ويهرع إلى إيجاد توافقات بين عناصر معينة من تلك المرويات وبين أحداث جارية راهناً. فاعتبار المعركة في سوريا من بشائر ما تحدّثت عنه النبوءات، وتسخير وسائل الإعلام كقناة «وصال» وقناة «الناس» وغيرهما لتحشيد المقاتلين نحو سوريا، والمضي قدماً في ذلك إلى حد دعوة «الناتو» من على المنابر لإعلان التدخل العسكري المباشر في سوريا، كل ذلك يظهر نوعية الفهم الذي يرتكن إليه على حد سواء من يحملون السلاح تحت اسم «النصرة» و «داعش» وغيرهما، والشيوخ الوهابيون المدافعون عن المنهج العقدي والبرنامج السياسي والعسكري لهذه التنظيمات.

يجتهد كثيراً أنصار هذا الاتجاه في التعاطي مع الحدث السوري لكي يظهروا أن التحالف مع «الناتو» ومشاريعه، ليس بعيداً عن السلوك النبوي، ولا عن المنطوق القرآني، فيستدلّون مثلاً بحوادث التحالفات التي أقامها النبي مع اليهود في المدينة، برغم كون النبي عقدها من موقع القوة، وبرغم أنها لم تنجح دائماً، وأدّت إلى حدوث حروب نتيجة نقض اليهود لعهودهم، كما هو الشأن في غزوة الخندق. فكيف يستقيم التحالف الذي تدعو إليه هذه التيارات في ظل شروط زمنية مختلفة تماماً، إلا إذا تعلق الأمر باستراتيجية خطابية تبتغي (قصداً أو عفواً) تسعير الجبهات والاصطفافات لخدمة أهداف جيوبوليتيكة، يكون حطبه الآلاف من الشباب الحاملين أفكاراً غير منسجمة لا مع نفسها ولا مع الواقع.

إلى جانب هذه السردية، كان لدى أتباع هذا التيار سبب آخر، دفعهم إلى تحشيد المقاتلين تحت مسمى «الجهاد في الشام»، ويتمثل هذا السبب في كون العدو الأول عندهم هو «حاكم علوي نصيري»، نسبة إلى الانتماء الطائفي للرئيس الأسد الذي ينحدر من الطائفة العلوية التي بدأت مع حركة محمد بن نصير، حينما أسس لمذهبه انطلاقاً من كونه هو الباب إلى الإمام الحسن العسكري»، الإمام الحادي عشر لدى الشيعة الإثني عشرية. وبالتالي فالطائفة العلوية تُعتبر بالنسبة للوهابية «ملة كفر وضلال»، شأنها شأن باقي اتجاهات الشيعة، فكيف لا تحشد لقتال أهلها، خصوصاً أن واحداً منهم يحكم الشام «وينكّل بسنّتها»، بحسب التصور الوهابي للحرب الدائرة في سوريا. إضافة إلى أنه أيضاً حاكم «بعثي اشتراكي»، والقومية والاشتراكية كفر أيضاً في عرف هذا التيار، ما يعني أن كل شروط «الجهاد» في سوريا قد باتت مكتملة.

الشام تعبير عربي كان يُقصد به سوريا والأردن ولبنان وفلسطين وبعض من العراق وتركيا، وهو في اللغة المحكية ليس سوى «دمشق»، وتسمية سوريا بعد «سايكس – بيكو» مشتقة من تسمية «السريان» أحد أقدم الأعراق التي استوطنت هذه المنطقة. لكن استعمال دعاة «الجهاديات السنية» لتسمية «الشام» هو في جزء منه فقط عائد إلى الخلفية الرومانسية التي حاولت هذه المقالة الاقتراب من أهم معالمها، وخلف بقية أجزاء ذلك الاستخدام يقبع تصور هلامي للتاريخ، يتجاوز المعطيات التاريخية والجغرافية المستقرة، ويقتطع منها ما ينسجم مع طموحات أسطورية، مبالية أو غير مبالية بما يمكن أن تنتهي إليه الأمور، إذا استحكمت مشاريع أخرى في مقدمتها المشروع الصهيوني، حيث إنه في بعض معتقدات الجهاديات الوهابية المعاصرة، لا مانع بل ينبغي أن تكون لليهود قوة/ دولة وللمسلمين كذلك، كي يتحضر الطرفان للمعركة التي تسبق «القيامة» بقليل!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى