صفحات العالم

ماذا تنتظر تركيا لاجتياح شمال سوريا؟ -مقالات مختارة-

هل تذهب تركيا للحرب في سوريا/ محمد زاهد جول

في السنوات الماضية تقلبت العلاقات التركية السورية من الصداقة إلى العداء، واحتكت قواتهما المسلحة وطيرانهما العسكري في أكثر من اشتباك، بدون أن توجد رغبة حقيقية لإحدى الدولتين في الدخول في حرب حقيقية بينهما.

ورغم اضطرار تركيا الوقوف الحازم مع الشعب السوري ضد نظامه السياسي، بعد أن هجّر بشار الأسد أكثر من مليوني سوري إلى تركيا، خلال السنوات الأربع الماضية، ورغم رفض السياسة التركية استخدم بشار الأسد الحل الأمني والعسكري والقمع والقتل لإحباط الثورة السورية، إلا إن الدولة التركية رفضت التورط في الحرب مع سوريا، والمرة الوحيد التي قامت فيها تركيا بعمل عسكري في شمال سوريا، هو نقل رفات ضريح سليمان شاه جد الأسرة العثمانية من حلب إلى أشمه، وكان هذا العمل نوعاً من دفع الضرر عن تركـــيا، ورغبة من الحكــــومة التركية ومجلس الأمن القومي والجيش التركي منع كل أسباب تورط تركيا في حــرب داخل سوريا، وبالأخص في المرحلة الأخيرة بعد دخول تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) إلى سوريا وشمالها والحدود التركية السورية على وجه التحديد.

لقد كان وجود «تنظيم الدولة الإسلامية» في الحدود الجنوبية لتركيا تحدياً كبيراً، بالأخص أنه أعلن نفسه دولة خلافة إسلامية في العراق وسوريا، وقامت أمريكا والدول الأوروبية وعدد من الدول العربية بإعلان تحالف دولي عسكري لمحاربتها، شاركت تركيا في هذا التحالف بدون موافقتها على المشاركة في عملياته العسكرية في سوريا والعراق إلا بعد الاتفاق على الخطة الاستراتيجية لهذا التحالف الدولي وعملياته العسكرية، وبالأخص في معالجة الوضع الإنساني والأمني والسياسي في سوريا، ووضع خطّة تنهي نظام الأسد الذي يعتبر في نظر السياسة التركية والكثير من دول العالم، السبب الأول والأكبر لوجود «تنظيم الدولة» وغيره من التنظيمات الارهابية. وقد وضعت تركيا ثلاثة شروط للمشاركة في العمليات العسكرية للتحالف الدولي، إلا أن أمريكا رفضت تلبية هذه الشروط، لأن أمريكا غير مستعجلة لمعالجة الأزمات الحالية في المنطقة، فضلاً عن معالجتها لأسبابها الحقيقية، فقد ثبت في السنوات الأربع الماضية أن الاستراتيجية الأمريكية ترفض إسقاط نظام الأسد في سوريا، وتعمل على مواصلة الأزمات في المنطقة، بالأخص في سوريا والعراق ولبنان، بل عملت على زيادتها بالتغطية على سلوك الدولة الإيرانية الطائفي في سوريا والعراق واليمن ولبنان والمنطقة كلها، لاعتبارات ترى أمريكا أنها تنسجم مع المصالح الأمريكية والاتفاق النووي مع إيران، الذي قد لا يرى النور طالما واصلت القيادة الإيرانية وضع حدود للخدع الأمريكية والأوروبية على مشروعها النووي وسلوكها التوسعي والاستنزافي في المنطقة.

لم تقف الجهود الأمريكية على توتير العلاقات في العالم الإسلامي منذ احتلالها لأفغانستان عام 2001، واحتلالها للعراق 2003، وصناعتها للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش عام 2014، وتوريطها لإيران في الهيمنة على اليمن بأيدي الحوثيين في انقلاب سبتمبر 2014، مما تسبب في الحرب اليمنية و»عاصفة الحزم»، ما أكد أن الخطط الأمريكية ترمي إلى زيادة حالة التوتر في المنطقة، ليس في سياسية الفوضى الخلاقة كما كانت السياسة الأمريكية السابقة، وإنما في الحروب غير الخلاقة، ولذلك سعت الجهود الأمريكية لإشعال حروب ومعارك غير قابلة للحسم العسكري إطلاقاً، فالحرب التي تشعلها أمريكا عند أصدقائها تجعل أصدقاءها أكثر حاجة إليها، أما عند اعدائها فإنها تكتفي بحروب استنزاف طويلة الأمد لتفرض على عدوها الاستسلام، وإلا فضربة قاضية ساعة الحزم، وقد استعملت أمريكا هذه السياسة مع الدول العربية الصديقة ومع إيران منذ سنوات، ولكن لم تؤد حتى الآن إلى الاصطدام المباشر بينهما إلا عن طريق وسطاء، كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن، على أمل أن تؤدي هذه المعارك غير المباشرة إلى حرب مباشرة ولو بعد حين.

هذه الجهود الأمريكية لم تسلم منها تركيا، سواء اعتبرت تركيا دولة صديقة، أو معادية للسياسة الأمريكية في ظل حكومات حزب العدالة والتنمية، خاصة أن تركيا رفضت التورط في الحرب مع سوريا بذريعة حماية الشعب السوري من العنف والاضطهاد والقتل، وكذلك رفضت تركيا التورط في العمليات العسكرية ضد «داعش» إلا بشروطها الثلاثة، فكان لا بُدّ من جرها إلى حروب المنطقة بشتى الطرق والحيل والمكائد، ومنها تهديد أمنها القومي، جراء إشعال الحروب على حدودها، بما يؤدي إلى أخطار تطال الأراضي التركية، فجاءت الفكرة الأمريكية باستغلال الأطماع الكردية بإقامة كيان كردي شمال سوريا، هذا الكيان قابل لاستخدامه أداة أساسية في تقسيم سوريا سياسيا وعسكرياً أولاً، ومواصلة الحروب فيها بين دول وكيانات متحاربة ثانياً، وقابل ايضاً لاستغلاله في إثارة النعرات القومية لدى الأكراد في سوريا والعراق وتركيا وايران ثالثاً، فالورقة الكردية ورقة رابحة في نظر المخططين الأمريكيين لمواصلة استراتيجية الحرب المستدامة في منطقة الشرق الوسط والبعيدة عن الدولة الإسرائيلية.

ما يثبت هذه الخطط هي التحركات الكردية في شمال سوريا لحزب الاتحاد الديمقراطي، وقوات حماية الشعب الكردي، في احتلالها تل أبيض اولاً، وقيامها بعمليات التطهير العرقي وطردها لسكان ثلاثمئة قرية عربية وتركمانية من سكانها الأصليين ثانياً، فهذا جعل الشكوك والريبة تصبح حقيقة في قلوب الساسة والعسكريين الأتراك، بأن هناك مخاطر حقيقية على الدولة التركية تأتي من التحركات الكردية، باستغلالها لأوضاع سوريا الحالية، وعدم وجود سيطرة لحكومة الأسد تمنع ذلك، أو موافقته على استغلال الأكراد، أو تعاونهم مع الأمريكان في إقامة وجود كردي، بحجة التعاون لمحاربة «داعش»، وطرده من الأماكن التي احتلها في شمال سوريا، والأكراد والأمريكان يظنون أن تركيا سوف تخدع بهذه الحجج، وإلا فإنها سوف تتههم بدعم «داعش» إذا وقفت في وجه التحركات الكردية، وعملت على منع تمدد القوات الكردية على الشريط الحدودي في كل الشمال السوري، لذلك وجهت تركيا التحذيرات للإدارة الأمريكية برفضها لأي عملية تغيير ديمغرافي شمال سوريا أولاً، ورفضها لأي تمدد كردي في شمال سوريا ثانيا، سواء أدى إلى وجود كردي علني أو اصبح واقعاً مفروضاً على السوريين، ووضعت تركيا الخطط العسكرية وأعدت نفسها لأي عمل عسكري يمنع أمريكا منح شمال سوريا وطناً قوميا للأكراد على طريقة وعد بلفور لليهود في فلسطين.

إن تركيا التي امتنعت عن التورط بالحرب الداخلية السورية، وامتنعت عن المشاركة في العمليات العسكرية للتحالف الدولي بمحاربة «داعش» بشروطها، لن تنتظر الموافقة الخارجية لحماية أمنها القومي ومصالحها، فتركيا ستتحرك للحيلولة دون فتح جبهة جنوبية مع جيشها لسنوات، ولذلك تقوم الحكومة التركية الآن بالتواصل مع روسيا وأوروبا وإيران والدول العربية وأمريكا، بل حتى مع حكومة الأسد بشكل غير مباشر لشرح موقفها، فلا نية ولا رغبة ولا حاجة لتركيا لتورط جيشها في الصراع السوري أولاً، ولا الصراع الدولي ضد «داعش» إلا وفق شروطها، ولذلك فإن تركيا لن تتحرك في سوريا إلا لحماية أراضيها وشعبها وأمنها واستقرارها، وإذا أدخلت جيشها في سوريا فهو دخول مؤقت أولاً، ولهدف محدد ثانياً، وليس اعتداء على أحد ثالثاً، فهو ليس اعتداء على الأكراد ولا على العرب ولا غيرهم، لأن الهدف هو منع إقامة دولة كردية شمال سوريا تهدد الأمن القومي التركي، أما المدة فهي لحين تحقيق هذا الهدف، وأما حالة عدم الاعتداء فإن الضمانات التي تقدمها الأمم المتحدة أو المجتمع الدولي فسوف يسرع من الانسحاب التركي، الذي لن يتدخل في الشأن السوري الداخلي إطلاقاً، ولا يهدف إلى محاربة المواطنين الأكراد إطلاقاً.

أما إذا أخطأت الحكومة السورية والأسد حساباتهما وظنا أنهما بدعمهما للتهديد الذي يقوم به حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب، ينتقمان من المواقف التركية المؤيدة للثورة السورية، فهذا خيار ستكون له عواقبه، وبالأخص أن الشعب الكردي بأغلبيته ليس مع القيادات الكردية اليسارية وأحزابها المتصارعة، التي تخوض غمار أطماع شخصية وحزبية سوف تقتل أبناءهم وتدمر قراهم وتشتت مستقبلهم، فالحروب التي تخطط لها أمـريكا لا تخـــدم الشعب الكردي أولاً، ودعم الأسد لها هو لأغراض انتقامية فقط ثانياً، والإعلام الدولي المخادع سوف يوتر الشارع الكردي ويشحنه في العداء لتركيا، ليكون وقود حـــروب لا تنتــهي مع العرب والأتراك والأكراد ثالثاً، بل بين الأكراد ضد بعضهم بعضاً رابعاً، فدعم إقليم كردستان العراق سوف يكون إعلامياً فقط، بينما سيجد في المشروع السوري منافساً حقيقياً على قيادة الشعب الكردي.

٭ كاتب تركي

القدس العربي

 

 

 

ماذا تنتظر تركيا لاجتياح شمال سوريا؟/ حسين عبد الحسين

عندما دعت الولايات المتحدة تركيا للانضمام الى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “الدولة الاسلامية، الصيف الماضي، اعتقد الأتراك أن بإمكانهم مقايضة مشاركتهم في التحالف بدفع أميركا الى اسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد. لكن أميركا لم تقايض.

وعبثاً، حاولت واشنطن إقناع أنقرة أن في مصلحتها مكافحة داعش عسكرياً على حدودها، لكن انقرة اعتقدت أن أميركا كانت ستقضي على داعش على كل حال، فلم تشارك في التحالف من دون ضمانات أميركية باسقاط الأسد.

وبعدما تعذر التوصل الى تسوية بين موقفي الدولتين، لم تسمح تركيا للمقاتلات الاميركية المرابضة في قاعدة انجرليك بشن غارات ضد “داعش”، فاضطرت المقاتلات الاميركية للاقلاع من الكويت، ما قلّص من فاعلية الإسناد الجوي للثوار السوريين والبيشمركة في قتالهم ضد “داعش”، وأجبر المقاتلات الاميركية على البقاء في الجو فترات طويلة اثناء المعارك، ما رفع التكلفة المالية الاميركية، واجبر المقاتلات الاميركية على العودة الى قواعدها أحياناً وهي محملة بالقنابل، ما حدا بالسناتور الجمهوري المخضرم جون ماكين، وهو طيار حربي من زمن حرب فيتنام، الى انتقاد الادارة بسبب ما يبدو “بطالة” السلاح الجوي الاميركي في المعركة ضد تنظيم الدولة.

في الاسابيع الاخيرة، أطلق المسؤولون الاميركيون تصريحات في مجالسهم الخاصة مفادها انهم صاروا يعتقدون ان انقرة أدركت حساسية انفلات الوضع العسكري في الشمال السوري، وان وضع الميليشيات الكردية صار يقلقها بشكل خاص، وان المسؤولين الأتراك صاروا يرون أن اليد العليا في سوريا الشمالية هي إما لداعش أو للميليشيات الكردية، وفي الحالتين قلق تركي.

لذا، يقول الأميركيون إن المسؤولين الأتراك فاتحوهم بإمكان “إقامة منطقة عازلة” شمال سوريا، وهو ما وافقت عليه الولايات المتحدة بشكل كامل وأيدته، فانتقال السيطرة في الشمال السوري من أيدي ميليشيات –تصنف واشنطن بعضها بالارهابية – إلى أيدٍ حكومة صديقة، مثل الحكومة التركية، هو أمر تحبذه الادارة الاميركية.

ويتابع المسؤولون الاميركيون ان انقرة أعلمتهم بإمكان تدخلها عسكرياً في شمال سوريا قبل فترة، وأنهم لا يعلمون ما الذي يؤخر العملية العسكرية التركية.

أنباء نوايا التدخل التركي تسعد الأميركيين، فإلى الانضباط الكبير الذي ستفرضه تركيا وحلفاؤها من الثوار السوريين في الشمال، يبدو أن واشنطن تتوقع أن تنتقل المعارضة السورية الى “الحزام الأمني” التركي، وأن تتخذ، إما من مدينة حلب، أو مدينة إدلب، مقراً للحكومة السورية المؤقتة، وهذا إن حصل -حسب الرأي الاميركي- سيسرّع في دفع الأسد إلى قبول الامر الواقع والدخول في تسوية مع حكومة سورية منافسة تكون أصبحت أمراً واقعاً.

لكن الرأي الاميركي يبدو تمنياً، فإمكان دخول تركيا الحرب السورية قد يقتصر على الشمال الشرقي للبلاد حيث المجموعات المسلحة الكردية وداعش، وقد لا يتضمن تورط أنقرة في مناطق لا تنطبق عليها هذه الاوصاف، مثل محافظة إدلب.

على أن متابعين أتراك في العاصمة الاميركية يعزون التلكؤ التركي الى استمرار المفاوضات النووية مع ايران. وينقل هؤلاء عن كبار المسؤولين في أنقرة قولهم إن تركيا ليست في عجلة من أمرها للقيام بعملية عسكرية في الشمال السوري، ثم يتم التوصل الى اتفاقية بين طهران والعالم وتسوية قد تؤدي الى انهاء القتال وتالياً تثبيت الاوضاع في عموم سوريا.

مسألة التسوية الايرانية مع العالم سيتم حسمها في أقل من ثمانية أسابيع، وأنقرة مستعدة للانتظار كل هذه المدة، حسب المتابعين الأتراك، قبل التوغل عسكرياً في المستنقع السوري.

“ماذا تنتظر تركيا لاجتياح شمال سوريا؟” يتساءل أحد المسؤولين الاميركيين ببلاهة من لا يرى ربطاً بين المفاوضات النووية مع ايران والتطورات في عموم منطقة الشرق الاوسط.

المدن

 

 

 

خسارة تركيا أو مكاسبها من عملية عسكرية في سوريا/ سونر چاغاپتاي

تشير التقارير الإعلامية الأخيرة إلى احتمال استعداد تركيا للقيام بتوغل عسكري داخل سوريا. وعلى وجه التحديد، ربما تسعى القوات التركية إلى الاستيلاء على أراضي تمتد مسافة 55 ميلاً من أعزاز في الغرب إلى جرابلس في الشرق، وإقامة حاجز وقائي قد يصل عمقه إلى 20 ميلاً لمنع تسرب العنف من البلد المجاور، وإقامة نقطة انطلاق للثوار السوريين الموالين لتركيا.

وفي تشرين الثاني/أكتوبر الماضي، حصلت حكومة «حزب العدالة والتنمية» على تصريح من البرلمان لنشر قوات في سوريا أو العراق إذا لزم الأمر، وفي 2 تموز/يوليو، أعلن «حزب الحركة القومية» المعارض – الذي يجري محادثات حول تشكيل حكومة ائتلافية مع «حزب العدالة والتنمية» – عن دعمه لمثل هذه العملية. ومع ذلك، ثمة اعتبارات داخلية تركية أخرى تعارض شن مثل هذه العملية، التي تواجه أيضاً عقبات محتملة، من بينها تردد الجيش، والافتقار للدعم الشعبي، ووجود معارضة من قبل «حزب الشعب الجمهوري» و «حزب ديمقراطية الشعوب». وتثير هذه العوامل تساؤلات بشأن ما يمكن أن تكتسبه أنقرة أو تخسره من اتخاذ إجراءات في سوريا.

منع تحرّك «حزب الاتحاد الديمقراطي» نحو الغرب

حتى وقت قريب، كانت هناك مجموعة كبيرة من الجهات الفاعلة تسيطر على الجانب السوري من الحدود التركية على طول 510 ميلاً، بما فيها «حزب الاتحاد الديمقراطي» الموالي للأكراد، وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية»، و«جيش الفتح» (الذي تهيمن عليه «جبهة النصرة» التابعة لـ تنظيم «القاعدة»)، وعناصر معتدلة من ثوار «الجيش السوري الحر».

ويرتبط «حزب الاتحاد الديمقراطي» بـ «حزب العمال الكردستاني»، الذي خاضت تركيا معارك ضده دامت عقود إلى  أن دخلت معه في محادثات سلام عام 2012. وقد سيطر «حزب الاتحاد الديمقراطي» على ثلاثة قطاعات معزولة في سوريا منذ بعض الوقت، وهي عفرين في شمال غرب البلاد وكوباني في شمال – وسط سوريا والجزيرة في شمال شرق البلاد. وفي أيار/مايو، استولى «حزب الاتحاد الديمقراطي» – بمساعدة الغارات الجوية الأمريكية – على امتداد ما يقرب من ستين ميلاً من الأراضي الواقعة تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» بين قطاعي الجزيرة وكوباني (“عين العرب”)، وأقام منطقة تحت سيطرته يبلغ طولها 250 ميلاً. وتخشى أنقرة الآن من أن يقرّر الحزب الربط بين القطاعات الثلاثة من خلال التحرّك أكثر نحو الغرب والاستيلاء على أراض بين أعزاز وجرابلس.

وقد يشكّل ذلك مهمة بالغة الأهمية – ففي حين قد يكون «حزب الاتحاد الديمقراطي» قادراً على بسط سيطرته العسكرية على حزام أعزاز- جرابلس بدعم جوي أمريكي، لكنه قد يواجه صعوبة في الاحتفاظ بهذه المناطق ذات الغالبية العربية إلا إذا شنّ حملة تطهير عرقية واسعة النطاق. ومع ذلك، فقد تحاول أنقرة استباق ما تعتبره طوقاً محتملاً من قبل «حزب العمال الكردستاني» في الجنوب على طول 385 ميلاً.

خسارة دعم الأكراد الأتراك

تشعر الجالية الكردية في تركيا بسعادة غامرة من نجاح «حزب ديمقراطية الشعوب» في الانتخابات البرلمانية في 7 حزيران/يونيو. فمن خلال مشاركته مع فصائل ليبرالية مختلفة، فاز الحزب بثمانين مقعداً في المجلس التشريعي، وهذه نتيجة لم يسبق أن حقّق مثيلاً لها، وبذلك أصبح ثالث أكبر كتلة برلمانية بتعادل عدد مقاعده [مع حزب آخر]. ويعتبر الأكراد حالياً أنه لا  يمكن بعْدَ الآن تجاهل مطالبهم السياسية واللغوية.

ويشعر الأكراد الأتراك أيضاً بسعادة غامرة بشأن التطورات الأخيرة في العراق وسوريا، إذ حقّق أقرانهم الأكراد درجات متفاوتة من الحكم الذاتي. وقد بدؤوا يهتمون بشكلٍ كبير بمصير الأكراد السوريين، الذين يعيش معظمهم في القطاعات الثلاثة عبر الحدود مباشرة. فالعلاقات الشخصية والعائلية والجغرافية والسياسية هي أعمق بين الأكراد الأتراك والسوريين، كما يتمتع «حزب العمال الكردستاني» وشقيقه «حزب الاتحاد الديمقراطي» بهيمنة مماثلة بين قطاعات واسعة من المجتمع الكردي على جانبيْ الحدود.

إن ذلك يفسّر التأثير الزلزالي الذي أحدثته أزمة كوباني على السياسة التركية بدءاً من العام الماضي. فعندما تعرّض القطاع الذي يسيطر عليه «حزب الاتحاد الديمقراطي» لهجوم من تنظيم «داعش» في شهر أيلول/سبتمبر، رفضت أنقرة تقديم المساعدة في البداية، على أمل استغلال الأزمة كأداة للمساومة لوضع «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«حزب العمال الكردستاني» تحت سيطرتها. إلا أنّ هذه الاستراتيجية أتت بنتائج عكسية: فقد تدخّلت الولايات المتحدة بتزويدها السلاح وشنها غارات جوية، ونجت كوباني وأصبحت رمزاً كردياً. كما أن قرار أنقرة قد حطّم الدعم الكردي لـ «حزب العدالة والتنمية» الذي ينحدر منه الرئيس رجب طيب أردوغان بعد أن كان قوياً في السابق. فبعد أن كان الكثير من الأكراد المحافظين قد  ساندوا «حزب العدالة والتنمية» في الماضي، حوّلوا أصواتهم إلى «حزب ديمقراطية الشعوب»، مما ساعد هذا الأخير على الحصول على أكثر من ضعفيْ الأصوات التي كان قد حصل عليها في انتخابات عام 2011.

ولن يؤدي أيّ جهد عسكري تركي لمنع [تقدّم] «حزب الاتحاد الديمقراطي» سوى إلى تفاقم تأثير كوباني – فقد يفقد «حزب العدالة والتنمية» الدعم الكردي بأكمله، أو أسوأ من ذلك، قد يقرّر الأكراد الانفصال عن أنقرة تماماً. وينظر الأكراد الأتراك إلى مصير الأكراد السوريين على غرار نظرة الأتراك إلى إخوانهم العرقيين في شمال قبرص، ويتوقعون بأن تقدّم الحكومة التركية مستوى مماثل من الحماية لهم. وإذا حاولت أنقرة منع [تقدّم] الأكراد في سوريا بدلاً من مساعدتهم، قد تضع حداً للالتزام السياسي والعاطفي الذي يوليه الأكراد تجاه الدولة التركية، مع تداعيات على الاستقرار الداخلي.

إقامة نقطة انطلاق معادية للأسد

في الأشهر الأخيرة، قامت تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية بتجميع مواردها لتوفير المزيد من الأسلحة لقوات المعارضة في شمال سوريا. وقد أتاح ذلك سيطرة «جيش الفتح»/«جبهة النصرة» على إدلب – أول عاصمة محافظة يستولي عليها هذا التحالف. وقد توفر منطقة عسكرية تركية في سوريا – التي قد تمتد إلى ضواحي حلب، كبرى المدن السورية قبل الحرب – نقطة انطلاق لهذا التحالف لتهديد حلب وربما تجاوزها، مما يعزز هدف «حزب العدالة والتنمية» في الإطاحة بنظام الأسد.

إعادة توطين اللاجئين من خلال عودتهم إلى سوريا

إن التدخّل في سوريا قد يساعد تركيا أيضاً على تخفيف مشكلة اللاجئين المتزايدة عن كاهلها. وتستضيف البلاد ما يقرب من مليونيْ لاجئ سوري، وهذا أكبر عدد من اللاجئين في أي بلد في العالم. والكثير منهم من الفقراء من الريف السوري، وغالباً ما يكونون تحت تأثير أهوال الحرب. وقد أدى تواجدهم المتزايد في المدن والمخيمات في تركيا إلى تفاقم التوترات الاجتماعية والاقتصادية ضدّ سياسة «حزب العدالة والتنمية» في سوريا. ولمعالجة هذه المشكلة، تستطيع أنقرة نقل بعض المشرّدين إلى منطقة عسكرية عبر الحدود – وعلى وجه التحديد اللاجئين الذين يبلغ عددهم حوالى 300 ألف شخص ويقيمون حالياً في المخيمات التركية، فضلاً عن أي لاجئين محتملين في المستقبل.

التعرض لغضب الأسد وروسيا وإيران و تنظيم «الدولة الإسلامية»

سيشكّل أيّ توغل تركي لمساعدة الثوار دعوةً لإغضاب نظام الأسد المعروف بصلاته بالجماعات الإرهابية الماركسية داخل تركيا. ومثل هذه الخطوة ستؤدي أيضاً إلى استياء الراعي الرئيسي الدولي لبشار الأسد (موسكو)، وراعيه الإقليمي (طهران). فلروسيا وإيران صلات تاريخية بـ «حزب العمال الكردستاني»، ويمكنهما دعمه في زعزعة استقرار أي منطقة عسكرية تركية داخل سوريا. كما بإمكان روسيا أن تدفع أيضاً باتجاه اتخاذ قرارات مناهضة لتركيا في الأمم المتحدة، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة قد تمنع مثل هذه الجهود. وأخيراً، يمكن أن تستخدم روسيا بطاقة الطاقة التي تملكها ضدّ أنقرة – فتركيا تشتري أكثر من نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي والنفط من روسيا، وسيؤدي أيّ خفض في هذه الإمدادات إلى إلحاق الضرر في اقتصاد البلاد بصورة شديدة.

ومن جانبه، قد يرضخ تنظيم «داعش» لأيّ توغل تركي في البداية، إذ يفضّل التنظيم أن يفقد الأراضي الواقعة تحت سيطرته لصالح أنقرة بدلاً من ألدّ أعدائه، «حزب الاتحاد الديمقراطي» والولايات المتحدة. وقد ينسحب مقاتلو تنظيم «الدولة الإسلامية» حتى من مناطق معينة دون خوض معارك كبيرة ضدّ القوات التركية. ولكن بإمكان منطقة عسكرية تركية أن تشحذ في النهاية من قوة عناصر الثوار المناهضة لـ «داعش»، مما سيدفع بالتنظيم لا محالة إلى الشعور بالاستياء من أنقرة – وعلى المدى الطويل، قد تواجه تركيا تهديداً خطيراً من تنظيم «الدولة الإسلامية».

منح «حزب العدالة والتنمية» شريان الحياة في حال اجراء انتخابات مبكرة

قد يستطيع أردوغان تحقيق استيلاء تركي سريع على أراضي سورية وإظهاره ذلك انتصاراً لـ «حزب العدالة والتنمية» الذي ينحدر منه. ومن شأن ذلك أن يساعد الحزب إذا اضطرت تركيا إلى إجراء انتخابات مبكرة. فوفقاً للدستور، ينبغي تشكيل حكومة جديدة خلال 45 يوماً بعد اختيار رئيس البرلمان ونواب الرئيس بعد الانتخابات. وقد انتُخب الرئيس الجديد للبرلمان التركي في 1 تموز/يوليو وسيتم انتخاب نوابه في الأسبوع الثاني من تموز/يوليو، وعندها سيبدأ العد التنازلي. ويتمتع «حزب العدالة والتنمية» بأكثرية المقاعد في المجلس التشريعي، ولكنّ ذلك أقل من الغالبية اللازمة لتشكيل حكومة. وإذا ما فشلت مفاوضات ائتلافه مع الأحزاب الأخرى في تشكيل حكومة تحصل على الثقة بحلول منتصف آب/أغسطس، فسوف ينبغي إجراء انتخابات جديدة.

وفي ظلّ هذا السيناريو، سيؤدي التوغل التركي في سوريا إلى خسارة «حزب العدالة والتنمية» المزيد من الدعم الكردي في صناديق الاقتراع. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، فإن “عملية النصر” موضع البحث ستجعله يجتذب الناخبين المحافظين من «حزب الحركة القومية»، وليس هناك شكّ في أنّ أردوغان يأمل في أن هذا الدعم الوافر سيساعد «حزب العدالة والتنمية» في الحصول على الأغلبية المطلقة.

زعزعة استقرار تركيا على المدى الطويل

بالنسبة لأنقرة، إن أي عملية عسكرية في سوريا قد تثير العديد من التحديات الأمنية والسياسية على المدى الطويل. فبالإضافة إلى التهديدات لتي سبق ذكرها – إمكانية العودة للنزعة الانفصالية بين الأكراد الأتراك الساخطين والمتحدين سياسياً، والتحركات الروسية المعادية، والانتقام المسلح لكل من نظام الأسد و «حزب الاتحاد الديمقراطي» و تنظيم «الدولة الإسلامية» – ستتحوّل تركيا في نهاية الأمر إلى “محتلّ” في نظر الشعب السوري، بما في ذلك القوات ذاتها التي تنوي أنقرة دعمها. وفي النهاية، قد تضطر تركيا إلى الاختيار بين التزام مُكلّف طويل الأمد للدفاع عن منطقة عسكرية بين جرابلس وأعزاز وبين الانسحاب من المنطقة وبالتالي الاعتراف بـ “الهزيمة.”

التداعيات على السياسة الأمريكية

سيعتمد موقف الولايات المتحدة حول التدخل التركي على تفاصيل العملية ونطاقها وتأثيرها. فدعم واشنطن لعملية توغل عسكرية واسعة النطاق تشمل القوات البرية هي أقل احتمالاً. وبسبب كون تركيا عضواً في حلف الشمال الأطلسي، فإن مثل هذه العملية قد تهدّد بجرّ الولايات المتحدة إلى أتون الحرب في سوريا. وفي المقابل، لن تعارض واشنطن شن عملية أصغر حجماً – تكون محدودة بالقصف في عمق الأراضي السورية لإيجاد ملاذ آمن لجماعات الثوار – لا سيما وأنها قد تقطع خطوط إمدادات تنظيم «داعش»، وتُخرج التنظيم من بعض المناطق. وإذا كان بإمكان تركيا تحديد طريقة العمل مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» بدلاً من أن ينتهي بها الأمر بالنزاع معه، فإن ذلك قد يشكّل إضافةً ملائمة على الدعم الأمريكي الضمني، بما في ذلك إمكانية الوصول إلى بعض الأصول العسكرية الأمريكية.

 

 

 

 

حلب «حصان أردوغان» إلى البازار الأميركي – الإيراني!/ جورج سمعان

بدأت معركة حلب. والأيام المقبلة ستنبئ بمآلها. هل تصل إلى نهاياتها؟ هل تلقى سريعاً مصير إدلب وجسر الشغور؟ سقوط الموقعين الأخيرين بيد الفصائل الإسلامية، أو «جيش الفتح»، كان تطوراً ميدانياً كبيراً. لكنه لم يترجم سياسياً لمصلحة المعارضة أو «الائتلاف الوطني». أي أنه لم يهز أركان النظام أو يدفع نحو إعادة تحريك الحل السياسي. ولم يترجم لمصلحة الرعاة الإقليميين، خصوصاً تركيا، بمقدار ما أثار مخاوف أصدقاء دمشق وخصومها على السواء. لم ترق لهؤلاء هذه الاندفاعة التي كادت تغير قواعد الاشتباك واللعبة السياسية الإقليمية والدولية. فالكل أبدى حرصاً على ألا يتكرر مثل هذه العملية. لذلك، هدأ الضجيج الذي علا قبل أيام متوعداً بمعركة حاسمة لتصفية وجود النظام في درعا جنوباً. كأن الضوء الأخضر لم يشعل. لن يُسمح بالتقدم نحو العاصمة من المنطقة الجنوبية التي شكلت تاريخياً مقتلاً للنظام. ثمة قرار «من فوق» حال دون مواصلة المعركة بالزخم المطلوب لتحقيق اختراق مماثل لما حصل في الشمال. وهذه ليست المرة الأولى التي يحد فيها اللاعبون الكبار من الخارج من اندفاعة غير محسوبة تدفعهم إلى تغيير حساباتهم.

معركة إدلب أربكت كثيرين كانوا ولا يزالون، منذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة في سورية، يسألون عن «اليوم التالي» لسقوط النظام. ومن يكون البديل. وماذا عن مصير الأقليات. والحد من اندفاع الفصائل المعارضة في جبهة الجنوب ليس الحدث الوحيد من نوعه. حصلت سابقاً في شمال البلاد تجارب مماثلة مُنعت فيها المعارضة من استكمال معركتها. بالضغط والتهديد بقطع المعونات والتسليح وما شابه. و «معركة الجنوب» لم يتوقف الحديث عنها طوال الشهور السابقة، خصوصاً بعد تلقي مقاتلين في تلك المنطقة تدريبات خاصة أشرف عليها الأميركيون وغيرهم. وانتظمت لهم هيكلية عسكرية شبه نظامية استوفت الكثير من الشروط المطلوبة. وثمة من يشير إلى أن «جبهة الجنوب» التي يديرها «الجيش الحر» كان مقرراً أن تنتهي على مشارف دمشق في السابع من نيسان (أبريل) الماضي، الذكرى الرسمية لقيام حزب البعث. وكان الهدف التلويح للممسكين بمفاتيح الحل السياسي وأولئك المصرين على الحسم العسكري، بأن النظام بات على مرمى حجر. ويجب التحرك سريعاً لترتيب رحيله وصولاً إلى التغيير المطلوب. قبل ذلك الموعد بأسابيع، أي مطالع السنة، استنفر «الحرس الثوري» الإيراني عدته وعديده في تلك الجبهة لمنع مثل هذا الاختراق الكبير. وحصل شيء مماثل في الجبهة الشمالية وحيل دون تقدم المعارضة خلف «خطوط» محرمة نحو الساحل أو نحو مواقع حساسة يمكن أن تقوض «قواعد اللعبة» بين الأطراف الخارجية أولاً.

معركة حلب هل تحاكي ما يجري في الجبهة الجنوبية أم تكون تكراراً لإدلب وجسر الشغور، إنما هذه المرة بمفاعيل لا يمكن تجاهلها؟ ما حققه «جيش الفتح» شمال سورية حتى الآن كان بدعم واضح من تركيا التي هي نفسها تدخلت أكثر من مرة للحؤول دون إحكام النظام الطوق حول العاصمة الشمالية. لم تسمح ولن تسمح بتطويق المعارضة وقطع خطوط تواصلها مع الحدود والمعابر التركية. الدوائر المعنية في أنقرة اعتبرت وتعتبر أن إخراج المقاتلين من المدينة، أو سقوطها كاملة في يد نظام الرئيس بشار الأسد سقوطاً لنظام رجب طيب أردوغان! لذلك، لم يتهاون الأخير في ترسيخ هذا الواقع على الأرض. لكن هذا الالتزام لم يصل إلى حد الخروج على الخطوط التي رسمتها الإدارة الأميركية لسياستها حيال الأزمة السورية. أي أن موقف الرئيس التركي كان ولا يزال دفاعياً. هدد وتوعد في مناسبات لا تحصى. لكنه لم ينفذ واحدة من تهديداته. تماماً كما فعل في معاركه مع إسرائيل حيال حصار غزة. حملات وخطابات نارية بلا ترجمة على الأرض.

لم يطرأ على المشهد السياسي ما يدفع إلى الاعتقاد بأن تركيا انتقلت من موقعها الدفاعي في الأزمة السورية إلى موقع أكثر هجومية. أو أنها تمردت على بيت الطاعة الأميركي. بخلاف ذلك، إن التطورات الأخيرة أضافت إلى موقف الرئيس أردوغان وموقعه مزيداً من الضعف. بدءاً من نتائج الانتخابات البرلمانية التي لم تعطِ حزبه «العدالة والتنمية» ما كان له طوال عقد من حرية حركة شبه مطلقة، إلى التهديد المتصاعد الذي بات يشكله أكراد سورية في سعيهم إلى ما يشبه الحكم الذاتي لمناطقهم شرق سورية وشمالها. ويدرك الرئيس التركي، على رغم هذا الحشد الكبير من القوات على الحدود الجنوبية للبلاد، أن الانخراط الميداني المباشر في الحرب السورية مجلبة لمتاعب قاتلة في الداخل التركي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً. مثلما هو بداية غرق أنقرة في المستنقع السوري. وبالطبع ليس هذا ما يريده أردوغان. وقد عبر رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو بوضوح أن بلاده لا تنوي، على رغم الاستعدادات العسكرية الكبيرة، أن تشن عملية عسكرية في سورية «بين ليلة وضحاها». نهجت تركيا أسلوب إيران تماماً التي اعتمدت وتعتمد في تدخلها في شؤون المنطقة على أذرعها المحلية في هذا البلد وذاك. وأنقرة تعتمد الأسلوب نفسه بالاعتماد على فصائل إسلامية كثيرة في سورية، وحتى يمكنها غض الطرف عن حركة «النصرة» و «داعش»، إذا كان لتحرك هذين التنظيمين أن يخدم أهدافها في محاربة نظام الرئيس الأسد واحتواء الطموحات الكردية… شرط ألا يقتربا من حدودها إلى ما بعد الحدود المرسومة!

لكن تركيا التي أزعجها أن معركة إدلب كانت كمن ضرب عصا بالماء، يمكن أن تدفع بـ «الفاتحين» نحو إسقاط العاصمة الشمالية. تضرب بالعصا هذه المرة هدفين: إيران التي سبق أن حذرتها من أي تدخل ميداني. والولايات المتحدة التي لم تغفر لها توفير الأسباب التي أتاحت مقداراً من المكاسب لفصائل الشمال الإسلامية. ولم تغفر لها سعيها إلى تسويق هذه الفصائل بديلاً جاهزاً وقوياً على الأرض لقتال «داعش» والنظام في دمشق أيضاً. تشعر أنقرة، كما العواصم العربية الأخرى المعنية، بالقلق من تهميشها وتقليص دورها في العلاقة التي تبنيها واشنطن مع طهران على حساب جميع أهل المنطقة، باستثناء إسرائيل بالطبع. ولا يمكنها السكوت والاكتفاء بالمراقبة. لا تريد خسران كل ما حلمت به وعملت له في السنوات العشر الأخيرة لـ «تسفير» مشاكلها مع أهل الإقليم، والعودة المظفرة إلى قلبه وظهرانيه. لذلك، قد تجرب في معركة حلب تحقيق ما فشلت في تحقيقه إثر معركة إدلب وجسر الشغور، بل منذ قيام التحالف الدولي لمحاربة «دولة الخلافة». فقد دخلت التحالف لكنها لم تنخرط في العمليات العسكرية. وضعت جملة من الشروط على رأسها كما هو معروف ضرب التنظيم الإرهابي ونظام الرئيس الأسد معاً، والحد من غلواء الكرد واندفاع «وحدات حماية الشعب» نحو كيان ذاتي يزيد في تعقيد القضية الكردية التي تقض مضاجعها.

تجهد أنقرة للعودة إلى قلب المشهد السياسي فلا يقتصر الأمر على منافسيها الكبار في الإقليم، من إسرائيل إلى إيران. تريد حصة توازي حجمها ودورها وموقعها السياسي والجغرافي، بل موقعها الديني السنّي إذا كان متعذراً على العرب المنشغلين بأزماتهم والغارقين في فوضى عارمة أن يحصلوا على كرسي يترجم حجمهم الديموغرافي والاقتصادي. يضيرها أن تكون مستبعدة عما ترسمه واشنطن وبعض شركائها مع طهران. تريد أن تدخل البازار الذي يقترب من ذروته مع اقتراب المحادثات النووية بين إيران والدول الست الكبرى من نهاياتها. وربما راهن الرئيس أردوغان على حلب «حصان طروادة» للدخول إلى صلب اللعبة السياسية الكبرى. فهل ينجح «فاتحوه» في فتح أبواب حلب فيفتح له باب واشنطن… وطهران أيضاً؟

الحياة

 

 

 

يد تركيا المغلولة باستقرارها/ رستم محمود

بعد انتظار مديد وتوقعات كثيرة، لم تخرج الاجتماعات الماراثونية الأخيرة لمجلس الأمن القومي التركي بأية قرارات جديدة ونوعية؛ فلم يُقر أي تدخل عسكري واضح في المسألة السورية، وخطة المنطقة العازلة شمال سورية يبدو وكأنه تم صرف النظر عنها، بعد التحذيرات الأميركية المبطنة من خطورة ذلك. وكذلك لم يتم إقرار أي تحول لنمط التعاطي التركي مع القوى المسلحة السورية المدعومة منها بالأساس، وبقيت «الخطابية» السياسية التركية المحذرة من خطورة تفاقم الأوضاع في الشمال السوري، ومالات التمدد العسكري والسياسي الكردي هناك، بقيت جزءاً تقليدياً مما تمارسه أنقرة منذ سنوات.

لا تعني هذه «السلبية» السياسية التركية، بأي حال، أن تركيا لا تستطيع أن تُحدث تحولاً نوعياً في كثير الملفات التي تشكل مساً حقيقياً بأمنها القومي؛ لكن يبدو واضحاً أن حسابات تركية شديدة الدقة تقف وراء هذا التحفظ. أساسها النزعة السياسية المركزية المحافظة التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية منذ سيطرته على حُكم البلاد قبل عقد ونصف العقد. فهذا الحزب يقرأ في شكل استراتيجي أن منبع القوة التركية ونفوذها متأت من استقرارها المجتمعي والسياسي ونمو اقتصادها وتجربتها الديموقراطية الاستثنائية في المنطقة، وأن هذا المناخ الخاص الذي وفره الحزب خلال السنوات الماضية، وحده كان الخزان الذي أمّن له هيمنته السياسية على الحياة العامة في البلاد. فدخول مغامرات سياسية وعسكرية غير محسوبة بدقة، هو ما فتت وهمش أحزاباً سياسية مركزية سابقة أخرى قبله، كحزب السلامة الوطنية اليميني المحافظ في السبعينات، وحزبي الوطن الأم والطريق القومي في الثمانينات والتسعينات، وأنه لو غامر بأي شيء شبيه بما فعلت تلك الأحزاب، ربما يعرضه لعقوبة من المجتمع التركي، ويُضعفه للغاية.

ليس ذلك مقصوراً على النزعة السياسية لهذا الحزب الحاكم فحسب، بل أن تحولات «تحديثية» في الحياة العامة والاقتصاد والتعليم والتنمية البشرية، حولت تركيا إلى دولة عصرية بكافة تلك المعايير، يُعتبر الاستقرار السياسي والسلام المجتمعي بها رأسمالاً وقيمة مضافة جذرية، لا يمكن التفريط بهما بأية سهولة. شيء يمكن اختصاره بموازنة القوة الناعمة للدولة والمجتمع التركية لنظيرتها من القوة العسكرية القاسية، في المسألتين الداخلية والإقليمية على حد سواء.في مشهد متباين مع ما كانت تعيشه تركيا طوال العقود الطويلة للحرب البادرة، حينما كانت دولة شبه عسكرية، متحالفة مع دول المعسكر الأميركي، يخوض عسكرها وقوميوها حرباً شعواء ضد قطاعات واسعة من المجتمع التركي، كالأكراد واليساريين والإسلاميين، وضد بعض الدول الإقليمية في الصراع العالمي الكلي، غير مبالين بالاستقرار المجتمعي والحياة السياسية الصحية، فالمعسكر الأميركي لا الاستقرار الداخلي كان ضمانة تركيا الأولى. تغير ذلك الملمح التركي تماماً في أواخر الثمانينات، فرئيس الوزراء ومن ثم رئيس الجمهورية وقتئذ توركوت أوزال، حين أعاد هيكلة الاقتصاد التركي في شكل كلي، وفتح البلاد للبرلة الاقتصادية وموجات الاستثمارات الضخمة ومساهمة رجال الأعمال في الحياة العامة والسياسية، فانه بذلك غير من هوية تركيا السياسية أيضاً، وفتح الباب لمناقشة المسائل الكردية والعلوية واليسارية، وغيّر جذرياً من دور وقيمة الاستقرار بالنسبة لعموم المواطنين الأتراك. صحيح أن ذلك التحول تعرض لمنغصات في أواسط التسعينات، أثناء أزمات الحكومات الائتلافية العديدة، لكنه بات فاعلاً مركزياً في الحياة التركية، وأهم حسابات مواطنيها ونُخبها الحاكمة والاقتصادية، وهوية تركيا السياسية الجوهرية.

راهناً تتعرض تركيا لكثير من «الاستفزازات» والمماحكات السياسية التي تجبرها على التفاعل المباشر معها، لكنها بالمقابل ما زالت تحافظ على مستوى عال من «ضبط النفس» لأنها تدرك أن ثلاث ديناميات جوهرية للاستقرار يمكن أن تنهار بسهولة إذا فعلت غير «ضبط النفس» العالي الذي تُخضع نفسها له. أولى تلك الديناميات مرتبطة بطبيعة اقتصادها الناعم، وهو المعتمد بثلثيه على عائدات السياحة والتجارة الوسائطية والصناعات المتوسطة والخدمات، فأي عدم استقرار سيؤثر في كل ذلك، وسينكص الثقة الائتمانية وتدفق الاستثمارات والحياة السياحية التركية. وهي الدولة التي سعت بسياسات منهجية لأكثر من ثُلث قرن لتطاول هذا المستوى الراهن، حيث يحتل اقتصادها المرتبة السابعة عشرة على مستوى العالم، من دون أية موارد باطنية ذات قيمة استراتيجية. على مستوى آخر، فإن تركيا تدرك أن سلامها الاجتماعي الداخلي هش للغاية من حيث المبدأ، سواء بين الحركتين القوميتين الكردية والتركية، أو في العلاقة بين المحافظين الإسلاميين والمحافظين العلويين. وأن دخول تركيا في مغامرات وسياسيات غير محسوبة في هذه المنطقة الإقليمية المركبة على حسابات وحساسيات ثقافية ومجتمعية بالغة الدقة والتداخل، أن ذلك سيعرض هذا السلام الداخلي لمزيد من الهشاشة وربما الاندلاع. وهو شأن يبدو جلياً من خلال التحذيرات التي صدرت من حزب العمال الكردستاني وأحزاب المعارضة التركية على حد سواء من تداعيات أية «مغامرة» تركية عسكرية في سورية.

على أن أكثر ما يثير حفيظة تركيا السياسية هو رغبتها الجمة في المحافظة على القليل من علاقتها الاستراتيجية الدولية والإقليمية، وهي التي تنهار بالتقادم خلال السنوات الخمس الأخيرة. كنتيجة للتقارب الأميركي الإيراني من طرف وصعود الهيمنة الإيرانية في كامل الإقليم، ولخفوت وهج الحركة الإسلامية في كامل المنطقة ودورها، هذه الأخيرة التي كانت أنقرة تعتبرها «حصانها» السياسي الموازي للعلاقات الإيرانية مع القوى الطائفية في دول المنطقة.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

مشروع حلف سعودي تركي مع الأسد/ عبد الرحمن الراشد

ما قاله وزير خارجية سوريا صحيح، ردًا على اقتراح الرئيس الروسي قبل أسبوع. قال وليد المعلم: «أعرف أن روسيا بلد يصنع المعجزات لكن أن نتحالف مع السعودية وتركيا وقطر والولايات المتحدة فهذا أمر يتطلب معجزة كبيرة جدًا».

أيضًا، أرى أن الرئيس فلاديمير بوتين على حق، في أن هذا الحلف وحده قادر على دحر «داعش»، إلا من جزئية واحدة، وهي أن إشراك النظام السوري كما هو اليوم سيفشل المشروع. وبإمكان روسيا أن تصنع معجزة كبيرة لو دفعت باتجاه نظام سوري من دون الأسد، وفق مؤتمر جنيف الأول حول سوريا، وبناء تحالف معه يضم دول الخليج مع تركيا والأردن لمحاربة «داعش». بمثل هذا التكتل متأكد أنه قادر على القضاء على الإرهاب، وتأمين استقرار سوريا، وسلامة المنطقة والعالم.

المشكلة في المشروع الروسي، وكما عبر عنه الرئيس بوتين، التهوين من الخلاف مع الأسد. يرى بأن الحرب في سوريا مجرد سوء فهم بين الجيران، وأنه يمكنهم التصالح والتعاون من أجل محاربة الإرهاب العالمي، أي «داعش». وقد حدد بوتين الدول المعنية بالحلف هي السعودية وتركيا والأردن.

والعلة ليست في الفكرة بل في قائمة الدول المطلوب منها الانخراط في التحالف.

والمسألة ليست سوء فهم، فنحن نعرف بعضنا جيدًا، وقد تحملنا النظام السوري حتى عندما قتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وعشرين زعيمًا لبنانيًا آخرين، في العقد الماضي، لكنه عندما قتل أكثر من ربع مليون سوري وشرد تسعة ملايين آخرين خلال السنوات الأربع الماضية، تهشمت العلاقة ولم يعد ممكنًا إصلاح الزجاج المكسور. وأصبحت المصالحة ليست مهمة صعبة بل مستحيلة، وستزيد من القلاقل في المنطقة ولا تطفئ نار «داعش».

الأمر الثاني، وبعيدًا عن الضغائن، علينا أن نفهم المتغيرات الجيوسياسية الحاصلة. نحن أمام منطقة تتشكل خريطتها، حيث ترضخ واشنطن للواقع الجديد الذي تفرضه إيران، بمشروعها النووي ومد هيمنتها جغرافيًا على سوريا والعراق. هذا التمدد يهدد وجود دول الخليج وتركيا والأردن، ويخل بتوازن القوة القائم منذ نصف قرن مع مصر بشكل خطير للغاية. والإيرانيون اليوم يديرون نظامي بلدين كبيرين، العراقي والسوري، وعندما تتحالف تركيا والأردن والسعودية مع الأسد يكون فيه اعتراف بهيمنة إيران على سوريا! من الخطر على دول مثل الخليج وتركيا أن تتجاهل الزحف الإيراني وتختصر المشكلة في زاوية واحدة، هي الإرهاب وتنظيم داعش تحديدًا. خطر إيران علينا أعظم من «داعش»، هذه حقيقة لا بد أن توضع في الحسبان دائمًا.

ومع أن مشروع التحالف الإقليمي (الأسدي السعودي التركي الأردني) الذي اقترحه الروس جيد من حيث اختيار الدول القادرة على مواجهة «داعش»؛ السنة المعتدلون ضد السنة المتطرفين، لكنه بإشراك الأسد تفسد المعادلة الدينية السياسية.

والحقيقة أن ما يقترحه الرئيس الروسي أكثر منطقية مما يطرحه المسؤولون الأميركيون الذين أظهروا أنهم لا يميزون بين الطوائف، ولا يفهمون التاريخ المعقد للمنطقة. بوتين يطلب من السنة محاربة السنة، يطلب من الدول «السنية»، مثل السعودية وتركيا والأردن، محاربة «داعش»، الجماعة السنية الإرهابية. أما الأميركيون فيستنجدون بالإيرانيين، متطرفي الشيعة، لمحاربة متطرفي السنة، وهذا خطأ مريع؛ لأن ذلك سيعزز قوة «داعش» وليس العكس، حيث سيهب السنة من أنحاء العالم لدعم أبناء مذهبهم، والسنة هم الأغلبية الساحقة من المسلمين، أي أن الخطر سيتضاعف.

خطأ كبير استعانة الأميركيين بالإيرانيين، لأنه لن يمكنهم من القضاء على الإرهاب الديني في المنطقة وسينفخ النار فيه. فكل مفهوم تنظيمي «القاعدة» و«داعش» قائم على صراع تاريخي مذهبي يقوده أناس متطرفون، يشبه حروب الثلاثين عامًا بين البروتستانت والكاثوليك في وسط أوروبا في القرن السابع عشر التي جلبت الدمار والمجاعة والأوبئة والإفلاس. لقد نجحت السعودية في دحر تنظيم القاعدة في العقد الماضي بعد حرب دامية، وكذلك نجح الأميركيون في هزيمة «القاعدة» وزعيمها الزرقاوي، فقط بعد أن استعانوا بالعشائر السنية. ومحاربة «داعش»، والتطرّف الديني، قد يطول أو يقصر، قد يستغرق عشرين سنة، وهو عمر الحرب مع تنظيم القاعدة منذ عام 1996، وقد يستغرق ثلاث سنوات، فالأمر يعتمد على من يحارب الإرهاب، سواء كان نظام الأسد ونظام المرشد في إيران أو كانت تركيا مع السعودية والأردن!

الشرق الأوسط

 

 

 

 

حدود التدخل العسكري التركي في سورية/ حسين عبد العزيز

تشهد أنقرة جدالاً واسعاً وعميقاً في شأن العملية العسكرية التي تنوي الحكومة التركية تنفيذها في شمال سورية للحيلولة من دون تشكل كيان كردي مستقل وقوي على حدودها الجنوبية على غرار ما جرى في العراق مع إقليم كردستان.

وإذا كانت أنقرة لا تملك القدرة على تغيير الواقع في شمال العراق آنذاك لاختلاف الوضع الجغرافي من جهة وقوة الحضور الأميركي من جهة ثانية، فإنها اليوم تمتلك قدرة التدخل وتغيير الوقائع في سورية، بعدما أصبح الأكراد قوة واضحة في الشمال السوري إثر سيطرتهم على مدينة تل أبيض التي تشكل جسراً بين عين عرب (كوباني) في الشمال الشرقي وبين عفرين في الشمال الغربي لسورية.

تكمن المخاوف القومية العليا لتركيا في أن مثل هذا الكيان إن استقر في شمال سورية قد يتحول إلى منطقة عمق استراتيجي للأكراد في جنوب تركيا تكون بمثابة الخزان البشري والإمداد العسكري لأي تحركات مستقبلية لأكراد تركيا، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أن المشروع الكردي في سورية يتم تحت إشراف «الاتحاد الديموقراطي»، وهو الفرع السوري لـ «حزب العمال الكردستاني».

ومن هنا فإن أنقرة لن تقبل بقيام مثل هذا الكيان الذي يبدو مقبولاً من قبل واشنطن ودمشق معاً، وهو ما عبّر عنه صراحة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حين أكد أن بلاده لن تسمح بقيام دولة كردية.

غير أن العملية العسكرية التركية ليست يسيرة، بل تتطلب إمكانات عسكرية كبيرة في أرض تتجاذبها قوى عسكرية متباينة وتداخلات إقليمية ودولية كثيرة، بحيث يمكن أن يتحول التدخل العسكري التركي إلى كابوس يغرقها في المستنقع السوري وتصبح في مواجهة، ليس فقط مع فرقاء إقليميين، بل أيضاً مع حلفاء دوليين مثل الولايات المتحدة التي تتبنى أجندة سياسية في سورية مغايرة تماماً للأجندة التركية.

هذا الواقع المعقد عبّر عنه رئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو قبل أيام حين قال إن حكومته لن تزج بتركيا إلى مغامرة غير محسوبة.

الولايات المتحدة تضع نصب عينيها في المقام الأول محاربة «داعش» مع ما تطلبه الأمر من عقد تحالفات تتعارض مع حلفائها في المنطقة مثل أنقرة والرياض، ولذلك قدمت واشنطن دعماً عسكرياً ملحوظاً خلال الفترة الماضية لحزب «الاتحاد الديموقراطي». وبدا الأمر واضحاً من خلال طبيعة الغارات الجوية التي شنها التحالف الدولي، إذ بيّنت الاحصاءات أن نحو 1200 غارة من أصل 1800 غارة خلال الشهور العشرة الماضية كانت خدمة لـ «الاتحاد الديموقراطي» لتمكينه على الأرض، وكأن واشنطن تعاقب أنقرة لرفضها الانضمام إلى التحالف الدولي.

وعليه فإن أي عملية عسكرية ضد الأكراد أو إقامة منطقة عازلة من شأنها أن تؤثر سلباً على محاربة «داعش»، وتضع أنقرة في مواجهة مباشرة مع واشنطن، وربما يفهم تصريح الخارجية الأميركية بأن واشنطن ليست لديها أدلة على عزم تركيا إقامة منطقة عازلة، على أنه رفض أميركي لإنشاء منطقة عازلة، وليس رفضاً لمبدأ التدخل العسكري.

يمكن أن تقبل واشنطن دخولاً عسكرياً تركياً في شمال سورية ومنع تشكل كيان كردي، شرط أن يخدم هذا التدخل في النهاية أهداف التحالف الدولي في محاربة «داعش»، بعدما توصلت واشنطن إلى قناعة بأن حسم المعركة مع التنظيم لا يمكن أن يتحقق من دون تدخل عسكري بري من تركيا أو السماح لقوات برية دولية بالانطلاق من الأراضي التركية.

لكن المشكلة تكمن في أن أنقرة ليست بصدد فتح جبهتين في سورية مع الأكراد من جهة و «داعش» من جهة ثانية، فمثل هذه المعركة ستكون ذات كلفة كبيرة، ناهيك عن استغلال النظام السوري لمثل هذا التدخل وإطلاقه صورايخ ضد الجيش التركي لأجل خلط الأوراق.

لذلك تبدو الأمور متجهة نحو تدخل عسكري محدود يحقق الأهداف المرجوة من دون الدخول في معارك واسعة في سورية للأسباب التالية:

1 – تدخل عسكري بعمق جغرافي محدود يسمح لتركيا بخلق كانتونات عسكرية تركية صغيرة تقطع أوصال الكيان الكردي القائم وتحول دون مواجهة مباشرة ومفتوحة معهم، ومدينة جرابلس ومنطقة عفرين أفضل موقعين لمثل هذه العملية.

2 – الحيلولة دون إثارة الأكراد في تركيا وإمكان تهديد عملية السلام بين الطرفين مع تحول الأكراد إلى قوة سياسة عبرت عن نفسها في الانتخابات الأخيرة في «حزب الشعوب الديموقراطي».

3 – رفض المؤسسة العسكرية التركية الانخراط في الصراع السوري مباشرة من دون توافر غطاء دولي من الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، وهو ما طالب به قائد هيئة الأركان التركية الجنرال نجدت أوزال.

4 – رفض الأحزاب التركية المعارضة مثل «حزب الشعب» هذه العملية، خصوصاً أنها تأتي في مرحلة التشاور لتشكيل حكومة ائتلافية، ما يمكن أن يؤثر سلباً على هذه المشاورات، فضلاً عن أن أية عملية بهذا الوزن تتعارض مع البروتوكول السياسي الذي يحول دون القيام بخطوات استراتيجية أثناء حكومات تصريف الأعمال.

5 – نسبة نجاح مثل هذه العملية العسكرية المحدودة ستكون عالية، وبالتالي ستلقى دعماً من قبل الأتراك خارج المكون الكردي، بحيث يمكن استثمارها انتخابياً في حال قرر حزب «العدالة والتنمية» التوجه إلى انتخابات مبكرة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى